(الصفحة 304)
التراب مطهراً أو انّه أطهر من التنظيف وخصوصاً مع دلالة بعضها على اعتبار التنظيف والإصلاح، ففي خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن بيت كان حشاً زماناً هل يصلح أن يجعل مسجداً؟ قال: إذا نظف واُصلح فلا بأس. فإنّ مقتضى الجمع بينه وبين غيرها اعتبار التنظيف والإصلاح وانّه يحصل بإلقاء التراب والطمّ أيضاً، وعليه فإلقاء التراب أحد الطريقين لحصول الطهارة المعتبرة في المسجدية مطلقاً من دون فرق بين صورة التعذّر والتعسّر وعدمهما.
الثاني: انّه لم يقم دليل على وجوب إزالة النجاسة عن باطن المسجد لأنّ عمدة الأدلّة هي ارتكاز المتشرّعة وانعقاد الإجماع في المسألة. ومن الواضح عدم ثبوت الارتكاز بالإضافة إلى الباطن ولم يعلم اندراجه في معقد الإجماع مع انّه دليل لبّي خصوصاً مع فتوى المجمعين بجواز اتّخاذ الكنيف مسجداً بعد طمّه بل بعد طرح التراب بمقدار يقطع ريحه من غير إشعار في كلامهم بكونه حكماً خاصّاً تعبّدياً مستثنى ممّا أجمعوا عليه من وجوب إزالة النجاسة عن المساجد.
وامّا صحيحة علي بن جعفر فهي على تقدير الدلالة واردة في نجاسة ظاهر المسجد أو جداره لأنّ المفروض فيها إصابة بول الدباة إليهما على خلاف العادة.
وامّا هذه الروايات فموردها نجاسة الباطن ومفادها عدم لزوم التطهير على هذا الفرض فكيف يمكن تعميم الحكم بالإضافة إلى البواطن أيضاً.
ولكن الإنصاف انّ الفتوى بعدم وجوب إزالة النجاسة عن باطن المسجد مشكلة لأنّه ـ مضافاً إلى انّ المرتكز عند المتشرّعة منافاة المسجدية مع النجاسة ومن الواضح انّ باطن المسجد لا يكون خارجاً عن عنوان المسجدية بمجرّد كونه متّصفاً بأنّه باطن ـ يكون المستفاد من روايات اتخاذ الكنيف مسجداً الحاجة إلى التطهير، غاية الأمر كون طمّه بالتراب مطهّراً له بالطهارة المعتبرة في المسجدية
(الصفحة 305)
وعليه فلا يمكن استفادة جواز تنجيس الباطن منها خصوصاً مع انّه لا يرى فرق بين الباطن وبين سقف المسجد مثلاً. نعم لو تنجّس الباطن لا يحتاج تطهيره إلى الماء بل يكفي إلقاء التراب عليه، وامّا جواز التنجيس فلا دلالة لها عليه فيشكل الأمر فيما يقع في هذه الأزمنة أحياناً من جعل أرض المسجد بعد حفره بمقدار أذرع حشّاً ومحلاًّ معدّاً للخلاء وجل محلّ الصلاة هو السقف الواقع على ذلك المحل.
ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على وجوب إزالة النجاسة عن المساجد بقوله تعالى مخاطباً لإبراهيم الخليل (عليه السلام) : (وطهِّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود)(1)بتقريب انّ الأمر ظاهر في الوجوب وانّ الوجوب لا يختصّ بالمخاطب فقط كما انّه لا ينحصر بخصوص بيت الله الحرام لعدم القول بالفصل فيشمل جميع المساجد ولكنّه ربّما يقال إنّ الطهارة المأمور بها لم يعلم كونها هي الطهارة المصطلح عليها في زماننا بل الظاهر كونها بمعناها اللغوي أعني النظافة من القذارات.
ويرد عليه انّ حمل الطهارة على معناها اللغوي إن كان مع حفظ ظهور الأمر في الوجوب كما هو الظاهر فاستفادة وجوب إزالة النجاسة المصطلحة عن الآية بطريق أولى. نعم تمكن المناقشة بأنّه لا يظهر من الآية كون وجوب تطهير المسجد من حيث نفس المسجد بل من جهة الواردين فيه وهو يغاير المطلوب فتدبّر.
ثمّ إنّ وجوب الإزالة لا يختصّ بأرض المسجد بل يشمل بنائها من حائطه وسقفه من الداخل قطعاً ضرورة اتصاف البناء بعنوان المسجدية والجزئية له، وامّا البناء من خارج المسجد كالطرف الخارج من الجدران والواقع فوق السقف فمع فرض كونه جزءً من المسجد بأن جعله الواقف كذلك وقع الإشكال في وجوب
(الصفحة 306)
إزالة النجاسة عنه مع عدم تحقّق الهتك والإهانة والظاهر انّ الدليل العمدة في الباب وهو الارتكاز والإجماع لا دلالة له على الوجوب فيه بعد عدم ثبوت اللسان لهما حتّى يتمسّك بإطلاقه والأخبار الواردة في اتّخاذ الكنيف مسجداً أيضاً لا تدلّ على وجوب إزالة النجاسة عن ذلك لأنّ غاية مفادها منافاة النجاسة في الظاهر مع المسجدية. نعم صحيحة علي بن جعفر على تقدير دلالتها يمكن التمسّك بإطلاقها وترك الاستفصال على وجوب تطهير الطرف الخارج من الجدار أيضاً لكن عرفت كونها أجنبية عن المقام فلا دليل على الوجوب في هذه الصورة إلاّ فيما إذا تحقّق الهتك والإهانة ولكن الاحتياط لا ينبغي تركه. هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بوجوب الإزالة.
