(صفحه466)
وأمّا الجواب الثاني فيرد عليه؛ أوّلاً: ما عرفت سابقا من أنّه لا فرق فيملوكان المخصّص عقليّا بين كون ذلك الحكم العقلي من العقليّات الضروريّة، أومن العقليّات التي لاينتقل الذهن إليها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل في المبادئالموجبة له، فإنّ في كلتا الصورتين يكون المخصّص كالقرينة المختصّة بالكلاممانعا من انعقاد الظهور.
وثانياً: أنّه لو سلّم ذلك في العقليّات الغير الضروريّة وأنّها من قبيل القرائنالمنفصلة المانعة من حجّيّة الظهور لا من أصله، فنقول: إنّ ما ذكره منالتفصيل بين حجّيّة ظهور الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفىوبين حجّيّتها فيه بالنسبة إلى الحكم الوضعي إذا كان منتزعا من الحكمالتكليفي وتابعا له يكون في السعة والضيق مثله، ولا يمكن أن يكون الحكمالتكليفي مختصّا بحال الذكر، والحكم الوضعي المستفاد منه مطلقا وشاملاً لحالالذكر وعدمه؛ إذ ليس الظهوران ـ وهما الظهور في الإطلاق بالنسبة إلى الحكمالتكليفي، والظهور فيه بالنسبة إلى الحكم الوضعي ـ في عرض واحد حتّىلايكون رفع اليد عن أحدهما مستلزما لرفع اليد عن الآخر، بل الظهور الثانيفي طول الظهور الأوّل، ولا مجال لحجّيّته مع رفع اليد عنه.
وأمّا الجواب الثالث فيرد عليه: أنّ استفادة الملاك والمصلحة إنّما هوبملاحظة تعلّق الأمر، بناءً على ما ذكره العدليّة من أنّ الأوامر الواقعيّة تابعةللمصالح النفس الأمرية، وإلاّ فمع قطع النظر عن تعلّق الأمر لا سبيل لنا إلىاستفادة المصلحة أصلاً.
وحينئذ فنقول: بعدما ثبت كون إطلاق الهيئة مقيّدا بحال الذكرلا مجال لاستفادة الملاك والمصلحة مطلقا حتّى في غير حال الذكر، وتعلّقالأمر بالسجود ـ مثلاً ـ إنّما يكشف عن كونه ذا مصلحة بالمقدار الذي
(صفحه 467)
ثبت كونه مأمورا به، ولا مجال لاستفادة كونه ذا مصلحة حتّى إذا لم يكنمأمورا به، كما في حال النسيان على ما هو المفروض بعد كون هذه الاستفادةمبتنية على مذهب العدليّة، وهو لايقتضي ذلك إلاّ في موارد ثبوت الأمر،كما هو واضح.
فالإنصاف أنّ هذا الجواب كسابقيه ممّا لايدفع به الإيراد ولا ينهضللجواب عن القول بالتفصيل، بل لا محيص عن هذا القول بناءً على مذهبهممن انحلال الخطابات الكلّيّة بعدد المكلّفين وعدم إمكان كون الناسي مكلّفا؛لعدم شمول إطلاق الهيئة له، وأمّا بناءً على ما حقّقناه تبعا لاُستاذنا السيّدالإمام رحمهالله من عدم انحلال الخطابات حسب تعدّد المخاطبين، فلا مانع من كونهمكلّفا كالجاهل وغير القادر وغيرهما من المكلّفين المعذورين، وحينئذ فليبقى فرق بين كون الأدلّة المتضمّنة لبيان الأجزاء بلسان الوضع أو بلسانالأمر، كما لا يخفى.
فيستفاد من الدليل إطلاق الجزئيّة ولا تصل النوبة إلى الأصل الموافق أوالمخالف.
