(صفحه40)
لاستحقاق العقوبة هو الطغيان على المولى والجرأة عليه، وهذه جهة مشتركةبين العاصي والمتجرّي، بلا فرق بينهما حتّى في الشدّة والضعف والنقصوالكمال، فكما أنّ العاصي يكون طاغياً على المولى وخارجاً عن رسمالعبوديّة، كذلك المتجرّي يكون طاغياً عليه، فلا مجال لتعدّد العقوبة فيالمعصية.
ولكن بعد مراجعة الوجدان يتّضح كمال الفرق بين العاصي والمتجرّي كمذكرناه، وهذا يقتضي عدم تحقّق العقوبة في التجري أو تعدّدها في المعصية.
وقال صاحب الفصول قدسسره (1) بتداخل العقابين في المعصية.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (2) بأنّه إن اُريد بتداخل العقابينوحدة العقاب فلا وجه له، مع كون التجرّي عنواناً مستقلاًّ في استحقاقالعقاب؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح.
وإن اُريد عقاب زائد على عقاب محض التجرّي فهذا ليس تداخلاً؛ لأنّ كلّفعل اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد على ما كان فيه أحدهما.
والتحقيق في المسألة: أنّ التجرّي بالمعنى الاصطلاحي لا يكون قابلللاجتماع مع المعصية؛ إذ العمل الخارجي إمّا يكون تجرّياً، وإمّا يكون معصية،فينتفي موضوع مسألة التداخل، ولا تصل النوبة إلى البحث من أنّ المقصودمن التداخل ما هو، فعلى فرض مناطيّة الطغيان لاستحقاق العقوبة يكونلكليهما عنوانان مستقلاّن للعقاب، ولايمكن اجتماعهما في مورد، فلا مجال لهذالبحث، من دون فرق بين القول باستحقاق العقوبة في باب التجرّي وعدمه.
ولا وجه لكون الفعل المتجرّى به موجباً لاستحقاق العقوبة؛ إذ لا قبح فيه،
(صفحه 41)
والاعتقاد المخالف للواقع لا يوجب تبديل عنوان حسنه بعنوان القبح؛ لعدمتأثير جهل المكلّف وخطأه الاعتقادي في الواقعيّة الخارجيّة عقلاً، ولا نرىوقوع مقطوع الخمريّة منهيّ عنه في الأدلّة، وبالتالي لا يكون حراماً، فلا دليلعلى استحقاق العقوبة في الفعل المتجرّى به بعد ما لم يكن قبيحاً ولا محرّماً.
ولكن ذكر صاحب الكفاية قدسسره (1) دليلاً آخر لعدم القبح والحرمة واستحقاقالعقوبة فيه، وهو: أنّ الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع الحرمة لايكوناختياريّاً، فإنّ القاطع لا يقصده إلاّ بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعيالاستقلالي ـ كعنوان الخمريّة ـ لا بعنوانه الطارئ الآلي ـ أي عنوان مقطوعالخمريّة ـ بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون منجهات الحُسن أو القبح عقلاً ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً معكونه مغفولاً عنه؟! ولا يكاد تكون صفة موجبة لذلك إلاّ إذا كانت اختياريّة.
ثمّ ذكر في ذيل كلامه بعد القول بعدم إراديّة الإرادة وذاتيّة الكفر والعصيانوعدم اختياريّة السعادة والشقاوة، أنّه لم يصدر من المتجرّي فعل اختياري،فإنّ ما أراده من شرب الخمر لم يتحقّق في الخارج، وما تحقّق فيه من شربالماء لم يكن مقصوداً له.
ونصّ كلامه أنّه: بل عدم صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار ـ كمفي التجرّي ـ بارتكاب ما قطع أنّه من مصاديق الحرام، فلا معنى للحكم بقبحالفعل المتجرّى به، أو حرمته أو استحقاق العقوبة عليه.
ولكن لاشكّ في بطلان هذا الكلام؛ إذ الوجدان حاكم بأنّه ليس كالمكره؛لصدور شرب المائع عنه عن اختيار، وإن لم يصدر شرب الماء منه اختياراً،ولازم كلامه قدسسره عدم بطلان الصوم من شرب مقطوع الخمريّة إذا كان في الواقع
- (1) حاشية الرسائل: 13، كفاية الاُصول 2: 14 ـ 16.
