(صفحه432)
الأكثر، إلاّ أنّه لا يرتفع بالأصل الجاري في السبب بعد عدم كون المسبّبمن الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه، فكما أنّه يجري الأصل في السبب يجريفي المسبّب أيضا، وحينئذ فيقع التعارض بين الأصل الجاري فيهما والجاريفي الأقلّ.
نعم، لو قلنا بكون وجوب المقدّمة من الآثار الشرعيّة المترتّبة على وجوبذيها لكان الأصل الجاري في السبب معارضا بالأصل الجاري في الأقلّ، ويبقىالأصل الجاري في المسبّب سليما عن المعارض، ولكن هذا بمكان من البطلان؛لأن مسألة وجوب المقدّمة مسألة عقليّة، كما هو المسلّم بينهم.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه بناءً على عدم انحلال العلم الإجمالي لاتجريأصالة البراءة بالنسبة إلى الأكثر، لا في وجوبه النفسي المتعلّق به، ولا فيجزئيّة الجزء المشكوك، ولا في الوجوب الغيري المتعلّق به.
وهذا لا فرق فيه بين أن نقول باقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقةالقطعيّة وبين أن نقول بكونه علّة تامّة له، فالتفكيك بين البراءة الشرعيّةوالعقليّة ممّا لا وجه له أصلاً.
ثمّ إنّ المحقّق العراقي المفصّل بين القول بالاقتضاء والعلّيّة أفاد في وجه عدمجريان الأصل النافي ـ بناءً على العلّيّة ولو في بعض أطرافه بلا معارض ـ أنّهبعد انتهاء الأمر إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط ولزوم تحصيل الجزمبالفراغ ولو جعليّا ـ أي جعل الشارع شيئا موجبا لفراغ الذّمّة وبراءة الذمّة لا مجال لجريان الاُصول النافية ولو في فرض كونها بلا معارض، إلاّ علىفرض اقتضاء جريانها لإثبات أن الواجب الفعلي هو الأقلّ ولو ظاهرا، كيببركة إثباته ذلك يكون الإتيان به فراغا جعليّا عمّا ثبت في العهدة، وهو أيضفي محلّ منع؛ لمنع اقتضاء مجرّد نفي وجوب الأكثر والخصوصيّة الزائدة لإثبات
(صفحه 433)
هذه الجهة إلاّ على القول بالمثبت الذي لا نقول به.
نعم، قد يتوهّم تكفّل مثل حديث الرفع لإثبات ذلك بأنّ الحديث ناظر إلىإطلاقات أدلّة الجزئيّة واقعا بتقييد مفاد فعليّتها بحال العلم بها، وأنّه برفعفعليّة التكليف عن المشكوك واقعا مع ضميمة ظهور بقية الأجزاء في الفعليّةيرتفع الإجمال من البين، ويتعيّن كون متعلّق التكليف الفعلي هو الأقلّ،وبالإتيان به يتحقّق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف.
وأجاب عن هذا التقريب بما ملخّصه: منع صلاحيّة حديث الرفع لأنيكون ناظرا إلى نفي فعليّة التكليف عن المشكوك واقعا؛ إذ مفاد الرفع فيه إنّمهو مجرّد الرفع الظاهري الثابت في المرتبة المتأخّرة عن الجهل بالواقع، ومثلهغير صالح لتقييد إطلاق الجزئيّة الواقعيّة المحفوظة حتّى بمرتبة فعليّتها فيالمرتبة السابقة عن تعلّق الجهل بها؛ لاستحالة ورود الرفع في ظرف الجهلبشيء على الشيء الملحوظ كونه في المرتبة السابقة على الجهل بنفسه، ولأنّرفع كلّ شيء عبارة عن نقيضه وبديله، فلا يمكن أن يكون الرفع في هذهالمرتبة نقيضا لما هو في المرتبة السابقة؛ لأنّ وحدة الرتبة بين النقيضين منالوحدات الثمان التي تعتبر في التناقض والتضادّ.
وحينئذ فلو كانت مقتضيات الفعليّة في المرتبة السابقة على الجهل متحقّقةلايكاد يصلح مثل هذا الحديث للمانعيّة عنها، ومعه يبقى العلم الإجمالي علىحاله.
وتوهّم: أنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي، إلاّ أنّالحكم الواقعي ولو بنتيجة الإطلاق يكون في مرتبة الحكم الظاهري، وبذلكأمكن تعلّق الرفع في تلك المرتبة بفعليّة الحكم الواقعي.
مدفوع، بأنّه مع الاعتراف بكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي
(صفحه434)
كيف يمكن توهّم كون الحكم الواقعي في عرض الحكم الظاهري وفي مرتبته؟نعم، الحكم الواقعي يجتمع مع الحكم الظاهري زمانا، ولكنّه لايقتضياجتماعهما رتبة(1). إنتهى.
