(صفحه50)
طَغَى * وَ ءَاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى * وَ أَمَّا مَنْ خَافَمَقَامَ رَبِّهِى وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى»(1)، والظاهر أنّالسعادة عبارة عن الخوف من مقام الربّ، ونهي النفس الأمّارة بالسوء عنالهوى بالاختيار والإرادة، وهذا يوجب الإيصال إلى الجنّة، والشقاوة عبارةعن الطغيان واختيار الحياة الدنيويّة، وهذا ينتهي إلى النار، ويستفاد من إسنادالفعل إلى الإنسان أنّهما أمران اختياريّان.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّه لا ترتبط السعادة والشقاوة بقاعدة «الذاتي ليعلّل»، فإنّهما ليستا من مقولة الجنس ولا الفصل، ولا النوع بالنسبة إلىالإنسان، كما هو واضح.
وهكذا لا يكونا من لوازم ماهية الإنسان؛ إذ تتحقّق في لازم الماهيّةخصوصيّتان:
الاُولى: أنّ تصوّر الماهيّة يوجب الانتقال إلى اللازم.
الثاني: أنّه لا مدخليّة للوجود الذهني والخارجي في لازم الماهيّة؛ لكونالملزوم نفس الماهيّة، مثل: ملزوميّة الأربعة للزوجيّة. وكلتاهما مفقودتانههنا؛ إذ لا يوجب إطلاق كلمة الإنسان الانتقال إلى السعادة والشقاوةوجداناً، مع أنّ اتّصاف الإنسان بالسعادة أو الشقاوة متوقّف على وجودهالخارجي وكونه عاقلاً وبالغاً وداخلاً في دائرة التكليف، ثمّ موافقة التكاليف أومخالفتها، فكيف يمكن كونهما من لوازم ماهيّة الإنسان؟!
والحاصل: أنّ ما يترتّب على الوجود ويكون من توابع الوجود يصحّالسؤال عن علّته كصحّة السؤال عن علّة الوجود، فلا تكون السعادةوالشقاوة من مصاديق قاعدة «الذاتي لا يعلّل».
(صفحه 51)
ومن الممكن أن يكون منشأ ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره الرواية النبويّةالمعروفة، أنّه قال صلىاللهعليهوآله : «الشقيّ شقيٌّ في بطن اُمّه، والسعيد سعيدٌ في بطن اُمّه».(1)
واستفاد منها أنّ السعيد في عالم الرحم ينطبق عليه عنوان السعيد، والشقيّأيضاً فيه ينطبق عليه عنوان الشقيّ، ولذا تكون السعادة والشقاوة داخلتين فيذات الإنسان.
وفيه: أوّلاً: أنّ هذه الرواية دليل على خلافه، فإنّ ما يكون ذاتيّاً للإنسانيتحقّق معه في مرحلة الماهيّة، مثل ذاتيّة الناطقيّة له، ولا يختصّ بمرحلة منمراحل الوجود فقط، فنفس تحديد السعادة والشقاوة بالمرحلة الاُولى منمراحل الوجود الخارجي، وهي بطن الاُمّ ينافي ذاتيّتهما للإنسان.
وثانياً: أنّ للرواية معنىً عقلائيّاً، وهو: أنّه معلوم عدم صحّة القضاوةبملاحظة ظواهر الناس؛ إذ لا علم لنا بعاقبتهم، ولكن إذا أخبر مخبر صادقبأنّ عاقبة الشخص الفلاني تنتهي إلى السعادة ننظر إليه من حين الإخباربنظرة السعيد، مع أنّه لم يعمل بالفعل عمل الخير وما يوجب سعادته، وهكذإذا اُخبر بأنّ عاقبة فلان تنتهي إلى الشقاوة، فننظر إليه من حين الإخباربنظرة الشقيّ مع أنّه لم يعمل بعدُ ما يُوجب الشقاوة.
ويؤيّده ما نقله المفيد قدسسره عن سالم بن أبي حفصة أنّه قال: قال عمر بن سعدللحسين عليهالسلام : يا أبا عبداللّه إنّ قبلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك؟ فقال لهالحسين عليهالسلام : «إنّهم ليسوا بسفهاء ولكنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عيني أن لا تأكل برّالعراق بعدي إلاّ قليلاً».(2)
والمستفاد من ذلك أنّ أهل العراق نظروا إلى عمرو بن سعد بنظرة الشقاوة؛
- (1) التوحيد للصدوق: 356، الحديث 3.
