(صفحه94)
يستلزم العلم بتحقّق المأمور به بجميع خصوصيّاته.
الأمر الثاني: دعوى الإجماع المحكي عن السيّد الرضي قدسسره على بطلان صلاةمن لايعلم حكمها.
وجوابه ـ بعد عدم اعتبار الإجماع المنقول ـ : أنّه ليس ناظراً إلى المقام أصلاً،فإنّ المقصود به بطلان الصلاة ممّن لا يعلم الخصوصيّات والشرائط المعتبرةفيها، ولايشمل معقد الإجماع للمحتاط الذي يعلم بإتيان المأمور به بجميعالشرائط والخصوصيّات المعتبرة فيه.
الأمر الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (1) من أنّ الاحتياط فيالعبادات يستلزم التشريع المحرّم، فلا يجوز الاحتياط فيها، وذلك لأنّ قصدالقربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع بإحرازهفي الواجب الواقعي، ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلا المحتملين بوصف أنّهما عبادةمقرّبة يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي، فيكون محرّماً.
وجوابه: أوّلاً بالنقض، وهو أنّ لازم ذلك عدم جواز الاحتياط في صورةعدم التمكّن من الامتثال التفصيلي أيضاً؛ للزوم التشريع المحرّم الذي لاتكونحرمته قابلةً للتفصيل والتخصيص مع أنّه لم يلتزم به.
وثانياً بالحلّ، وهو على وجوه:
الأوّل: أنّ الاحتياط في مثل صلاتي الظهر والجمعة ليس بمعنى إتيان كلّمنهما بعنوان أنّه عبادة مقرّبة، بل يكون بمعنى إتيان كلّ واحد منهما باحتمالكونه عبادة، وإتيان ما هو بحسب الواقع واجباً بعنوان أنّه عبادة مقرّبة، مثل:أن يغتسل من باب الاحتياط من يحتمل أنّه صار جنُباً برجاء كونها عبادةمقرّبة، وأنّه لو كنت جُنُباً تقرّبتُ بها، وهكذا فيما نحن فيه.
(صفحه 95)
الوجه الثاني: أنّه على فرض لزوم مراعاة الاحتياط والإتيان بكلّ واحدمنهما بقصد التقرّب، مع العلم بعدم عباديّة واحد منهما، ولكنّ متعلّق الحرمةهو التشريع ومتعلّق الجواز هو الاحتياط، ولاشكّ في كونهما عنوانينمستقلّين، وقد مرّ أنّ الحكم لا يسري من متعلّقه إلى عنوان آخر، وإن كانمتّحداً معه في الوجود الخارجي، فلا يكون الاحتياط حراماً.
الوجه الثالث: أنّ جواز الاحتياط وعدمه هنا لا يكون في مقابل الحرمة،بل يكون بمعنى كفايته وعدمها في مقام الامتثال، فعلى هذا لا يوجب قصدالتقرّب بما لا يكون عبادة الإخلال بالواجب الواقعي الذي أتى به بجميعالشرائط والخصوصيّات، ووقوع التشريع المحرم في جنب امتثال الأمر المتعلّقبالمأمور به لا يوجب النقص فيه، هذا نظير مَن ستر عورته بالساتر الغصبي،والنظر إلى الأجنبيّة حال الصلاة، فلا نقص عقلاً في المأمور به الواقعي حتّىنحكم ببطلانه.
الأمر الرابع: أنّ قصد الوجه والتمييز أيضاً معتبرٌ في العبادة، ومعلوم أنّه ليمكن الإتيان بها مع قصد الوجه متميّزة عن غيرها عند العمل بالاحتياط،والامتثال الإجمالي.
وجوابه: أوّلاً: أنّ هذا الدليل لا ينطبق على المدّعى؛ إذ المدّعى أنّ الاحتياطالممكن ثبوتاً هل يكفي في مقام الامتثال أم لا؟ والدليل يرجع إلى عدم إمكانالاحتياط في العبادة؛ لعدم إمكان مراعاة جميع الخصوصيّات المعتبرة فيها معالامتثال الإجمالي.
وثانياً: أنّ قصد الوجه أيضاً يكون نظير قصد القربة بإتيان ما هو في الواقععبادة واجبة على المكلّف لكونه مقرّباً وواجباً، وإتيان كلّ واحد من صلاتيالظهر والجمعة باحتمال كونه واجباً ومقرّباً.
(صفحه96)
وثالثاً: أنّه لا دليل على اعتبار قصد الوجه والتمييز في العبادة.
نعم، قال صاحب الكفاية قدسسره (1) في بحث الواجب التوصّلي والتعبّدي: إنّقصد القربة إن كان بمعنى إتيان العمل بداعي أمره فلا يمكن التمسّك بإطلاقدليل المأمور به لنفي اعتبار قصد القربة فيه عند الشكّ في كونه توصّليّاً أوتعبّديّاً، فإنّ ثبوت الإطلاق فرع إمكان التقييد، والتقييد هنا مستلزم للدور،فلايمكن التمسّك بإطلاق نفس الدليل، إلاّ أن يتحقّق الإطلاق المقامي بمعنىكون المولى في مقام بيان جميع الأجزاء والخصوصيّات المعتبرة في المأمور به،وعدم إشارته إلى اعتبار قصد القربة أصلاً، ويستفاد من ذلك عدم اعتباره،وإن لم يتحقّق الإطلاق المقامي أيضاً تصل النوبة إلى الاُصول العمليّة منالبراءة أو الاحتياط.