(صفحه42)
ماءً؛ لعدم صدور أيّ فعلٍ اختياري منه، وهذا ليس قابلاً للالتزام، فلايصحّهذا الاستدلال.
والحاصل: أنّه لا يتحقّق في الفعل المتجرّى به جهة مقبّحة، ولا يدلّ دليلعلى حرمته الشرعيّة، ولا محالة تنتفي مسألة استحقاق العقوبة.
إلى هنا تمّ البحث في باب التجرّي، وجميع ما ذكرناه فيه يجري في بابالانقياد أيضاً، طابق النعل بالنعل.
(صفحه 43)
الإرادة اختياريّة أم لا؟
الإرادة اختياريّة أم لا؟
ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدسسره (1) قد تعرّض لمسألة الإرادة وعدم إراديّتها، ولابدّلنا من ذكرها إجمالاً، ونقول: الكلام هنا يقع في مسائل:
الاُولى: أنّه تتحقّق هنا قاعدة كلّية، وهي: أنّ كلّ فعلٍ اختياريّ ـ سواءكان من الأفعال الجوارحيّة أم الجوانحيّة ـ لابدّ وأن يكون مسبوقاً بالإرادةوالاختيار.
ثمّ وقع البحث في نفس الإرادة من حيث كونها اختياريّة أم لا، والالتزامبعدم اختياريّتها مستلزم لعدم اختياريّة أساس جميع الأفعال الاختياريّة،فلامجال لترتّب الآثار من الثواب والعقاب عليها؛ إذ كيف يمكن تعلّق التكليفبما كان أساسه اضطراريّاً، فلا يمكن القول بعدم اختياريّة الإرادة.
وإن قلنا باختياريّتها فتحتاج إلى إرادة اُخرى؛ إذ لابدّ في كلّ فعلاختياري أن يكون مسبوقاً بالإرادة، وينقل الكلام إلى الإرادة الثانية، وهي إنكانت اختياريّة تحتاج إلى إرادة اُخرى للقاعدة المذكورة، فإن كانت هذهالإرادة هي الاُولى لزم الدور، وإن كانت إرادة ثالثة فيلزم التسلسل إلى ما لنهاية، بعد عدم إمكان الالتزام باضطراريّة الإرادة الثانية كالاُولى؛ إذ لا يبقىمجال لاستحقاق العقوبة على المخالفة واستحقاق المثوبة على الموافقة.
(صفحه44)
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1) في مقام الجواب عنه: إنّ الاختيار وإن لم يكنبالاختيار إلاّ أنّ بعض مبادئه غالباً يكون وجوده بالاختيار؛ للتمكّن منعدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللّوم والمذمّة.
ويستفاد من ذيل كلامه قدسسره أنّ المراد من بعض المبادئ الذي يكون غالببالاختيار هو العزم وما بعده، وأنّ المبادئ التي تتحقّق قبله ـ مثل: تصوّرالمراد والتصديق بفائدته والميل النفساني والرغبة إليه ـ تكون غير اختياريّة،بخلاف العزم والشوق المؤكّد وتحريك العضلات نحو المراد؛ إذ يمكن للإنسانبعد تحقّق المقدّمات ترك المراد لترتّب العواقب والمفاسد عليه.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ لازم هذا البيان التفصيل بين صورة الغالب وغيرالغالب، وأنّ التكليف وآثاره لا يتحقّق في صورة غير الغالب، وهذا ممّا ليكون قابلاً للالتزام، ولم يلتزم به أحد.
وثانياً: ما معنى اختياريّة العزم وما بعده؟ إن كانت بمعنى المسبوقيّة بإرادةاُخرى فننقل الكلام إليها، ويعود إشكال الدور والتسلسل بعينه.
وإن قلت: لا يلزم في العزم وما بعده المسبوقيّة بالإرادة.
قلنا: ما الدليل لنقض القاعدة المذكورة هنا، ولذا لا يندفع الإشكال بهذالبيان.
وأجاب المرحوم صدر المتألّهين عن الإشكال في كتاب الأسفار بمحاصله: أنّ الوجدان حاكم بالفرق بين الأفعال الصادرة عن الإنسانبالاختيار ـ مثل: حركة اليد الناشئة عن الإرادة ـ والأفعال الصادرة عنهمن غير اختيار، مثل: حركة يد الإنسان المبتلى بمرض الارتعاش، فإن لاحظنالأفعال الاختياريّة بنظر العرف والعقلاء يصحّ تعلّق التكليف بها وجعل