(الصفحة 55)
انّه ظهر الجواب عن التشبّث بالأصل موضوعاً ـ للشكّ في الموت قبل البرد ـ أو حكماً، وعمّا ذكره صاحب الحدائق من الجزم بعدم رفع جميع آثار الحياة وعمّا ادّعى من ملازمة الغسل بالفتح والضم مع انّ مضمومه لا يكون إلاّ بعد البرد فانّ التمسّك بالأصل الموضوعي ممنوع بعد العلم بحصول الموت بمجرّد زهاق الروح وإن لم يتحقّق البرد وبالأصل الحكمي لا مجال له مع وجود الدليل اللفظي وهي الإطلاقات المتقدّمة، والجزم بعدم رفع جميع آثار الحياة لا يدلّ على بقاء الطهارة أيضاً ودعوى الملازمة ممنوعة جدّاً بل ربّما استشهد على عدمها بمرسلة أيّوب بن نوح عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة فإذا مسّه الإنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسّه الغسل فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه. بناء على انجبار سندها بالشهرة فانّ القطعة المبانة من الحي نجسة سواء اشتملت على العظم أم لا ويجب فيها غسل اليد مطلقاً كما يأتي ولكن وجوب الغسل ـ بالضم ـ يختصّ بما إذا كانت مشتملة على العظم على ما هو مقتضى المرسلة المنجبرة.
المسألة الثالثة: في ميتة الحيوان الذي ليست له نفس سائلة وكان طاهراً حال الحياة وقد ادّعى الإجماع على طهارتها في محكي الخلاف والغنية والسرائر والمعتبر والمنتهى ويدلّ عليها ـ مضافاً إلى الإجماع ـ روايات:
منها: موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سُئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البر، والزيت والسمن وشبهه؟ قال: كلّ ما ليس له دم فلا بأس.
ومنها: موثّقة حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام) قال: لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة. فإنّ القدر المتيقّن منها هي الميتة والحصر فيها
(الصفحة 56)
إضافي فيصير المعنى انّه لا يفسد الماء من الميتة إلاّ ما كانت له نفس سائلة.
ومنها: صحيحة ابن مسكان قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : كلّ شيء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس.
ونظيرها: ما عن أبي بصير في حديث قال: وكلّ شيء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس. ومن الواضح انّ نفي البأس في الروايتين ليس لأجل كون البئر معتصماً لا يفسده شيء ضرورة انّه بناء عليه لا فرق بين ما له نفس سائلة وغيره.
وبالجملة: أصل الحكم في الجملة لا ينبغي الإشكال فيه وانّما الإشكال في بعض المصاديق كالعقرب حيث وردت فيها روايات ظاهرة في النجاسة: كموثقة سماعة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن جرّة وجد فيها خنفساء قد مات؟ قال: القه وتوضّأ منه، وإن كان عقرباً فارق الماء وتوضّأ من ماء غيره. ويمكن أن يقال: بأنّه حيث كان العقرب من ذوي السموم يكون الأمر بالإراقة لأجل سمّه ولا دلالة له على كون الإراقة لأجل النجاسة فلا تعارض الروايات الدالّة على طهارته.
ورواية منهال: قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : العقرب تخرج من البئر ميتة قال: استق منها عشرة دلاء، قال قلت: فغيرها من الجيف؟ قال: الجيف كلّها سواء إلاّ جيفة قد اجيفت فإن كانت جيفة قد اُجيفت فاستق منها مأة دلو فإن غلب عليها الريح بعد مأة دلو فانزحها كلّها. فانّ الأمر بالاستقاء والتسوية بين العقرب وبين غيرها من الجيف يدلّ على نجاسته، ولكنّها ـ مضافاً إلى ضعف سندها وإلى عدم تحقّق النجاسة للبئر فلا يكون الأمر بالاستقاء دليلاً على نجاسته حتّى تكون دليلاً على نجاسة العقرب، وإلى دلالة الروايات المتعدّدة الواردة في النزح على عدم التسوية بين الجيف ـ معارضة في خصوص موردها مع صحيحة ابن مسكان
(الصفحة 57)
ورواية أبي بصير المتقدّمتين وغيرهما ممّا يدلّ على نفي البأس بوقوع العقرب في البئر وجواز التوضّي منه مثل رواية علي بن جعفر انّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن العقرب والخنفساء وأشباههما تموت في الجرّة أو الدن يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس.
