(الصفحة 40)
الإجماع عليها ـ بقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فانّه رجس الآية)(1) فانّ الظاهر انّ الضمير في قوله «فانّه» يرجع إلى جميع المذكورات لا إلى الأخير فقط لظهوره في كونه تعليلاً للاستثناء من الحلية فيشمل الجميع.
وفيه انّه ـ وإن كان الظاهر رجوع الضمير إلى جميع المذكورات في المستثنى ـ إلاّ انّ الاستدلال بالآية يتوقّف مضافاً إلى ذلك على كون «الرجس» فيها بمعنى النجس الذي هو محل البحث في المقام مع انّه خلاف الظاهر لأنّ الرجس قد استعمل في الكتاب العزيز في موارد كثيرة والمقصود منه فيها هي القذارة المعنوية التي يعبّر عنها بالفارسية بـ «پليدى» ولم يستعمل في شيء منها بمعنى النجس أصلاً، ولا أقلّ من احتمال كون المراد به في هذه الآية هو المراد في سائر الآيات فلا يتمّ الاستدلال بوجه.
نعم قد استدل من السنّة بروايات:
منها: صحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب. فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضّأ منه ولا تشرب.
ومنها: رواية أبي خالد القماط انّه سمع أبا عبدالله (عليه السلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة فقال أبو عبدالله (عليه السلام): إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ.
ومنها: موثّقة سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يمرّ بالماء وفيه
(الصفحة 41)
دابة ميتة قد أنتنت قال: إذا كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ ولا تشرب.
ومنها: موثقة عبدالله بن سنان قال: سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال: إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضأ.
ومنها: رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرز أو صعوة ميتة، قال: اخذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضّأ وصبّها، وإن كان غير متفسّخ فاشرب منه وتوضّأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية، وكذلك الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء.
وهل المستفاد من هذه الأخبار المذكورة وغيرها ممّا ورد في الميتة نجاستها مطلقاً ـ كما قال به المشهور ـ أو انّه لا يستفاد منها إلاّ النجاسة في الجملة ـ كما عن صاحب المعالم ـ أو انّه لا يستفاد منها النجاسة أصلاً ـ كما عن المدارك على ما عرفت ـ ؟
الحقّ هو الثاني: امّا استفادة النجاسة فللتصريح في بعضها بها كذيل رواية زرارة المتقدّمة المشتملة على قول أبي جعفر (عليه السلام) : إذا كان الماء أكثر من راوية لا ينجسه شيء تفسخ فيه أو لم يتفسخ فيه إلاّ أن يجيء ريح فغلب على ريح الماء. فانّ هذا القول الشريف مفسّر لصدر الرواية وكاشف عن انّ النهي عن الشرب والتوضّي انّما هو لأجل النجاسة الطارئة عليه من قبل الميتة وعليه فلا يبقى مجال لما أفاده صاحب المدارك مع انّ الأمر بالغسل فيها والنهي عن الشرب والتوضّي يكون المتفاهم منه عرفاً هو النجاسة.
وامّا عدم دلالتها على نجاسة الميتة مطلقاً فلأنّ محط نظر السائل في الأخبار المذكورة هي الميتة النجسة كما هو ظاهر لمن أمعن النظر فيها فانّه قد سُئل فيها عن حكم الماء الذي تقع فيه الميتة لا عن حكم الميتة نفسها ودعوى كون مثل هذا
(الصفحة 42)
السؤال قرينة على مفروغية نجاسة الميتة ضرورة انّه مع عدم المفروغية لا مجال له أصلاً مدفوعة بأنّه قرينة على مفروغية النجاسة في الجملة لا بنحو الإطلاق، ودعوى انّه على هذا التقدير لابدّ من التقييد بقيد النجاسة مدفوعة أيضاً بأنّ نفس السؤال شاهدة على التقييد من دون حاجة إلى التصريح به وعليه فما أفاده سيّدنا العلاّمة الاستاذ ـ دام ظلّه ـ من انّ توهّم عدم الإطلاق في الروايات وسوسة مخالفة لفهم العرف لا يخلو عن مناقشة بل منع .
وممّا ذكرنا يظهر النظر في استدلاله بصحيحة شهاب من جهة عدم الاستفصال قال: أتيت أبا عبدالله (عليه السلام) أسأله فابتدأني فقال: إن شئت فسل يا شهاب وإن شئت أخبرناك بما جئت له قلت: أخبرني قال: جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضّأ منه أو لا؟ قال: نعم، قال: توضّأ من الجانب الآخر إلاّ أن يغلب الماء الريح فينتن وجئت تسأل عن الماء الراكد من الكرّ ممّا لم يكن فيه تغيّر أو ريح غالبة قلت: فما التغيّر قال: الصفرة فتوضّأ منه وكلّما غلب كثرة الماء فهو طاهر.
