(الصفحة 149)
وصحيحة علي بن رئاب قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي فأغسله أو اُصلّي فيه؟ قال: صلِّ فيه، إلاّ أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر إنّ الله تعالى انّما حرّم شربها.
والإنصاف انّها وإن كانت رواية واحدة إلاّ انّ تماميتها من حيث السند والدلالة غير قابلة للمناقشة خصوصاً بملاحظة التعليل الذي ينفي الاحتمال الذي ذكرنا من كون جواز الصلاة أعمّ من الطهارة فتدبّر ولو كانت الروايات من الطرفين منحصرة فيما ذكرنا لكان مقتضى الجمع بين هذه الرواية وبين الروايات الظاهرة في النجاسة حمل أخبار النجاسة على كون الغسل انّما هو لأجل زوال التنفّر بغسل موضع أثر الخمر ولا يكون واجباً بشهادة هذه الرواية الدالّة على انّ الغسل لأجل التقذّر ولا يكون واجباً شرطاً وحمل هذه الرواية على الطهارة بشهادة التعليل الواقع فيها وعليه يصير مقتضى الجمع بين الأخبار المتعارضة ظاهراً موافقاً للقول بالطهارة إلاّ انّه قود وردت روايتان قد فرض فيهما تعارض الطائفتين وحكم فيهما بترجيح أخبار النجاسة:
إحداهما: صحيحة علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب عبدالله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك : روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل انّهما قالا: لا بأس بأن تصلّي فيه انّما حرّم شربها، وروى عن (غير) زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك. فاعلمني ما آخذ به؟ فوقع (عليه السلام) بخطّه وقرأته: خذ بقول أبي عبدالله (عليه السلام).
فانّه من الواضح انّ المراد من قول أبي عبدالله (عليه السلام) الذي أمر أبو الحسن (عليه السلام)
(الصفحة 150)
بأخذه هو ما تفرّد به أبو عبدالله (عليه السلام) لا ما كان مشتركاً بينه وبين أبيه (عليه السلام) وعليه فيصير حاصل المراد الأخذ بخبر النجاسة الدال على وجوب الغسل وإعادة الصلاة، والعجب من المحقّق الأردبيلي (قدس سره) حيث قال ـ على ما حكي عنه ـ : «انّ المراد من قول أبي عبدالله (عليه السلام) هي الرواية الدالّة على الطهارة» مع انّه كما ترى واضح الفساد، وبالجملة المستفاد من هذه الرواية أمران: ثبوت التعارض بين الطائفتين أولاً وكون الترجيح مع أخبار النجاسة ثانياً فلا يبقى معها مجال للترديد والشكّ إلاّ انّ الذي يمكن أن يوهن الرواية اشتمال السند على سهل بن زياد ولكن يدفعه ـ مضافاً إلى ما اشتهر من انّ الأمر في السهل سهل ـ انّ الرواية منقولة عن علي بن مهزيار بغير طريق السهل أيضاً.
ثانيتهما: رواية خيران الخادم قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيُصلّى فيه أم لا فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم: صلِّ فيه فإنّ الله انّما حرّم شربها، وقال بعضهم: لا تصلِّ فيه؟ فكتب (عليه السلام): لا تصلِّ فيه فانّه رجس الحديث.
ولا يخفى انّ اختلاف الأصحاب قد نشأ من اختلاف الطائفتين من الأخبار فالمراد من قولهم هو القول المستند إلى الرواية وعليه فالجواب يرجع إلى ترجيح أخبار النجاسة لأنّ المراد من الرجس في الرواية هي النجاسة بقرينة التعليل في القول الأوّل فتأمّل. وهاتان الروايتان من جملة الأخبار العلاجية المختصّتان بتعارض الروايات الواردة في الخمر.
وعن الأردبيلي (قدس سره) انّ هذين الخبرين يعارضان مع أخبار الطهارة والترجيح مع تلك الأخبار لأنّ المكاتبة لا تقاوم المشافهة.
وفيه المنع عن وقوع التعارض بينهما وبين أخبار الطهارة لكونهما ناظرتين إليها
(الصفحة 151)
وبصدد علاج المعارضة بينها وبين أخبار النجاسة فهما حاكمتان على جميع الأخبار الواردة في المقام. نعم لو كان لنا خبر علاجي مفاده ترجيح أخبار الطهارة لحصل التعارض بينه وبين هاتين الروايتين كما هو واضح.
والحاصل انّه لا محيص عن حمل أخبار الطهارة على التقية وصدورها موافقة لعمل امراء العامة وسلاطينهم وحكّامهم، ولو لم يكن الخبران العلاجيان أيضاً لكان مقتضى الرجوع إلى المرجّحات بعد فرض ثبوت التعارض ـ على خلاف ما اخترناه من عدم التعارض ووجود الجمع العرفي بالنحو المتقدّم ـ الأخذ بأخبار النجاسة لأنّ أوّل المرجحات هي الشهرة الفتوائية الموافقة معها لما عرفت من ثبوت الشهرة عليها لو لم يكن في البين إجماع.