(صفحه52)
لعلمهم بكونه قاتلاً للحسين عليهالسلام بإخبار أمير المؤمنين عليهالسلام بذلك، فمعنى الروايةأنّه يصحّ أن يقال في حقّ السعيد: إنّه سعيدٌ وإن كان في بطن اُمّه، وفي حقّالشقيّ: إنّه شقيٌّ وإن كان في بطن اُمّه، لا أنّ السعادة والشقاوة ذاتيّتان للإنسان.
ونضيف إليه ما ورد بعنوان التفسير للرواية النبويّة عن موسى بنجعفر عليهماالسلام وهو ما ذكره ابن أبي عمير أنّه: سألت أبا الحسن موسى بنجعفر عليهماالسلام عن معنى قول رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : «الشقيّ من شقي في بطن اُمّه، والسعيدمن سعد في بطن اُمّه»، فقال: «الشقيُّ من علم اللّه وهو في بطن اُمّه أنّه سيعملأعمال الأشقياء، والسعيد من علم اللّه وهو في بطن اُمّه أنّه سيعمل أعمالالسعداء»(1).
وهذا هو معنى الرواية ولا ترتبط السعادة والشقاوة بالماهيّة وأجزاءالماهيّة، فلا يصحّ تشبيه الإيمان والكفر بالماهيّة وأجزائها.
ويمكن أن يتوهّم أنّ الكفر والإيمان والسعادة والشقاوة لا تكون من قبيلأجزاء الماهيّة ولوازمها، بل تكون من قبيل الوجود وعوارضه، فكما أنّوجود الإنسان ليس باختياري له كذلك قصر قامته وسواد لونه وكونه جميلونحو ذلك، وهكذا سعادته وشقاوته وإيمانه وكفره يكون من الاُمور الغيرالاختياريّة له، فالسعيد لابدّ وأن يكون سعيداً، والشقيّ لابدّ وأن يكون شقيّولعلّ قول الشاعر ناظراً إلى هذا المعنى:
گليم بخت كسى را كه بافتند سيا
|
بآب زمزم و كوثر سفيد نتوان كرد
|
وفيه: أنّ عروض الحالات المتضادّة والمختلفة للإنسان في طول حياته أقوىدليل على عدم صحّة التشبيه المذكور، كما يستفاد من قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ
- (1) البحار 5: 157، الحديث 10.
(صفحه 53)
لَهُمْ...»(1).
وهذا دليل على أنّ الإيمان والكفر لا يكونا من قبيل قصر القامة الذيلاينفك عن الإنسان إلى آخر العمر.
ولكن عرفت أنّ الإنسان مع كونه مختاراً في أعماله وأفعاله لا يكون مستقلفيها، فعبارة «بحول اللّه أقوم وأقعد» يعني صدور القيام والقعود يكون عناختيار، مع استنادهما إلى قدرة اللّه تعالى وقوّته؛ ومن هنا يقول تبارك وتعالىفي القرآن: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى»(2)، وعدم الاستقلال ليسبمعنى الإجبار وعدم الاختيار، فلا يصحّ المقايسة بين الكفر والإيمانوعوارض الوجود مثل قصر القامة، والحاكم بالفرق بينهما هو الوجدانوالعقل، والكتاب والسنّة.
ولذا قال اللّه تعالى: «إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا»، يعني عن إرادة «وَ إِمَّكَفُورًا»(3)، أي عن اختيار.
والإرادة في قوله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِوَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(4) تكون تكوينيّة، فإنّ الإرادة التشريعيّة متعلّقة بطهارةجميع الإنسان، ولكنّ متعلّق الإرادة ما يعبّر عنه بالعصمة، وليس معنىالعصمة امتناع صدور المعصية عن المعصوم وصيرورته كالجدار، فإنّه لتكون فضيلةً، والفضيلة ترك ما يكون قادراً على ارتكابه، والعصمة ما يتحقّقفي جميع الإنسان، ولكن بالنسبة إلى بعض القبائح كالحضور في محضر عامّعرياناً؛ لبداهة قبح هذا العمل من الإنسان بحيث لا يمكن الترديد فيه لحظةً،
(صفحه54)
ففي عين قدرة الإنسان العاقل المتشخّص على كشف عورته لايمكن تحقّقه منه،وهذا المعنى يتحقّق في المعصومين عليهمالسلام بالنسبة إلى جميع المحرّمات والمكروهات.
فأراد اللّه أن يكونوا معصومين لا بما أنّهم ليسوا بقادرين على المعصية، بلفي عين قدرتهم كانوا معصومين، وتعلّق إرادة اللّه تعالى لا توجب تغيير واقعيّةالعصمة عمّا هي عليه، فمشيّة اللّه تعالى تعلّقت باختياريّة الإيمان والكفرللإنسان، واستحقاق العقوبة والمثوبة يترتّب عليها.