المقام الثاني: فيما يقتضيه الأصل الشرعي في النقيصية السهويّة
اعلم أنّ مورد البحث في هذا المقام ما إذا كان للدليل المثبت للجزئيّة إطلاقيشمل حال النسيان أيضا، بحث لو لم يكن مثل حديث الرفع(1) في البين لكنّنحكم بعدم الاكتفاء بالمركّب الناقص المأتي به في حال النسيان؛ لكونه فاقدللجزء المعتبر فيه مطلقا، غاية الأمر أنّ محلّ البحث هنا: أنّه هل يمكن تقييدإطلاقات أدلّة الأجزاء بمثل حديث الرفع المشتمل على رفع النسيان حتّى
- (1) وسائل الشيعة 15: 369، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
(صفحه468)
يكون مقتضاه اختصاص الجزئيّة بحال الذكر وكون المركّب الناقص مصداقللمأمور به أم لا؟ ولا يخفى أنّه لابدّ في إثبات أجزاء المركّب الناقص أوّلاً منالالتزام بكون حديث الرفع قابلاً لتقييد إطلاقات أدلّة الأجزاء، وثانيا منإثبات كون الباقي مصداقا للمأمور به؛ لأنّه تمامه. وتنقيحه ليظهر ما هو الحقّيتمّ برسم اُمور:
الأوّل: أنّك قد عرفت في إحدى مقدّمات الأقلّ والأكثر في الأجزاء أنّالمركّبات الاعتباريّة عبارة عن الأشياء المتخالفة الحقائق، غاية الأمر أنّهلوحظ كونها شيئا واحدا وأمرا فاردا لترتّب غرض واحد على مجموعها،وعرفت أيضا أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب الاعتباري أمر واحد، غاية الأمريدعو إلى كلّ واحد من الأجزاء بعين دعوته إلى المركّب؛ لأنّها هو بعينه، ولتغاير بينهما إلاّ بالاعتبار، ولا تتوقّف دعوته إلى جزء على كون الجزء الآخرأيضا مدعوّا، بل دعوته إلى كلّ واحد من الأجزاء في عرض دعوته إلىالآخر، ولا تكون مرتبطة بها، كما لا يخفى.
الثاني: أنّ تقييد إطلاقات أدلّة الأجزاء بمثل حديث الرفع يكون مرجعهإلى أنّ الإرادة الاستعماليّة في تلك الأدلّة وإن كانت مطلقة شاملة لحال النسيانأيضا، إلاّ أنّ حديث الرفع يكشف عن قصر الإرادة على غير حال النسيان،وليس معنى رفع الجزئيّة فيه أنّ الجزئيّة المطلقة المطابقة للإرادة الجدّيّةصارت مرفوعة في حال النسيان، فإنّ ذلك من قبيل النسخ المستحيل، بلمعنى الرفع هو رفع ما ثبت بالقانون العامّ الكلّي المطابق للإرادة الاستعماليّة،وضمّ ذلك القانون إلى حديث الرفع ينتج أنّ الإرادة الجديّة من أوّل الأمركانت مقصورة على غير صورة النسيان، وهذا هو الشأن في جميع الأدلّةالثانويّة بالقياس إلى الأدلّة الأوّليّة.
(صفحه 469)
فنفي الحكم الحرجي بقوله تعالى: «وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْحَرَجٍ»(1) مرجعه إلى كون ذلك كاشفا عن انحصار مقتضى الأدلة الأوّليّة بغيرصورة الحرج.
غاية الأمر أنّها ألقت بصورة الإطلاق قانونا، كما هو كذلك في القوانينالموضوعة عند العقلاء، وقد تقدّم في مباحث العموم والخصوص شطر منالكلام على ذلك وأنّ معنى التخصيص يرجع إلى التخصيص بالنسبة إلىالإرادة الاستعماليّة لا الجدّيّة، فإنّها من أوّل الأمر لم تكن متعلّقة بما يشملمورد المخصّص أيضا، كما لا يخفى. وحديث الرفع يرفع الجزئيّة الثابتة علىطبق الإرادة الاستعماليّة والحكم الكلّي القانوني، لا الثابتة على طبق الإرادةالجديّة.