ولا إشكال في عدم تماميّة هذا الجواب؛ لأنّه يرد عليه: أوّلاً: أنّ كون الجهلبشيء والشكّ فيه متأخّرا عن نفس ذلك الشيء ممنوع، وإلاّ لزم انقلابه علما،مع أنّه خلاف الوجدان، فإنّا نشكّ كثيرا مّا في شيء مع أنّه لا واقعيّة له،وهكذا العلم بشيء يكون مخالفا للواقع، فكما أنّ العلم لايتوقّف على الواقعيّة،وكذا الجهل والشكّ لايتوقّفان عليها.
وثانياً: أنّ معنى الإطلاق ليس هو لحاظ السريان والشمول حتّى يقتصرفيه على الحالات التي كانت في عرض الواقع من حيث الرتبة ـ أي الإيمانوالكفر في مثل: «اعتق رقبة» لا العلم والجهل ـ بل هو عبارة عن مجرّد عدمأخذ القيد في نفس الحكم أو متعلّقه مع كونه بصدد البيان، وحينئذ فلا مانعمن شمول إطلاق الواقع لمرتبة الجهل به، فلا استحالة في ورود الرفع في ظرفالجهل على الواقع الشامل لمرتبة الجهل أيضا.
ومن هنا يظهر: أنّ الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهريومحفوظا معه، كما تقدّم تحقيقه في مبحث اجتماع الحكم الظاهري مع الواقعي.
هذا تمام الكلام فيما لو كان الأقلّ والأكثر من قبيل الأجزاء.
- (1) نهاية الأفكار 3: 390 ـ 392.
(صفحه 435)
المطلب الثاني: فيما لو كان الأقلّ والأكثر من قبيل
المطلق والمشروط، أو الجنس والنوع، أو الطبيعي والفرد
كما إذا دار الأمر بين كون الواجب مطلق الصلاة أو هي مشروطة بالطهارةمثلاً، أو دار الأمر بين وجوب إطعام مطلق الحيوان أو الإنسان، أو وجوبإكرام الإنسان أو خصوص زيد، ففي جريان البراءة العقليّة مطلقا أو عدمهكذلك، أو التفصيل بين المطلق والمشروط وغيره بالجريان في الأوّل دونغيره، وجوه، بل أقوال.
وليعلم أنّ الشرط قد يكون متّحدا مع المشروط في الوجود الخارجي،كالإيمان في الرقبة، وقد يكون مغايرا معه في الوجود كالطهارة بالنسبة إلىالصلاة، ولا فرق بينهما في المقام.
وكيف كان، فذهب المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية إلى عدم جريان البراءةالعقليّة هنا مطلقا، وأنّه أظهر من عدم الجريان في الأقلّ والأكثر في الأجزاء.
قال في وجهه ما نصّه: «فإنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر لايكاديتوهّم ههنا، بداهة أنّ الأجزاء التحليليّة لاتكاد تتّصف باللزوم من بابالمقدّمة عقلاً، فالصلاة ـ مثلاً ـ في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة موجودةبعين وجودها وفي ضمن صلاة اُخرى فاقدة لشرطها أو خصوصيّتها تكون
(صفحه436)
متباينة للمأمور بها، كما لا يخفى»(1). إنتهى.
وتوضيح عدم جريان البراءة في المقام يتوقّف على بيان مقدّمتين:
الاُولى: أنّه لابدّ في الانحلال الموجب لجريان البراءة في المشكوك أن يرجعالعلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشكّ البدوي في الآخر،وبعبارة اُخرى: كان في البين قدر متيقّن تفصيلاً ووقع الشكّ في الزائد علىذلك المقدار؛ ضرورة أنّ بدون ذلك لا وجه للانحلال.
الثانية: أنّ الطبيعي في المتواطيات يتحصّص إلى حصص متعدّدة وآباءكذلك بعدد الأفراد، بحيث كان المتحقّق في ضمن كلّ فرد حصّة وأب خاصّمن الطبيعي المطلق غيرالحصّة والأب المتحقّق في ضمن فرد آخر، كالحيوانيّةالموجودة في ضمن الإنسان بالإضافة إلى الحيوانيّة الموجودة في ضمن نوعآخر كالبقر والغنم، وكالإنسانيّة المتحقّقة في ضمن زيد بالقياس إلى الإنسانيّةالمتحقّقة في ضمن بكر وخالد. فلا محالة في مفروض المقام لايكاد يكونالطبيعي المطلق بما هو جامع الحصص والآباء القابل للانطباق على حصّةاُخرى محفوظا في ضمن زيد؛ لأنّ ما هو محفوظ في ضمنه إنّما هي الحصّةالخاصّة من الطبيعي، ومع تغاير هذه الحصّة مع الحصّة الاُخرى المحفوظة فيضمن فرد آخر كيف يمكن دعوى اندراج البحث في الأقلّ والأكثر ولو بحسبالتحليل؟
بل المراد في مثل المقام ينتهي إلى العلم الإجمالي بتعلّق التكليف إمّبخصوص حصّة خاصّة، أو بجامع الحصص والطبيعي على الإطلاق، بما هوقابل للانطباق على حصّة اُخرى غيرها، فيرجع الأمر إلى الدوران بينالمتباينين، فيجب فيه الاحتياط بإطعام خصوص زيد مثلاً.
- (1) كفاية الاُصول 2: 238.