الحكم الثاني: حرمة التنجيس والدليل عليها هي الملازمة العرفية فانّه إذا ثبت وجوب إزالة النجاسة عن المسجد بمقتضى ارتكاز المتشرّعة وانعقاد الإجماع في المسألة تثبت حرمة التنجيس عند العرف لأنّ الملاك هي المنافاة بين النجاسة والمسجدية وهي كما تقتضي وجوب الإزالة مع ثبوتها كذلك تقتضي حرمة التنجيس مع عدمها كما لا يخفى مع انّ رواية الحلبي المتقدّمة على فرض عدم كونها أجنبية عن المقام واردة في مورد التنجيس كما انّ حرمة إدخال النجاسة في المسجد ولو لم تكن مسرية كما سيجيء البحث فيه بعد هذا الحكم تدلّ بالأولوية على حرمة التنجيس.
وكيف كان فلا إشكال في أصل هذا الحكم وفي انّ حرمة التنجيس تنحصر بالمواضع التي تجب إزالة النجاسة عنها فإذا لم نقل بوجوب الإزالة عن الطرف الخارج من جدار المسجد فلا يكون تنجيسه أيضاً بمحرم إذا لم يكن موجباً للهتك والإهانة كما هو ظاهر.
(الصفحة 307)
بقي الكلام في هذا المقام في حرمة إدخال النجاسة في المسجد ومحلّ البحث فيها ما إذا لم تكن مسرية موجبة لتنجّسها وإلاّ فلا إشكال في الحرمة لما عرفت من حرمة التنجيس وما إذا لم يكن موجباً للهتك والإهانة وإلاّ فلا إشكال أيضاً في الحرمة ولو لم يكن المدخل هي النجاسة بل القذارات العرفية لما يعلم بالضرورة من الشرع من وجوب تعظيم المساجد التي هي بيوت الله ومحالّ العبادة ولاسيّما الصلاة التي أهمّها فالكلام في إدخال النجاسة غير المتعدية والهاتكة.
وقد حكى القول بالحرمة عن أكثر أهل العلم بل عن الخلاف والسرائر وغيرهما نفي الخلاف عنه، وعن الشهيد (قدس سره) دعوى الإجماع عليه.
والمستند لهم في ذلك أمران:
الأوّل: قوله تعالى: (انّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام)(1) حيث فرع النهي عن قرب المشركين المسجد الحرام الذي هو كناية عن دخولهم فيه على نجاستهم فيستفاد منه عدم ملائمة النجاسة مع الكون في المسجد ولو لم تكن متعدية، والفرق بين سائر المساجد والمسجد الحرام منفي بعدم القول بالفصل وقد نوقش في الاستدلال به بوجوه:
أحدها: ابتناء الاستدلال على كون المراد بالنجاسة هي النجاسة المصطلحة التي لها أحكام كثيرة كحرمة الأكل والمانعية عن الصلاة وغيرهما كما كانت تستعمل بهذا المعنى في عصر الأئمّة (عليهم السلام) ولسانهم وأنّى للمستدلّ بإثبات ذلك فمن أين يعلم ثبوت النجاسة بهذا المعنى في زمان نزول الآية الشريفة بل الظاهر انّ المراد منها هي القذارة المعنوية وهي قذارة الشرك ويؤيّده تعليق الحكم على الوصف المشعر
(الصفحة 308)
بالعلية وانّ الوجه في النهي هو الاتّصاف بوصف الشرك مع انّه يساعده الاعتبار أيضاً فانّ المشرك لا تلائم بين اعتقاده وبين المسجد الحرام الذي هو مركز التوحيد ومحلّ العبادة الخالصة فكيف يناسب مع من يعبد الأصنام فالآية أجنبية عن الدلالة على المقام.
ثانيها: انّه على فرض كون النجاسة في الآية بالمعنى الشرعي المصطلح عليه لكن لم يثبت كون منشأ النهي عن دخولهم في المسجد الحرام نجاستهم ذاتاً لقوّة احتمال ورودها مورد الغالب من كون تجويز الدخول لهم ـ كما كانوا عليه قبل نزول الآية ـ يستلزم سراية النجاسة إلى المسجد وعليه فلا يبعد أن يكون النهي عن دخولهم بهذه الملاحظة فلا يستفاد منها إلاّ حرمة النجاسة المتعدّية الخارجة عن فرض المسألة.
ثالثها: انّه لو كان النهي في الآية متفرّعاً على النجس ـ بالكسر ـ الذي هو صفة مشبهة ومعناه حامل النجاسة وواجدها لكان المستفاد منها حرمة إدخال جميع النجاسات لأنّها متّصفة بهذه الصفة التي لها معنى اشتقاقي بل يمكن التعميم إلى المتنجسات أيضاً فانّها أيضاً نجس ـ بالكسر ـ لكن النهي فيها لم يتفرّع عليه بل فرع على النجس ـ بالفتح ـ الذي هو معنى حدثي يرجع إلى النجاسة والقذارة فكأنّه فرع النهي على نفس النجاسة. ومن المعلوم انّ إطلاقها يحتاج إلى خصوصية مرخصة كالتوغّل فيها وثبوت أعلى المراتب لها فالنهي عن الدخول من آثار هذه المرتبة الكاملة ولا يمكن استفادة ثبوتها بالإضافة إلى المراتب الدانية أيضاً، فإذا قيل: «زيد عدل فاكرمه» لا يستفاد منه وجوب إكرام كل عادل، بل مفاده وجوب إكرام من كان مثل زيد في البلوغ إلى المرتبة القوية من العدالة المصحّحة لإطلاق العدل عليه وعليه فلا يستفاد من الآية إلاّ النهي عن دخول المسجد بالإضافة إلى