(صفحه 501)
لجريان البراءة كما لا يخفى.
وهذا لا فرق فيه بين ما لو كان العجز من أوّل البلوغ الذي هو أوّل زمانثبوت التكليف، كالأخرس الذي لايقدر على القراءة، وبين ما لو كان طارئفي واقعة واحدة، كمن عرض له العجز في أثناء الوقت بعد أن كان متمكّنا فيأوّل الوقت، وبين ما لو كان طارئا في واقعتين، كمن كان قادرا في الأمسوصار عاجزا في اليوم من أوّل الوقت إلى آخره.
ووجه عدم الفرق: أنّ مرجع الشكّ في الجميع إلى الشكّ في أصل ثبوتالتكليف، والقاعدة فيه تقتضي البراءة.
أمّا الصورة الاُولى فرجوع الشكّ فيها إلى الشكّ في أصل التكليف واضح،وكذا الصورة الثالثة؛ لأنّ ثبوت التكليف في الواقعة الاُولى لا دلالة على ثبوتهفي الواقعة الثانية أيضا، فالتكليف فيها مشكوك.
وأمّا الصورة الثانية فلأنّ المكلّف وإن كان عالما في أوّل الوقت بتوجّهالتكليف إليه، إلاّ أنّه حيث كان قادرا على المأمور به بجميع أجزائه وشرائطهيكون المكلّف به في حقّه هو المأمور به مع جميع الأجزاء والشرائط، فتعلّقالتكليف بالمركّب التامّ كان معلوما مع القدرة عليه.
وأمّا مع العجز عن بعض الأجزاء أو الشرائط فلم يكن أصل ثبوتالتكليف بمعلوم، فما علم ثبوته قد سقط بسبب العجر، وما يحتمل ثبوته فعلكان من أوّل الأمر مشكوكا، فلا مانع من جريان البراءة فيه.
ولكن قد يتوهّم أنّ المقام نظير الشكّ في القدرة، والقاعدة فيه تقتضيالاحتياط بحكم العقل، ولا يخفى أن التنظير غير صحيح؛ لأنّ في مسألة الشكّفي القدرة يكون أصل ثبوت التكليف معلوما بلاريب، غاية الأمر أنّه يشكّ فيسقوطه لأجل احتمال العجز عن إتيان متعلّقه.
(صفحه502)
وأمّا في المقام فيكون أصل ثبوت التكليف مجهولاً؛ لما عرفت من أنالتكليف بالمركّب التامّ قد علم سقوطه بسبب العجز، وبالمركّب الناقص يكونمشكوكاً من أوّل الأمر، فالتنظير في غير محلّه.
كما أن قياس المقام بالعلم الإجمالى الذي طرأ الاضطرار على بعض أطرافه،حيث يحكم العقل بحرمة المخالفة القطعيّة مع العجز عن الموافقة القطعيّة ـ كميظهر من الدرر(1)، حيث اختار وجوب الإتيان بالمقدور عقلاً فيما لو كانالعجز طارئا عليه في واقعة واحدة؛ لأنّه يعلم بتوجّه التكليف إليه، فإن لم يأتبالمقدور لزم المخالفة القطعيّة ـ ممّا لايتمّ أيضا؛ لعدم ثبوت العلم الإجمالي فيالمقام، بل الثابت هو العلم التفصيلي بالتكليف المتعلّق بالمركّب التامّ الساقطبسبب العجز عنه، والشكّ البدوي في ثبوت التكليف بالباقي المقدور، فالحقّجريان البراءة العقليّة في جميع الصور الثلاثة.
في جريان البراءة الشرعيّة
وأمّا البراءة الشرعيّة التي يدلّ عليها حديث الرفع فقال المحقّقالخراساني رحمهالله بعدم جريانها؛ لأنّ الحديث في مقام الامتنان، ولا منّة في إيجابالباقي المقدور(2).
ولكن اُشكل عليه بأنّه تتحققّ في المقام جهتان: الاُولى: رفع الجزئيّة فيحال العجز وعدم التمكّن، الثانية: لزوم الإتيان بالباقي المقدور، فلا مانع منرفع الجزئيّة بفقرة «رفع ما لا يطيقون» من الحديث، ورفع لزوم الإتيان ببقيةالأجزاء بفقرة «رفع ما لا يعلمون» منه، فإنّا لا نعلم أنّ الإتيان بالباقي في حال
- (1) درر الفوائد للمحقّق الحائري رحمهالله : 498.
- (2) كفاية الاُصول 2: 245.
(صفحه 503)
عدم التمكّن من هذا الجزء لازم أم لا؟ فتجري البراءة الشرعيّة أيضا بالتقريبالمذكور في البراءة العقليّة، بدون أن يتحقّق في المسألة عنوان الوضع أو خلافالامتنان.
مقتضى القواعد الثانويّة في المقام
التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب باقي الأجزاء:
وأمّا الكلام في المقام الثاني: فقد يتمسّك لوجوب الباقي المقدوربالاستصحاب، وتقريره من وجوه:
الأوّل: استصحاب الوجوب الجامع بين الوجوب النفسي والغيري، بأنيقال: إنّ البقية كانت واجبة بالوجوب الغيري في حال وجوب الكلّبالوجوب النفسي وعدم عروض العجز، وقد علم بارتفاع ذلك الوجوب عندتعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط؛ للعلم بارتفاع وجوب الكلّ، ولكن شكّ فيحدوث الوجوب النفسي بالنسبة إلى البقية مقارنا لزوال الوجوب الغيريعنها، فيقال: إنّ الجامع بين الوجوبين كان متيقّنا والآن يشكّ فيارتفاعه بعد ارتفاع بعض مصاديقه، فهو من قبيل القسم الثالث من أقساماستصحاب الكلّي.
