(الصفحة 37)
وعلى ما ذكرنا فلا يبقى مجال لما أفاده بعض الأعلام من انّه لا دلالة في شيء من الأخبار على نجاسة المني في هذه المسألة لانصراف المطلقات إلى مني الإنسان واختصاص الصحيحة بما إذا كان البول نجساً لاقتضاء الأشدّية ذلك.
نعم في مقابل أدلّة النجاسة موثقتان توهم دلالتهما على طهارة المني من الحيوانات المحلّلة:
إحداهما: موثّقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه. فانّ الموصول عام للمني لأنّه أيضاً خارج منه.
ثانيتهما: موثقة ابن بكير المعروفة حيث ورد في ذيلها: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز. فإنّ قوله «كلّ شيء» يشمل المني أيضاً.
والإنصاف عدم ثبوت الإطلاق لهما بحيث يشمل المني لأنّ الاُولى منصرفة إلى البول والروث اللذين كثر التعرّض لهما في الروايات ولهذا أوردها صاحب الوسائل (قدس سره) مع تبحّره في تبويب الروايات ـ في باب حكم البول والروث ويؤيّده انّه هل يمكن استفادة حكم الدم أيضاً منها مع ثبوت وصف الخروج له أيضاً وليس ذلك إلاّ لأجل اختصاصها بالاخبثين.
وامّا الثانية فلا تكون في مقام بيان الطهارة والنجاسة بل تكون ناظرة إلى جهة بيان صحّة الصلاة في تجزاء ما يؤكل لحمه من ناحية عدم كونها ممّا لا يؤكل لا من جهة الطهارة والنجاسة ويدلّ على ذلك ذكر الوبر والشعر والألبان فيها أيضاً فلا دلالة للموثقة على طهارة مني الحيوان المأكول بوجه.
والذي يستهل الخطب ما عرفت من قيام الإجماع القطعي على النجاسة في هذه المسألة أيضاً.
(الصفحة 38)
المسألة الرابعة: في مني الحيوانات المحلّلة التي ليست لها نفس سائلة ولا يبعد ـ بعد عدم قيام الإجماع فيها وعدم وجود دليل خاص على النجاسة ـ دعوى انصراف الأدلّة عنها فيصير مقتضى الأصل الطهارة وأشدّية المني من البول بالتقريب الذي ذكرنا لا تقتضي ثبوت النجاسة في هذه المسألة أيضاً بعد الشكّ في أصل ثبوت المني لها أوّلاً وقوّة احتمال الانصراف ثانياً.
(الصفحة 39)
الرابع: ميتة ذي النفس من الحيوان ممّا تحلّه الحياة وما يقطع من جسده حيّاً ممّا تحلّه الحياة عدا ما ينفصل من بدنه من الأجزاء الصغار كالبثور والثالول وما يعلو الشفة والقروح وغيرها عند البرء وقشور الجرب ونحوه، وما لا تحلّه الحياة كالعظم والقرن والسن والمنقار والظفر والحافر والشعر والصوف والوبر والريش طاهر، وكذا البيض من الميتة الذي اكتسى القشر الأعلى من مأكول اللحم بل وغيره، ويلحق بما ذكر الأنفحة وهي الشيء الأصفر الذي يجبن به ويكون منجمداً في جوف كرش الحمل والجدي قبل الأكل، وكذا اللبن في الضرع، ولا ينجسان بمحلهما، والأحوط الذي لا يترك اختصاص الحكم بلبن مأكول اللحم 1.
1 ـ وفيها ثلاث مسائل:
المسألة الاُولى: في ميتة ذي النفس غير الآدمي.
المسألة الثانية: في ميتة الآدمي.
المسألة الثالثة: في ميتة غير ذي النفس.