الثالث: أنّ معنى رفع النسيان ليس راجعا إلى رفع النسيان التي هي صفةمنقدحة في النفس، ولا إلى رفع الآثار المترتّبة عليها، بل معناه هو رفع المنسيبما له من الآثار المترتّبة عليه، فقد وقع في ذلك ادّعاءان:
أحدهما: أنّ المنسي هو ما تعلّق به النسيان ـ أي الجزء كالسورة ـ كما أنّمعنى الخطأ هو ما أخطأوا، وهكذا.
وفيه: ـ مضافا إلى عدم ذكر كلمة «ما» في هذه الفقرة مع ذكرها في كثير منالفقرات ـ أنّه إذا تحقّق مانع نسيانا ـ والمفروض أنّ وجود المانع أمر اختياريناشٍ عن الالتفات والتوجّه، ولا يعقل صدوره عن الغفلة ـ ، فلا محالة يكونمتعلّق النسيان هو كونه مشتغلاً بالعبادة وأنّه في حال الصلاة، فالمرفوع هواشتغاله بالصلاة، ومعناه بطلان الصلاة، مع أنّ حديث الرفع في مقام الامتنانوالتسهيل على العباد، لا في مقام التضييق وبيان المبطلات، فهذا الاحتمال
(صفحه470)
يكون قابلاً للانطباق في باب الأجزاء والشرائط بخلاف باب الموانع.
ثانيهما: أن يكون المقصود منه ما صار النسيان سببا ومنشأً له، وهو قديكون ترك الجزء أو الشرط، وقد يكون وجود المانع، ومعنى رفعه أنّه لميتحقّق ولم يوجد في عالم التشريع، وهذا المعنى موافق للتحقيق وقابل للالتزام.
الرابع: أنّ النسيان المتعلّق بشيء الموجب لعدم تحقّقه في الخارج، هل هومتعلّق بنفس طبيعة ذلك الشيء من غير مدخليّة الوجود أو العدم، أو يتعلّقبوجود تلك الطبيعة أو يتعلّق بعدمها؟ وجوه، والظاهر هو الأوّل، فإنّالموجب لعدم تحقّق الطبيعة في الخارج هو الغفلة والذهول عن نفس الطبيعة،لا الغفلة عن وجودها، كيف والمفروض أنّه لم يوجد حتّى يتعلّق بوجودهالنسيان؟ ولا الغفلة عن عدمها، كيف ولا يعقل أن تصير الغفلة عن العدمموجبا له؟
إذا تمهّدت لك هذه الاُمور تعرف أنّ مقايسة حديث الرفع المشتمل علىرفع النسيان مع الأدلّة الأوّليّة المطلقة الدالّة على جزئيّة الجزء المنسي مطلقيقتضى كون المركّب الناقص المأتي به في حال النسيان تمام المأمور به؛ لأنّالمفروض كونه معنونا بعنوان الصلاة التي هي متعلّق الأمر، وقد عرفت أنّالأمر الذي يدعو إليها داعٍ إلى جميع أجزائها، ولا تتوقّف دعوته إلى جزء علىكون الجزء الآخر أيضا مدعوّا.
وقد عرفت أيضا أنّ مقتضى حديث الرفع تقييد تلك الأدلّة بحال الذكروكون السورة المنسيّة ـ مثلاً ـ معتبرة في الصلاة في خصوص هذا الحال،فالصلاة الفاقدة للسورة المنسية تمام المأمور به بالأمر المتعلّق بطبيعة الصلاةالمشتركة بين التامّ والناقص.
ومن جميع ما ذكرنا ينقدح الخلل فيما أفاده العلمان النائيني(1) والعراقي رحمهماالله في
- (1) فوائد الاُصول 4: 223 ـ 228.