ويمكن أن يقرّر هذا الوجه بنحو آخر، وهو: أنّ البقية كانت واجبةبالوجوب النفسي الضمني، وقد علم بارتفاعه، وشكّ في حدوث الوجوبالنفسي الاستقلالي، فأصل الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي كانمتيقّنا، والآن شكّ في ارتفاعه بعد ارتفاع بعض مصاديقه لأجل احتمالحدوث مصداق آخر.
ويرد على هذا الوجه: أوّلاً: ـ مضافاإلى منع كون الأجزاء واجبة بالوجوب
(صفحه504)
الغيري أو النفسي الضمني، بل قد عرفت أنّها واجبة بعين وجوب الكلّ ـ أنّهيعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب إمّا حكما مجعولاً شرعا،وإمّا موضوعا ذا أثر شرعي، والجامع بين الوجوب النفسي والغيري وكذا بينالضمني والاستقلالي لايكون شيئا منهما، أمّا عدم كونه موضوعا ذا أثرشرعي فواضح، وأمّا عدم كونه حكما مجعولاً فلأنّ الحكم المجعول هو كلّواحد من الوجوبين.
وبعبارة اُخرى: المجعول هو حقيقة الوجوب، وهي ما يكون بالحمل الشايعوجوبا، وأمّا الجامع فهو يكون أمرا انتزاعيّا غيرمجعول، والعقل بعد ملاحظةحكم الشارع بوجوب فعل وكذا حكمه بوجوب فعل آخر ينتزع عنهما أمرمشتركا جامعا من دون أن يكون ذلك الأمر الانتزاعي مجعولاً، بل لايعقلالجامع بين الوجوبين لو اُفيد الوجوب بمثل هيئة «افعل» التي يكون الموضوعله فيها خاصّا، كما هو الشأن في جميع الحروف على ما حقّقناه في مبحثالألفاظ.
وبالجملة، لا مجال لاستصحاب الجامع أصلاً.
وثانياً: أنّه لو قطع النظر عن ذلك نقول: إنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو كان مجموعالبقية متعلّقا للوجوب الغيري، فيقال: إنّه كان واجبا به، وشكّ بعد ارتفاعه فيحدوث الوجوب النفسي لها، مع أنّه ممنوع جدّا، ضرورة أنّ الوجوب الغيريإنّما هو بملاك المقدّميّة، والموصوف بهذا الوصف إنّما هو كلّ واحد من الأجزاء،لا المجموع بعنوانه، فالوجوب الغيري إنّما تعلّق بكلّ واحد من الأجزاء الغيرالمتعذّرة، والمدّعى إنّما هو إثبات وجوب نفسي واحد متعلّق بمجموع البقية.
وبعبارة اُخرى: القضيّة المشكوكة هو وجوب واحد متعلّق بالباقي المقدور،والقضيّة المتيقنّة هي الوجوبات المتعدّدة المتعلّق كلّ واحد منها بكلّ واحد من
(صفحه 505)
الأجزاء، فلا تتّحدان.
الثاني: استصحاب الوجوب النفسي الاستقلالي المتعلّق بالمركّب، وتعذّربعض أجزائه أو شرائطه لايضرّ بعد ثبوت المسامحة العرفيّة في موضوعالاستصحاب، كما لو فرض أنّ زيدا كان واجب الإكرام، ثمّ شكّ في وجوبإكرامه بعد تغيّره بمثل قطع اليد أو الرجل، فإنّه لا إشكال في جريان هذالاستصحاب لبقاء الشخصيّة وعدم ارتفاعها بمثل ذلك التغيّر، وكما فياستصحاب الكرّيّة، أيضا.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ قياس العناوين الكلّيّة بالموجودات الخارجيّة قياسمع الفارق؛ لأنّ تغيّر الحالات وتبدّل الخصوصيّات في الخارجيّات لايوجباختلاف الشخصيّة وارتفاع الهذيّة. وهذا بخلاف العناوين الكلّيّة، فانّالاختلاف بينها يتحقّق بمجرّد اختلافها ولو في بعض القيود؛ فإنّ عنوانالإنسان الأبيض ـ مثلاً ـ مغاير لعنوان الإنسان الغير الأبيض، فالإنسان المقيّدبالأبيض لايعقل أن ينطبق على الإنسان الأسود، وكذا العكس، وكذا الإنسانالعالم بالنسبة إلى الإنسان الغير العالم، فإذا كان من يجب إكرامه هو الإنسانالعالم ـ مثلاً ـ فاستصحاب وجوب إكرامه لايفيد وجوب إكرام الإنسان الغيرالعالم أيضا، كما لا يخفى.
وحينئذ نقول: إنّ الواجب في المقام هي الصلاة المتقيّدة بالسورة ـ مثلاً والمفروض سقوط هذا الوجوب بمجرّد عروض التعذّر بالنسبة إلى السورة،والصلاة الخالية عنها عنوان آخر مغاير للصلاة مع السورة، فالقضيّة المتيقّنةوالمشكوكة متغايرتان.
وثانياً: أنّ تبدّل الحالات إنّما لايضرّ بجريان الاستصحاب إذا كان الحكممتعلّقا بعنوان شكّ في مدخليّة ذلك العنوان بقاءً، كما أنّه دخيل فيه حدوثا.