ويجري هذا البحث بعينه في قصد الوجه والتمييز أيضاً، ولكنّ التحقيق: أنّهلا مدخليّة لاعتبار قصد الوجه والتمييز زائداً على قصد القربة في عباديّةالعبادة، وإلاّ لاحتاج إلى بيان واضح؛ فلا يصلح هذا الوجه للمانعيّة منالامتثال الإجمالي.
الأمر الخامس: ما ذكره المحقّق النائيني قدسسره (2) بتقريبين:
الأوّل: أنّ حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى، بحيثيكون الداعي والمحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر وانطباق المأمور به عليه،وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقّق، فإنّ الداعي له نحو العمل لكلّواحد من فردي الترديد ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر به، فإنّه لا يعلم انطباقالمأمور به عليه بالخصوص.
- (1) كفاية الاُصول 1: 109.
(صفحه 97)
وجوابه: أوّلاً: أنّ لازم هذا البيان عدم كفاية الامتثال الإجمالي حتّى فيصورة عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي، مع أنّها خارجة عن محلّ النزاع.
وثانياً: أنّ الإطاعة عند العقل عبارة عن انطباق المأتي به على المأمور بهمع جميع الخصوصيّات المعتبرة فيه، والمفروض تحقّقه في الامتثال الإجمالي،بعدما ذكرناه من إمكان رعاية قصد القربة فيه.
وثالثاً: أنّ البعث بوجوده الواقعي لا يكون مؤثّراً في الانبعاث بدونالارتباط بعلم المكلّف وجهله، بل الانبعاث ناشٍ عن العلم بالتكليف وتصوّرما يترتّب على موافقته ومخالفته من المثوبة والعقوبة إلاّ في بعض المكلّفين، كمقال مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليهالسلام : «ما عبدتُكَ خوفاً من نارك ولا طمعاً فيجنّتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك».(1)
والعمل بالاحتياط ناشٍ عن العلم بتكليف المولى، وينبعث المكلّف عنالأمر المعلوم له، ويجمع بين صلاتي الظهر والجمعة رعاية لتحقّق المأمور به،فلا فرق بالوجدان في الانبعاث عن البعث المعلوم بين العلم التفصيليوالإجمالي.
التقريب الثاني: أنّ مراتب الامتثال والإطاعة عند العقل أربعة:
الاُولى: الامتثال التفصيلي، سواء كان بالعلم الوجداني أو بالطرقوالأمارات والاُصول المحرزة التي تقوم مقام العلم، مثل: إثبات وجوب صلاةالجمعة في عصر الغيبة من طريق العلم أو بدلالة الخبر الواحد عليه أو منطريق الاستصحاب.
المرتبة الثانية: الامتثال العلمي الإجمالي كالاحتياط في الشبهات المقرونةبالعلم الإجمالي.
- (1) البحار 70: 186، الحديث 67.
(صفحه98)
المرتبة الثالثة: الامتثال الظنّي ـ أي الظنّ الذي لم يقم الدليل على حجّيّته مثل: أنيكون الراجح عندالمكلّف في يومالجمعة وجوب صلاةالجمعة، مععدمتمكّنه من تحصيل الحكم الواقعي، وعدم تمكّنه من الجمع بين صلاتي الظهروالجمعة، والإتيان بصلاة الجمعة على هذا يكون امتثالاً ظنيّاً غير معتبر.
المرتبة الرابعة: الامتثال الاحتمالي، كما في الشبهات البدويّة أو الشبهاتالمقرونة بالعلم الإجمالي عند تعذّر الامتثال الإجمالي أو الظنّي أو اختيار طرفمخالف الظنّ، مثل: أن يكون الراجح عنده صلاة الجمعة ولكنّه أتى بصلاةالظهر حين الامتثال.
ثمّ قال: ولا إشكال في أنّه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلاّ بعدتعذّر الامتثال الظنّي، ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظنّي إلاّ بعد تعذّر الامتثالالإجمالي.
إنّما الإشكال في المرتبتين الأوليين، فقيل: إنّهما في عرض واحد، وقيلبتقديم رتبة الامتثال التفصيلي مع الإمكان من الامتثال الإجمالي، وعلى ذلكيبتني بطلان عبادة تاركي طريق الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط، وهذهو الأقوى.
وقد عرفت جوابه ممّا ذكرناه من أنّ العقل لا يحكم إلاّ بلزوم الإطاعة،وهي لا تكون إلاّ إتيان المأمور به بجميع أجزائه وشرائطه وخصوصيّاته،ومعه يسقط التكليف، فلا صحّة لهذه الطوليّة بحكم العقل.
الأمر السادس: أنّ الاحتياط المستلزم للتكرار يعدّ عند العقلاء لعباً وعبثبأمر المولى، وما كان هذا حاله لا يصدق عليه الامتثال والطاعة.
وفيه: أوّلاً: أنّ التكرار في العمل لا يعدّ لعباً وعبثاً عند تعلّق الغرضالعقلائي به، كما إذا توقّف تحصيل العلم والامتثال التفصيلي على مشقّة كالمشي