فإنّ نفس السؤال قرينة على كون المراد بالجيفة هي النجسة منها ضرورة انّه لا معنى للسؤال في مثل ذلك عن الجيفة الطاهرة وفي مثله لا مجال للاستدلال بعدم الاستفصال، ويؤيّد ما ذكرنا من عدم ثبوت الإطلاق انّه لا ينبغي أن يقال بدلالة الروايات بإطلاقها على نجاسة الميتة من غير ذي النفس كالسمك ونحوه حتّى يحتاج في إخراجها إلى دعوى الانصراف أو إقامة الدليل الخاص عليه كما لا يخفى.
بقي الكلام فيما نسبه صاحب المدارك إلى الصدوق (قدس سره) من القول بالطهارة استظهاراً له من نقل المرسلة مع تصريحه فيه بأنّ ما أورده فيه حجّة بينه وبين ربّه فلابدّ من ذكر المرسلة أولاً ثمّ بيان مراده من كونها حجّة بينه وبين ربّه فنقول.
امّا الرواية فهي ما رواه الصدوق قال: سُئل الصادق (عليه السلام) عن جلود الميتة يجعل
(الصفحة 43)
فيها اللبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال: لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن وتتوضّأ منه وتشرب ولكن لا تصلّي فيها.
وامّا بيان مراده ممّا ذكره في الديباجة فنقول ـ بعد ضعف احتمال العدول عمّا التزم به في أوّل الكتاب خصوصاً بعد ملاحظة كون الرواية مذكورة في أوائل الكتاب ـ الظاهر انّ مراده من كونها حجّة بينه وبين الله انّها حجّة معتبرة عنده لكنّه لا يفتي على طبق كلّ حجّة معتبرة لإمكان معارضتها مع حجّة معتبرة أخرى ولم يظهر منه انّ مراده من ذلك هو ما يفتي على طبقه فعلاً والدليل على ذلك نقل الروايات المتعارضة في كتابه بل في باب واحد منه. وقد نقل فيه رواية عبدالله بن سنان المتقدّمة الدالّة ـ سؤالاً وجواباً ـ على مفروغية نجاسة الميتة غاية الأمر انّه نقلها بنحو الإرسال وعليه فكيف يفتي الصدوق بكل من المرسلتين مع وضوح التعارض وعدم إمكان الفتوى بالمتناقضين. فالظاهر انّ الصدوق حيث اعتقد بكونهما حجّتين معتبرتين بينه وبين الله تعالى يرى بينهما المعارضة والترجيح مع أخبار النجاسة لموافقتها للشهرة الفتوائية ومخالفتها للعامّة.
مع انّ المرسلة التي استظهر من نقلها صاحب المدارك القول بالطهارة قد وردت في جلد الميتة ولعل الصدوق (قدس سره) يرى طهارة جلد الميتة بالدباغة ـ كما هو أحد الأقوال فيه ـ .
كما يحتمل أن تكون الجلود المسؤول عنها في المرسلة جلود الحيوانات التي لا نفس لها خصوصاً بملاحظة ما أفاده بعض الأعلام من انّها تستعمل في صنع ظروف السمن والماء فلا يبقى لها ارتباط بالمقام أصلاً.
المسألة الثانية: في نجاسة الميت من الإنسان والكلام فيها يقع في جهات:
الجهة الاُولى: في أصل النجاسة في مقابل ع دمها وثبوت الطهارة وقد استفيض
(الصفحة 44)
نقل الإجماع عليها بالخصوص ويشملها العموم أو الإطلاق في بعض ما تقدّم وقد وردت فيها روايات خاصّة أيضاً.
منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت فقال: يغسل ما أصاب الثوب.
ومنها: رواية إبراهيم بن ميمون قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل يقع ثوبه على جسد الميّت قال: إن كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه، وإن كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه. يعني إذا برد الميت. والظاهر كونه تفسيراً من الراوي.
ومنها: رواية الاحتجاج قال: ممّا خرج عن صاحب الزمان (عج) إلى محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري حيث كتب إليه: روى لنا عن العالم (عليه السلام) انّه سُئل عن إمام قوم يصلّي بهم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟ فقال: يؤخّر ويتقدّم بعضهم ويتمّ صلاتهم ويغتسل من مسّه، التوقيع: ليس على من مسّه إلاّ غسل اليد، وإذا لم تحدث حادثة تقطع الصلاة تمّم صلاته عن القوم.
ومنها: ما عنه أيضاً: وكتب إليه: وروى عن العالم انّ من مسّ ميّتاً بحرارته غسل يده ومن مسّه وقد برد فعليه الغسل وهذا الميّت في هذه الحال لا يكون إلاّ بحرارته فالعمل في ذلك على ما هو ولعلّه ينحيه بثيابه ولا يمسّه فكيف يجب عليه الغسل، التوقيع: إذا مسّه على (في) هذه الحال لم يكن على إلاّ غسل يده.
ومنها: موثقة عمّار الساباطي قال: سُئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن رجل ذبح طيراً فوقع بدمه في البئر، فقال: ينزح دلاء هذا إذا كان ذكياً فهو هكذا وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماا فيموت فيه فأكبره الإنسان ينزح منها سبعون دلواً، وأقلّه العصفور ينزح منها دلو واحد، وما سوى ذلك فيما بين هذين فإنّ المراد من أكبرية الإنسان