وبعض الأعلام حيث انّ مختاره انحصار المرجّحات في موافقة الكتاب ومخالفة العامّة قال: إنّ مقتضى القاعدة هو التساقط والرجوع إلى قاعدة الطهارة لعدم مرجّح لإحداهما على الاُخرى لمخالفة أخبار النجاسة لهم من حيث عملهم، ومخالفة أخبار الطهارة لهم أيضاً من حيث حكمهم ولا يوافق شيء منهما مع الكتاب الكريم إلاّ انّ هذا كلّه بمقتضى الصناعة العلمية مع قطع النظر عن صحيحة علي بن مهزيار.
واقتصاره على الصحيحة انّما هو لأجل المناقشة في سند رواية الخيران مع جهة وقوع سهل بن زياد فيه مع انّك عرفت وقوعه في سند رواية ابن مهزيار أيضاً إلاّ انّها قد رويت بطريق آخر خال عن الاشتمال على سهل فانقدح من جميع ما ذكرنا انّه لا محيص عن الحكم بالنجاسة للخبرين الواردين في العلاج.
المقام الثاني: في نجاسة غير الخمر من سائر المسكرات المايعة بالاصالة ولا إشكال في لحوقها بها من حيث الحرمة لأنّها معلّلة في بعض الروايات بالإسكار
(الصفحة 152)
وهو موجود في الجميع، وانّما الإشكال في نجاستها كالخمر، وربما يقال بانّه لا خلاف في نجاسة جميع المسكرات المايعة بالأصالة ولكن هذه الدعوى مخدوشة لأنّ من ناقش في نجاسة الخمر أو اختار عدمها كالصدوق والأردبيلي لا يكون معتقداً بنجاسة سائر المسكرات قطعاً فالإجماع غير متحقّق.
والروايات التي استدلّ بها على النجاسة كثيرة:
منها: صحيحة علي بن مهزيار المتقدّمة آنفاً وفيها قول السائل: «وروي عن غير زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه... ولفظة: «يعني المسكر» تفسير من الكاتب السائل وقد قرّره الإمام (عليه السلام) عليه، ولو كان المراد من المسكر في تفسير الكاتب ماهيته وطبيعته وكان ذكر الخمر والنبيذ من باب المثال لكان دالاًّ على نجاسة جميع المسكرات ولكنّه خلاف الظاهر فإنّ الظاهر انّه تفسير للنبيذ حيث إنّه على قسمين مسكر وغير مسكر وعليه فلا دلالة للصحيحة على نجاسة سائر المسكرات بل مفادها نجاسة الخمر والنبيذ المسكر.
ومنها: رواية عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما ترى في قدح من مسكر يصيب عليه الماء حتّى تذهب عاديته ويذهب سكره؟ فقال: لا والله ولا قطرة قطرت في حب إلاّ اهريق ذلك الحب.
وقد نوقش فيها بالضعف نظراً إلى انّ عمر بن حنظلة لم يوثق في الرجال.
وفيه انّه قد وردت روايات كثيرة في مدحه وأكثر تلك الروايات وان كان راويها هو نفس عمر بن حنظلة إلاّ انّ أكابر الأصحاب قد اعتمدوا عليها ونقلوها في كتبهم المعتبرة فهو موثق خصوصاً بعد ورود رواية في مدحه من غيره أيضاً وفيها انّه قال أبو عبدالله (عليه السلام) في حقّه: «إذا لا يكذب علينا» فالرواية قابلة للاعتماد
(الصفحة 153)
ودلالتها على نجاسة المسكر مطلقاً واضحة ودعوى انصرافه إلى الخمر ممنوعة.
ومنها: موثقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا تصلِّ في بيت فيه خمر ولا مسكر لأنّ الملائكة لا تدخله، ولا تصلِّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسله. فانّها موثقة سنداً وظاهرة دلالة.
وربما يناقش فيها بأنّ النهي في الفقرة الاُولى تنزيهي بلا إشكال لعدم كون الصلاة في البيت الكذائي باطلة ولا محرّمة وهو يصير قرينة على كون النهي في الفقرة الثانية تنزيهياً أيضاً.
والجواب عنها انّ الظاهر من النهي هو التحريم إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه وقيامها عليه في الفقرة الاُولى لا يصير قرينة على الخلاف في الفقرة الثانية أيضاً خصوصاً مع تكرار الصيغة بل نقول بوجود القرينة في الثانية على وفق الظاهر وهو عطف المسكر على الخمر التي فرغنا عن نجاستها وبطلان الصلاة في الثوب الذي أصابته فالنهي في الفقرة الثانية باق على ظاهرها المقتضي للتحريم الشرطي فتدبّر.
وقال بعض الأعلام: إنّ موثقة عمّار تعارض مع موثقة ابن بكير ـ المتقدّمة ـ قال: سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب؟ قال: لا بأس. ولا مرجح لإحداهما على الاُخرى لأنّ فتوى العامّة وعملهم في مثل المسكر غير المتعارف شربه غير ظاهرين فالترجيح بمخالفة العامّة غير ممكن ولا مناص معه من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى قاعدة الطهارة وهي تقتضي الحكم بطهارة كل مسكر لا يطلق عليه الخمر عرفاً.
ولا يخفى ما فيه لإمكان الجمع الدلالي بينهما بحمل موثقة ابن بكير على بيان الحكم التكليفي وهو نفي البأس عن نفس إصابة المسكر للثوب وجواز لبسه كذلك وحمل موثقة عمّار على بيان الحكم الوضعي وهي النجاسة وعدم جواز الصلاة في