(الصفحة 169)
ابن حمزة بوجه.
فانقدح انّ ابن حمزة متفرّد بالتفصيل المذكور وهو نجاسة المغلي بنفسه مع عدم إسكاره وعدم النجاسة في المغلي بالنار.
ثمّ إنّ الشيخ المذكور زعم أنّ في المسألة إعضالات لا تنحلّ إلاّ بالالتزام بمسكرية العصير المغلي بنفسه قال في رسالته الموضوعة في هذا الباب المسمّاة بـ «إفاضة القدير»:
الإعضال الأوّل: إنّ الروايات المتضمّنة لحرمة العصير المطبوخ كلّها مغياة بذهاب الثلثين ولم يتّفق التحديد بذهابهما إلاّ فيما تضمن لفظ الطبخ أو ما يساوقه كالبختج والطلا، وامّا الروايات الحاكمة بتحريم العصير بالغليان فكلّها خالية عن التحديد بهما.
وقد جعل هذا الاختلاف شاهداً على انّ العصير المغلي بنفسه مسكر نظراً إلى انّ الغليان إذا اسند إلى الشيء الذي يحدث فيه تارة بسبب واُخرى باقتضاء نفسها، من غير ذكر السبب يكون المراد به هو حصوله بالنفس لا بالسبب.
ولكن يرد عليه:
أوّلاً: إنّ هذه الروايات ـ على فرض كونها كما زعمها ـ لا تدلّ على أكثر من انّ غاية الحرمة فيما غلى بنفسه ليست هي ذهاب الثلثين بل ذهابهما غاية فيما إذا غلى بالنار وانطبق عليه عنوان المطبوخ وشبهه وكيف يمكن استفادة مسكرية العصير المغلي بالنفس من الاختلاف من جهة الغاية كما هو واضح.
وثانياً: إنّ ما أفاده من انّ الغليان إذا اسند إلى الشيء كان المراد به هو حصوله بنفسه لا بالسبب ممّا لا يتمّ ولا يساعده الدليل فانّ المتبادر من الغليان ـ عرفاً ولغةً ـ هو الفوران والقلب بقوّة وهما لا يتحقّقان فيما غلى من قبل نفسه مع انّ كلمات
(الصفحة 170)
اللغويين مخالفة لما أفاده ففي «المنجد»: غلت القدر جاشت بقوّة الحرارة، وظاهره انّ ما غلى بنفسه لا يطلق عليه الغليان حقيقة، وعن «المجمع»: غلت القدر غلياناً إذا اشتدّ فورانها، فليست مادّة الغليان ظاهرة في الغليان الحاصل من قبل نفس الشيء لو لم تكن ظاهرة في عكسه.
ودعوى: انّه لا مجال لإنكار انّ الغليان إذا اُسند إلى الشيء مطلقاً وبدون ذكر السبب يكون ظاهر إطلاقه ما يحصل للشيء من قبل نفسه.
ممنوعة لأنّه إذا ذكر مطلقاً يكون مقتضى إطلاقه الشمول لجميع الأفراد على البدل من دون فرق بين ما يحصل بنفسه وما يتحقّق بالسبب، والانصراف يحتاج إلى كثرة الاستعمال وهي غير متحقّقة فيه لو لم نقل بتحقّقها في ما يحصل بالسبب كما لا يخفى.
أضف إلى ذلك ما أفاده بعض الأعلام من أنّ الغليان لا يعقل أن يستند إلى نفس العصير فانّه لو صبّ في ظرف وجعل في ثلاجة أو غيرها ممّا لا تؤثر فيه حرارة خارجية فلا محالة تبقى مدّة من الزمان ولا يحدث فيه الغليان أصلاً، وعليه فالغليان غير مسبّب عن نفس العصير بل دائماً مستند إلى أمر خارجي من نار أو حرارة الهواء والشمس.
وثالثاً: انّ ما استند إليه من الروايات التي ذكر فيها الغليان ولم يتعرّض للتحديد بذهاب الثلثين لا يعطي ما رامه من انّ حدّ الحرمة تبدّل العنوان:
امّا صحيحة حمّاد أو حسنته عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا يحرم العصير حتّى يغلي. فهي بصدد بيان حكم ما قبل الغليان وانّه ليس بحرام في هذه الصورة لا بيان بقاء الحرمة إلى ذهاب الموضوع وتبدّل العنوان كما هو ظاهر.
وامّا روايته الاُخرى عن أبي عبدالله (عليه السلام) أيضاً قال: سألته عن شرب العصير
(الصفحة 171)
قال: تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشربه، قلت: أيّ شيء الغليان؟ قال: القلب. فهي أيضاً لبيان غاية الحلية وانّها هي الغليان لا غاية الحرمة ولا دلالة لها على كون غاية الحرمة هي تبدّل العنوان ويشهد له ملائمة جعل الغاية لها ذهاب الثلثين أيضاً بقوله فإذا غلى فلا تشربه حتّى يذهب ثلثاه كما لا يخفى.
وامّا موثّقة ذريح قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: إذا نشّ العصير أو غلا حرم. فهي كالنص في خلاف مدعاه لأنّه قد حكم فيها بالحرمة على موضوعين أحدهما ما إذا نشّ العصير من قبل نفسه ثانيهما ما إذا غلى العصير ولم يتعرّض للتحديد في شيء منهما فهي مخالفة لدعواه ولذا تشبّث بدعوى انّ الرواية في النسخ المصحّحة من الكافي به «الواو» وفي التهذيب: «أو» وانّ الأوّل أصحّ لأضبطية الكافي من التهذيب.