وقد استفيض نقل الإجماع على النجاسة في الأوّلتين، وعن المعالم انّه قد تكرّر في كلام الأصحاب ادّعاء الإجماع على هذا الحكم وهو الحجّة إذ النصوص لا تنهص بإثباته. وعن المدارك المناقشة في أصل الحكم لفقدان النص على نجاستها وعدم دلالة ما أمر فيها بالغسل ونهى عن الأكل على النجاسة ثمّ ذكر مرسلة الصدوق (قدس سره)في «الفقيه» النافية للبأس عن جعل الماء ونحوه في جلود الميتة مع تصريحه في ديباجته بأنّ ما أورده فيه هو ما أفتى به وحكم بصحّته واعتقد كونه حجّة بينه وبين ربّه، ثمّ قال صاحب المدارك: والمسألة قوية الإشكال.
وكيف كان فقد استدلّ على نجاسة الميتة من ذي النفس غير الآدمي ـ بعد
(الصفحة 40)
الإجماع عليها ـ بقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فانّه رجس الآية)(1) فانّ الظاهر انّ الضمير في قوله «فانّه» يرجع إلى جميع المذكورات لا إلى الأخير فقط لظهوره في كونه تعليلاً للاستثناء من الحلية فيشمل الجميع.
وفيه انّه ـ وإن كان الظاهر رجوع الضمير إلى جميع المذكورات في المستثنى ـ إلاّ انّ الاستدلال بالآية يتوقّف مضافاً إلى ذلك على كون «الرجس» فيها بمعنى النجس الذي هو محل البحث في المقام مع انّه خلاف الظاهر لأنّ الرجس قد استعمل في الكتاب العزيز في موارد كثيرة والمقصود منه فيها هي القذارة المعنوية التي يعبّر عنها بالفارسية بـ «پليدى» ولم يستعمل في شيء منها بمعنى النجس أصلاً، ولا أقلّ من احتمال كون المراد به في هذه الآية هو المراد في سائر الآيات فلا يتمّ الاستدلال بوجه.
نعم قد استدل من السنّة بروايات:
منها: صحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب. فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضّأ منه ولا تشرب.
ومنها: رواية أبي خالد القماط انّه سمع أبا عبدالله (عليه السلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة فقال أبو عبدالله (عليه السلام): إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ.
ومنها: موثّقة سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يمرّ بالماء وفيه
(الصفحة 41)
دابة ميتة قد أنتنت قال: إذا كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ ولا تشرب.
ومنها: موثقة عبدالله بن سنان قال: سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضأ.
ومنها: رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرز أو صعوة ميتة، قال: اخذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضّأ وصبّها، وإن كان غير متفسّخ فاشرب منه وتوضّأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية، وكذلك الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء.
وهل المستفاد من هذه الأخبار المذكورة وغيرها ممّا ورد في الميتة نجاستها مطلقاً ـ كما قال به المشهور ـ أو انّه لا يستفاد منها إلاّ النجاسة في الجملة ـ كما عن صاحب المعالم ـ أو انّه لا يستفاد منها النجاسة أصلاً ـ كما عن المدارك على ما عرفت ـ ؟
الحقّ هو الثاني: امّا استفادة النجاسة فللتصريح في بعضها بها كذيل رواية زرارة المتقدّمة المشتملة على قول أبي جعفر (عليه السلام) : إذا كان الماء أكثر من راوية لا ينجسه شيء تفسخ فيه أو لم يتفسخ فيه إلاّ أن يجيء ريح فغلب على ريح الماء. فانّ هذا القول الشريف مفسّر لصدر الرواية وكاشف عن انّ النهي عن الشرب والتوضّي انّما هو لأجل النجاسة الطارئة عليه من قبل الميتة وعليه فلا يبقى مجال لما أفاده صاحب المدارك مع انّ الأمر بالغسل فيها والنهي عن الشرب والتوضّي يكون المتفاهم منه عرفاً هو النجاسة.
وامّا عدم دلالتها على نجاسة الميتة مطلقاً فلأنّ محط نظر السائل في الأخبار المذكورة هي الميتة النجسة كما هو ظاهر لمن أمعن النظر فيها فانّه قد سُئل فيها عن حكم الماء الذي تقع فيه الميتة لا عن حكم الميتة نفسها ودعوى كون مثل هذا