(الصفحة 180)
وممّا ذكرنا ظهر الجواب عن الاستدلال لهما برواية أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) وسُئل عن الطلا فقال: إن طبخ حتّى يذهب منه اثنان ويبقى واحد فهو حلال وما كان دون ذلك فليس فيه خير. بتقريب انّ مفهومها انّه إن لم يطبخ حتّى يصير كذا فليس بحلال ويشمل المفهوم ما لو لم يطبخ أصلاً. فانّه يرد عليه ـ مضافاً إلى ضعف المفهوم بهذا النحو فيها جدّاً بعد كون الموضوع هو الطلا الذي هو العصير المطبوخ ـ انّ مفهومها انّ ما طبخ لا حتّى يذهب منه اثنان فليس بحلال كيف وإلاّ يلزم دلالتها على حرمة العصير قبل الطبخ أيضاً.
وقد يستدلّ على كون الغاية مطلقاً ذهاب الثلثين بروايات:
منها: رواية أبي الربيع الشامي ـ المتقدّمة ـ الواردة في منازعة آدم وابليس، المشتملة على انّ الثلث الباقي بعد دخول النار وذهاب الثلثين انّما هو لآدم. بتقريب انّ المستفاد منها انّ التثليث مطلقاً موجب لزوال الحرمة.
ومنها: موثقة زرارة ـ المتقدّمة أيضاً ـ المشتملة على معارضة ابليس ونوح في النخلة، الدالّة على قول أبي جعفر (عليه السلام) : «فإذا أخذت عصيراً فطبخته حتّى يذهب الثلثان نصيب الشيطان فكل واشرب. بتقريب انّ المستفاد منها أيضاً انّ حظّ إبليس هو الثلثان فإذا ذهب فليس فيه نصيب له فهو حلال.
ومنها: سائر الروايات الواردة بهذا المضمون.
والحقّ انّه لا دلالة لشيء منها على ذلك لعدم كون الروايات بصدد بيان غاية الحرمة بوجه ولا إطلاق فيها من هذه الجهة فهل ترى من نفسك أن تقول بأنّه يستفاد منها حرمة نفس العنب أيضاً لوجود نصيب الشيطان فيه أو حرمة طبيعة العصير وان لم يغل بل ولم ينش ـ على تقدير كون النشيش حاصلاً قبل الغليان ـ لوجوب نصيب الشيطان فيه أيضاً.
(الصفحة 181)
نعم مرسلة ابن الهيثم ـ المتقدّمة ـ المشتملة على قوله (عليه السلام): «إذا تغيّر عن حاله وغلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه». تدلّ على العموم ـ بناءً على ما ذكرنا من عموم الجواب وعدم اختصاصه بالعصير المطبوخ بالنار، المذكور في السؤال ـ ولكنّها مرسلة لا مساغ للاتكال عليها والفتوى على طبقها.
وبالجملة: لا دليل على حلّية العصير المغلي بنفسه بذهاب الثلثين والمرجع بعد عدم الدليل استصحاب الحرمة الحاصلة قبل التثليث ولا مجال لاجراء قاعدة الحلّية.
الجهة الثالثة: في انّ التثليث الذي يوجب حلية العصير المغلي بالنار هل يلزم أن يتحقّق بالنار أو يتحقّق بمثل الشمس والهواء أيضاً؟ قد صرّح السيّد (قدس سره) في «العروة» بالثاني حيث قال: وإذا ذهب ثلثاه صار حلالاً سواء كان بالنار أو بالشمس أو بالهواء. والظاهر انّ مستنده في ذلك هي الإطلاقات مع انّه لا إطلاق في المقام يمكن التمسّك به والأخبار المشتملة على حلّية العصير بذهاب الثلثين انّما وردت في خصوص ذهابهما بالنار نحو قوله (عليه السلام) : إن طبخ العصير حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ونظير ذلك.
نعم رواية: «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه» يمكن الاستدلال بها على مذهب السيّد لو كان بصدد بيان أصل الحرمة وغايتها معاً ولكنّه خلاف الظاهر فانّ الظاهر كونها في مقام بيان الحرمة فقط وامّا ذكر الغاية فيصير مجملاً لا يمكن أن يتمسّك بها لغير موردها.
كما انّ مرسلة محمد بن الهيثم يمكن التمسّك بإطلاقها له ـ بناءً على ما ذكرنا في معناها من عموم الجواب ـ ولكنّها مرسلة لا يجوز الاستناد بها.
فلم يبق ممّا يمكن التمسّك به له إلاّ ما ورد في بعض الأخبار من انّ العصير إذا
(الصفحة 182)
طبخ حتّى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف ثمّ يترك حتّى يبرد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. نظراً إلى انّها تدلّ على انّ ذهاب ثلثي العصير الذي هو عبارة عن أربعة دوانيق لا يعتبر أن يكون حال غليانه بالنار بل لو ذهب منه مقدار كثلاثة دوانيق ونصف بسبب النار وذهب نصف الدانق بعد رفعه عنها كفى ومن الواضح عدم الفرق بين مقدار من الثلثين وبين مجموعهما.
ولكن الحقّ انّها أيضاً لا تدلّ على كفاية الذهاب بمثل الشمس والهواء لأنّ ذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار أيضاً يكون مستنداً إلى النار لأنّها صارت موجبة لغليانه ومحدثة فيه الحرارة المستلزمة للذهاب والنقصان ففي الحقيقة مفاد الرواية انّ ذهاب الثلثين الذي لابدّ منه في الحلّية لا يلزم أن يتحقّق حال كونه على النار ومجاوراً لها بل يكفي في الحلّية ذهاب البعض كثلاثة دوانيق ونصف كذلك وذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار وأين هذا من كفاية قيام الشمس أو الهواء مقام النار في إذهاب الثلثين فتأمّل فما صرّح به السيّد من عدم الفرق ممّا لا يساعده الدليل.
ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في انّ حرمة العصير المغلي لا تختصّ بما إذا استخرج ماء العنب بالعصر بل تعمّ ما إذا خرج مائه من غير عصر ثمّ غلا بالنار أو بنفسه لعدم الفرق بينهما بنظر العرف أصلاً وإن كان عنوان «العصير» بمعناه الحقيقي اللغوي يختصّ بالأوّل إلاّ انّ الحكم عام لعدم مدخلية للعصر في ذلك بل الموضوع هو ماء العنب المغلي كما لا يخفى.
انّما الإشكال فيما إذا غلى ماء العنب في جوفه بحرارة الشمس قبل أن يخرج منه، والظاهر انّ هذه المسألة مجرّد فرض ولا يبتني على أمر واقع لأنّ الماء في جوف العنب لا يكون منفصلاً عن سائر الأجزاء بل هو مشتمل على لحم فيه رطوبة
(الصفحة 183)
كسائر الفواكه وعليه فلا ماء في جوف العنب حتّى يعرض له الغليان لأنّ الغليان كما مرّ هو القلب والتصاعد والتنازل ولا يتصوّر هذا في مثل العنب قبل خروج الماء منه، وعلى تقدير إمكان ذلك نقول الظاهر حرمته لشمول الدليل له وعدم الفرق بينه وبين غيره بحسب نظر العرف أصلاً. هذا تمام الكلام في أحكام العصير العنبي.
المقام الرابع: في حكم العصير الزبيبي والتمري ويطلق على عصيرهما النبيذ اصطلاحاً خصوصاً في عصير التمر كما عن صاحب الحدائق (قدس سره) كما انّه يطلق على عصير الزبيب النقيع والمراد من عصير التمر أو الزبيب ماء نبذ فيه أحدهما وصار ذا حلاوة لأجل المجاورة والملاصقة والكلام تارة في حكمه من حيث النجاسة والطهارة واُخرى فيه من جهة الحلّية والحرمة.
امّا من جهة النجاسة فالظاهر الاتفاق على عدمها ولكن عن المحقّق الأردبيلي (قدس سره)انّه يظهر من الذكرى اختيار نجاسة عصير التمر والزبيب، وعن مفتاح الكرامة إنكار النسبة .
وكيف كان فقد يستدل على نجاسة العصير الزبيبي ـ بعد البناء على نجاسة العصير العنبي ـ تارة بالاستصحاب التعليقي واُخرى بالاستصحاب التنجيزي أي استصحاب سببية غليانه للنجاسة فانّه ـ سابقاً ـ كان غليانه سبباً للنجاسة حسب الفرض والآن تستصحب تلك السببية ويحكم ببقائها.
ولابدّ أوّلاً من ملاحظة انّ الأدلّة الواردة في العصير الدالّة على نجاسته على ما هو المفروض هل يكون مفادها ثبوت حكم تعليقي مرجعه إلى انّ العصير إذا غلى ينجس بحيث يكون موضوع الحكم ذات العصير ونفسه، والغليان واسطة في الثبوت كالنار التي تكون واسطة لثبوت الحرارة لنفس الماء، أو يكون مفادها ثبوت حكم تنجيزي قد رتّب على العصير المغلي بحيث يكون الموضوع العصير
(الصفحة 184)
الموصوف بهذا الوصف؟ وبين الصورتين فرق فاحش في باب الاستصحاب ضرورة انّه لو كان الموضوع في قوله: «الماء المتغيّر بالنجاسة نجس» هو الماء الموصوف بوصف التغيّر وكان الونصف من مقدّمات الموضوع ـ كما هو ظاهر الكلام ـ فلا مجال لاستصحاب النجاسة فيما إذا زال التغيّر من قبل نفسه لتغاير الموضوع واعتبار وحدته في جريان الاستصحاب، وامّا لو كان الموضوع هو نفس الماء والتغيّر واسطة في الثبوت كما هو مفاد قوله: «الماء إذا تغيّر بالنجاسة ينجس» فلا مانع من إجراء الاستصحاب في الفرض بعد بقاء الموضوع الذي هو ذات الماء على ما هو المفروض.
إذا عرفت ذلك نقول: إنّ ظواهر الأدلّة التي استدلّ بها على نجاسة العصير مختلفة فانّ ظاهر بعضها جعل الحكم التنجيزي للعصير المطبوخ أو المغلي، وظاهر بعضها الآخر كمرسلة محمد بن الهيثم: «إذا تغيّر عن حاله وغلا فلا خير فيه» جعل الحكم التعليقي لنفس العصير بل وكذا خبر أبي بصير المشتمل على قوله (عليه السلام): «إن طبخ حتّى يذهب منه اثنان ويبقى واحد فهو حلال» فإن قلنا: بأنّ نجاسة العصير حكم تعليقي قد ثبت للعصير قبل غليانه ويتوقّف فعلية الحكم وتنجّزه على وجود المعلّق عليه وهو الغليان فلا مانع من استصحاب الحكم التعليقي الذي ثبت في العصير العنبي وابقائه في العصير الزبيبي. وامّا لو كان الحكم ثابتاً بنحو التنجّز فلا مجال للاستصحاب أصلاً كما عرفت.
نعم على فرض ثبوت الحكم التعليقي ربّما يستشكل في استصحابه من وجوه اُخر:
الأوّل: انّ موضوع القضية المتيقّنة غير باق في المشكوكة ولا اتحاد بين القضيتين في الموضوع أصلاً ولذا لا يمكن التمسّك بدليل حكم عصير العنب على حكم عصير