(الصفحة 246)
ومنها: ما عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) فمن زعم أنّهم آمنوا فقد كذب ومن زعم انّهم لم يسلموا فقد كذب».
ومنها: موثقة سماعة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : اخبرني عن الإسلام والايمان أهما مختلفان؟ فقال: إنّ الايمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الايمان، فقلت: فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والايمان: الهدى وما يثبت في القلوب مع صفة الإسلام وما ظهر من العمل به، والايمان أرفع من الإسلام بدرجة، انّ الايمان يشارك الإسلام في الظاهر والإسلام لا يشارك الايمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصفة.
ومنها: غير ذلك من الروايات الظاهرة في مغايرة الإسلام والايمان وإنّ الأوّل مجرّد الإقرار اللساني بالوحدانية والرسالة.
وقد فصل بعض الأعلام ـ على ما تقريرات بحثه ـ بين حدوث الإسلام وبقائه قائلاً: إنّ الحدوث يحتاج إلى الإقرار باللسان دون البقاء والاستمرار فان ولد المسلم لا يحتاج في إسلامه إلى شيء من الإقرار باللسان والاعتقاد بالقلب فانّه ما لم ينكر وحدانيته تعالى أو رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله) فمسلم وإن لم يظهر ولم يعتقد بهما واستدل عليه مضافاً إلى السيرة القطعية المتّصلة بزمانهم (عليهم السلام) حيث إنّه لم يسمع إلزامهم أحداً من المسلمين بالإقرار بالشهادتين حين بلوغه ـ بجملة من الروايات:
منها: ما عن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لو انّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ولم يكفروا. حيث رتّب الكفر في المسلمين على الجحود لأنّهم المراد بـ «العباد» في الرواية ضرورة انّه لا معنى للجملة المذكورة بالإضافة إلى الكفّار
(الصفحة 247)
وعليه فما دام المسلم لم يجحد لشيء من الأحكام الإسلامية فهو محكوم بالطهارة والإسلام.
ومنها: ما عن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) جالساً عن يساره، وزرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبدالله (عليه السلام) ما تقول فيمن شكّ في الله؟ فقال: كافر يا أبا محمّد، قال: فشكّ في رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: كافر، ثمّ التفت إلى زرارة فقال: إنّما يكفر إذا جحد. إلى أن قال: ومنها غير ذلك من الأخبار التي تدلّ على عدم اعتبار شيء من الأمرين المتقدّمين في إسلام من حكم بإسلامه من الابتداء، وامّا من حكم بكفره كذلك فالحكم بطهارته يتوقّف على أن يظهر الإسلام بالإقرار بالشهادتين.
ويمكن أن يورد عليه بأنّ جريان السيرة على الحكم بإسلام أولاد المسلمين بعد البلوغ وعدم إلزامهم أحداً منهم بالإقرار بالشهادتين انّما هو لعلمهم بأنّهم يعتقدون بالعقائد الحقّة أو مع شكّهم في ذلك أيضاً، وامّا لو علم عدم اعتقاده بها ولم يظهر الإسلام فلم يعلم جريان السيرة على ذلك لو لم ندع العلم بخلافه.
وامّا الروايات فالإنصاف انّها بصدد بيان ما يحصل به الكفر لا ما به يتحقّق الإسلام وكيف يمكن الحكم بإسلام من نعلم عدم اعتقاده بشيء من العقائد الحقّة ولم يظهر الإسلام أصلاً بمجرّد كون أحد أبويه مسلماً فتدبّر جيّداً فالإسلام مطلقاً هو الإقرار باللسان فقط.
ثمّ إنّ هنا روايات قد حكم في بعضها بكفر من شكّ، وفي بعضها بأنّه لا يكفر إلاّ بالجحود والاستحلال، وفي البعض الثالث بكفر المنكر والشاكّ ـ بمعنى انّه قد جمع بين الشاكّ والمنكر ـ .
فمن الطائفة الاُولى ما عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من شكّ في
(الصفحة 248)
الله ورسوله فهو كافر. والظاهر منها انّه كافر إذا شكّ ولو لم يظهر. ومثلها صحيحة منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : من شكّ في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال: كافر. قال: قلت: فمن شكّ في كفر الشاكّ فهو كافر؟ فأمسك عنّي فرددت عليه ثلاث مرّات فاستبنت في وجهه الغضب. والظاهر منها أيضاً كفر الشاكّ ولو لم يظهر.
ومن الطائفة الثانية صحيحة زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لو انّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا. فإنّ مفهومها توقّف الكفر على الجحد فقط. ورواية عبد الرحيم القصير: ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود والاستحلال.
ومن الطائفة الثالثة التي قد جمع فيها بين الشاكّ والمنكر صحيحة محمد ابن مسلم ـ المتقدّمة ـ التي تدلّ بصدرها على انّ من شكّ في الله أو في رسول الله فهو كافر، وبذيلها على انّ الكفر متوقّف على الجحود فظاهرها التنافي بين الصدر والذيل ولا مجال لتوهّم كون الذيل قرينة على تقييد الصدر بصورة الجحود بعد كون طرف الخطاب في الصدر هو أبا بصير وفي الذيل هو زرارة فلا وجه للتقييد.