وفيه: إنّ الرواية على ما هو الموجود في كتب الأخبار والفقه واللغة كمجمع البحرين انّما هي بـ «أو» ولم يشر أحد منهم إلى اختلاف نسخ الكافي أو هي مع غيرها وأضبطية الكافي انّما تجدي إذا ثبت كونها كذلك في الكافي فالأصحّ في الرواية العطف بـ «أو» على ما في الكتب الصحيحة من الأخبار وعليه فالرواية تهدم أساس ما بنى عليه من التفصيل بين ما نش بنفسه أو غلى بغيره.
وامّا مرسلة محمد بن الهيثم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته أيشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغيّر عن حاله وغلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. فلا يمكن أن يستظهر منها انّها لبيان حكم خصوص العصير الذي غلى بالنار فقط لأنّه ـ على هذا ـ يكون قوله (عليه السلام): «إذا تغيّر عن حاله وغلا» تكراراً لقول السائل: «العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي» مع انّ ظاهر الجواب إفادة قاعدة كلّية وبيان حكم عام يشمل مورد السؤال وغيره وهي
(الصفحة 172)
انّ العصير مطلقاً إذا غلى وتغيّر عن حاله... وكيف كان لا وجه لدعوى اختصاصها بما إذا غلى العصير بالنار.
الإعضال الثاني: انّه قد ورد في صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام)انّه قال: كل عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وحيث إنّ الحرمة المغياة بذهاب الثلثين قد رتّبت على العصير الذي أصابته النار فيستفاد منها ان ما لم تصبه النار من العصير كما إذا غلى بسبب آخر لا ترتفع حرمته بذهاب الثلثين وإلاّ فما وجه تقييده العصير بما أصابته النار؟! ودعوى انّ القيد توضيحي خلاف ظاهر التقييد لأنّ القيود محمولة على الاحتراز حتّى فيما إذا ورد القيد مورد الغالب كالقيد الثاني في الآية المباركة: (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ)(1) فانّه أيضاً احترازي مع وروده مورد الغالب، وامّا القيد الأوّل فيها وهو كونها في حجوركم فقد اُستفيد من الروايات عدم كونه احترازياً لو أغمض عن بعض الروايات الظاهرة في التفصيل بين اللاتي في الحجور وبين غيرهنّ من الربائب.
ولا يمكن أن يكون القيد في الرواية غير احترازي وإنّ وجوده كالعدم لأنّه لو حذف القيد يصير معنى الرواية «انّ كل عصير فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه» مع عدم حرمة العصير غير المغلي فلا محيص هنا أيضاً من التفصيل بين المغلي بالنار والمغلي بغيره.
وفيه: أوّلاً انّه لو سلم صحّة جميع ما أفاده في تفسير الصحيحة ومعنى الرواية نقول إنّ مقتضاه انّ العصير المغلي بالنار حرام وغاية حرمته ذهاب الثلثين والعصير
(الصفحة 173)
المغلي بنفسه حرام وغاية حرمته زوال العنوان وتبدّله امّا كون الحرمة في الثاني مستندة إلى الإسكار الموجب للنجاسة زائدة على الحرمة فمن أي حكم من الرواية يستفاد؟! وبعبارة اُخرى غاية مفاد الصحيحة التفصيل بين المغلي بالنفس والمغلي بالنار من جهة غاية الحرمة ولادلالة لها عليه من جهة النجاسة أيضاً.
وثانياً نقول: إنّ الصحيحة هل تكون بصدد بيان أصل الحرمة وغايتها أو الحرمة فقط دون الغاية أو الغاية فحسب؟ فعلى الأوّلين يصير مقتضى الرواية انّ إصابة النار العصير لها دخل في حرمته بحيث لو لم تصبه النار لا يتحقّق التحريم مع انّ الخصم لا يلتزم به لأنّ العصير المغلي بنفسه مضافاً إلى كونه حراماً نجس أيضاً عنده فالرواية على هذين التقديرين لا تنطبق على مدّعاه، نعم لو كانت الرواية بصدد بيان غاية الحرمة فقط مع كون أصل الحرمة معلوماً للمخاطب وغير مراد إفهامه منها لصحّ ما ذكره ولكنّه خلاف الظاهر فإنّ الإنصاف يمنع عن تخصيص الرواية بكونها في مقام بيان الغاية فقط فلا محيص من أن يقال إنّها بصدد بيان أصل الحرمة وغايتها معاً وقيد: «أصابته النار» انّما ورد لإفادة انّ طبيعة العصير ـ على إطلاقها ـ لا تكون مقتضية للحكم وترتّب الحرمة عليها بل لابدّ في ترتّب حكم الحرمة عليها من ثبوت قيد زائد على أصل الطبيعة وهو إمّا إصابة النار إيّاه وغليانه بسببه كما هو مقتضى الصحيحة أو غليانه بنفسه كما هو مفاد الروايات الكثيرة الاُخر، فانقدح انّ الرواية لا تنطبق على التفصيل المذكور أصلاً.
الإعضال الثالث: انّه قد وقع في موثّقة عمّار ما لم يهتد إلى سرّه أغلب الواقفين عليها، قال عمّار: وصف لي أبو عبدالله (عليه السلام) المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالاً فقال (عليه السلام) لي: تأخذ ربعاً من زبيب وتنقيه، ثمّ تصبّ عليه اثنى عشر رطلاً من ماء ثمّ تنقعه ليلة فإذا كان أيّام الصيف وخشيت أن ينش جعلته في تنوّر سخن قليلاً حتّى