ويمكن أن يكون قوله (عليه السلام) في الصحيحة: «انّما الكفر...» بالتشديد من باب التفعيل وعليه فيمكن الجمع بين الصدر والذيل وتقرير عدم التنافي بينهما بأنّ من شكّ في الله أو في رسول الله فهو كافر بينه وبين الله، وامّاالحكم بكفره في الخارج وترتيب آثاره عليه فهو يتوقّف على جحوده وإنكاره وبهذا يمكن الجمع بين الطائفتين الأوليين بحمل الطائفة الاُولى الدالّة على كفاية مجرّد الشكّ في الكفر على الكفر بينه وبين الله وحمل الطائفة الثانية الدالّة على توقّف الكفر على الجحود على الكفر في الخارج وعند الناس وهو الذي يكون موضوعاً للآثار المترتّبة عندهم.
نعم يبقى الكلام في انّ مقتضى هذه الروايات ـ بناءً على ما ذكرنا في الجمع بينها ـ
(الصفحة 249)
هو انّ الكفر أمر وجودي يتوقّف على الجحود والإنكار الذي هو عبارة ـ بحسب الظاهر ـ عن اللفظ الدال عليه أو الأعمّ منه ومن الفعل وعلى أي تقدير فهو أمر وجودي حادث بعد الجحود الذي هو أيضاً كذلك، وقد تقدّم منّا انّ تقابل الكفر والإسلام تقابل العدم والملكة فإذا كان الإسلام عبارة عن الإقرار باللسان ـ كما حقّقناه ـ فالكفر لا محالة يرجع إلى عدم الإقرار ولا يتوقّف على الجحود ـ فكيف يجمع بين هذه الروايات والروايات التي استندنا إليها في معنى الإسلام.
ولا محيص من أن يقال إمّا بكونهما ضدّين وأمرين وجوديين سواء قلنا بثبوت الثالث لهما أو لم نقل به بل كانا ضدّين لا ثالث لهما، أو يقال بأنّ الجحود في هذه الروايات هو مجرّد عدم الإقرار الذي هو أمر عدمي أو يقال بأنّ الروايات الدالّة على توقّف الكفر على الجحود انّما يكون موردها مسبوقيّة الإسلام بدليل قوله (عليه السلام)في رواية القصير: «لا يخرجه» الظاهر في إخراج المسلم من إسلامه إلى الكفر وكذا قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: «لو انّ العباد...» الظاهر في كون المراد هو المسلمين، كما انّ قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مسلم: «انّما يكفر» لا يخلو عن إشعار بذلك لو لم ندع الدلالة. وعليه فنقول: إنّ المسلم الذي أقرّ باللسان إذا اُريد الحكم بكفره لا يتحقّق له طريق غير الجحد والإنكار فانّه ما دام لم يجحد يكون محكوماً بالإسلام بمقتضى إقراره إذ لا يلزم تكرار الإقرار دائماً فالطريق المنحصر هو الجحد والإنكار لإثبات كونه من الكفّار، وامّا الكفر غير المسبوق بالإسلام فلا يتوقّف على الجحد بل يكفي فيه مجرّد عدم الإقرار باللسان فلا ينافي روايات الجحد ما ذكرنا من كون تقابل الأمرين تقابل العدم والملكة. نعم في الكفر المسبوق لا طريق له غير الجحد.
وقد انقدح ممّا ذكرنا انّ التفصيل المتقدّم من بعض الأعلام في معنى الإسلام لابدّ من الالتزام بمثله في الكفر بالكيفية التي ذكرناها فتدبّر جيّداً.
(الصفحة 250)
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا انّ عدم الإقرار بالصانع أو بالوحدانية في الذات أو في الفعل أو في العبادة يوجب تحقّق مفهوم الكفر بلا إشكال، كما انّه ظهر من الروايات المتقدّمة إنّ إنكار الرسالة أيضاً موجب للكفر وانّ الإسلام يتقوّم بالإقرار بالشهادتين ويدلّ على الثاني أيضاً قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله إلى قوله تعالى: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اُعدّت للكافرين)(1) فإنّ ظاهرها إنّ إنكار إعجاز القرآن الملازم لإنكار الرسالة بل مجرّد الريب وعدم الإقرار موجب لتحقّق عنوان الكفر كما لا يخفى.
والظاهر انّ إنكار الخاتمية لا يكون سبباً للكفر في مقابل إنكار الرسالة بل إيجابه للكفر انّما هو من جهة استلزامه لإنكار الرسالة فانّ الخاتمية من ضروريات دين الإسلام وملازمتها له من الواضحات والقرآن معجزة خالدة أبدية ونفسه تدلّ على اتصافه بهذه الصفة فإنكار الخاتمية ملازم لإنكار الرسالة ولا دليل على استقلاله في حصول الكفر.
وامّا إنكار المعاد فلم يقع التعرّض له في كلمات الأصحاب من جهة كونه سبباً مستقلاًّ لحصول الكفر أو كونه مستلزماً لإنكار الرسالة فلا يكون مستقلاًّ في السببية؟ قال بعض الأعلام: إنّا لا نرى لإهمال اعتباره وجهاً وقد قرن الايمان به بالايمان بالله سبحانه في غير واحد من الموارد كما في قوله عزّوجلّ: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)(2) وقوله تعالى: (من كان منكم يؤمن بالله واليوم
- 1 ـ البقرة : 23 .
2 ـ النساء : 59 .