وعلى تقدير عدم إمكان الجمع العرفي بينهما بحمل الأمر بالاستقاء على احتمال الضر لأنّه من ذوي السموم فلا يعارض ما دلّ على الطهارة نقول: إنّه على تقدير التعارض يكون الترجيح مع أخبار الطهارة للشهرة الفتوائية على طبقها هذا في العقرب.
وقد اختلف الأصحاب في الوزغ أيضاً بعد مفروغية انّه ممّا لا نفس له فانّه قد ذهب جماعة إلى نجاسته كالكلب وهو المنقول عن الوسيلة، ويظهر من بعضهم نجاسة ميتته واعتمدوا في ذلك على روايات يظهر من بعضها نجاسته حيّاً وميّتاً ومن بعضها الآخر نجاسته ميتاً فقط.
منها: رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيّاً هل يشرب من ذلك الماء ويتوضّأ منه؟ قال: يسكب منه ثلاث مرّات وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ثمّ يشرب منه ويتوضّأ منه، غير الوزغ فانّه لا ينتفع بما يقع فيه. بدعوى انّ عدم جواز الانتفاع بما يقع فيه يكون منشأه نجاسة الوزغ ونجاسة الماء الذي وقع فيه.
ومنها: رواية يعقوب بن عيثم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : سام أبرص وجدنا قد تفسّخ في البئر؟ قال: إنّما عليك أن تنزح منها سبع دلاء. والظاهر انّ السام أبرص نوع من الوزغ.
ومنها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الفأرة والوزغة
(الصفحة 58)
تقع في البئر؟ قال: ينزح منها ثلاث دلاء. بتقريب انّ الأمر بالنزح في الروايتين ظاهر في وجوبه وإيجاب النزح ظاهر في الإرشاد إلى نجاسة الماء وهي تدلّ على نجاسة الوزغ كما هو ظاهر.
ومنها: رواية الفقه الرضوي: فإن وقع في الماء وزغ أهريق ذلك الماء.
والحقّ انّه لا يمكن المساعدة على شيء ممّا استدلّ به على النجاسة لثبوت التعارض بين نفس هذه الروايات حيث إنّ الاُولى منها تدلّ على عدم قابلية الانتفاع بما وقع فيه الوزغ سواء كان حيّاً أو ميّتاً، والثانية تدلّ على جواز الانتفاع بعد نزح سبعة دلاء مع فرض تفسّخ الوزغ في البئر ولا مجال لدعوى كون الثانية مقيّدة للاُولى بحمل عدم الجواز على ما إذا لم يتحقّق النزح لأنّ سياق الاُولى يدلّ على عدم جواز الانتفاع بوجه ولا يقبل التقييد والثانية أيضاً تتعارض مع الثالثة لأنّها تدلّ على وجوب نزح سبع دلاء وهي تدلّ على وجوب نزح ثلاث دلاء، وهذا الاختلاف والتعارض قرينة على عدم كونها في مقام بيان الحكم الإلزامي بل هي مسوقة لإفادة حكم استحبابي كما هو مقتضى الجمع بينها وبين الروايات الدالّة على طهارة الوزغ:
كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن العظاية والحيّة والوزغ يقع في الماء فلا يموت أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به.
ورواية جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن السام أبرص يقع في البئر فقال: ليس بشيء حرّك الماء بالدلو في البئر.
ومرسلة ابن المغيرة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت : بئر يخرج من مائها قطع جلود؟ قال: ليس بشيء انّ الوزغ ربّما طرح جلده وقال: يكفيك دلو من ماء.
وموثّقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث انّه سُئل عن العظاية يقع في اللبن،
(الصفحة 59)
قال: يحرم اللبن قال: إنّ فيها السمّ.
ولو كانت العظاية نوعاً من الوزغ كما قال سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ تكون هذه الرواية مفسِّرة للروايات الدالّة على وجوب النزح فيما وقع الوزغ فيه ومبيّنة للوجه في ذلك وانّ العلّة هي كونها ذات سمّ لا النجاسة.
وبالجملة لا يبقى ارتياب بعدما ذكرنا في طهارة الوزغ. نعم هنا اختلافات في كون الحيوان الفلاني كالحية والتمساح هل تكون ممّا له نفس أم لا ولكن الورود في هذا البحث لا يكون من شأن الفقيه وحكم الشبهة الموضوعية واضح فتدبّر جيّداً.
بقي في مبحث نجاسة الميتة فروع وقع التعرّض لها في المتن:
الفرع الأوّل: القطعة المبانة من الحي وقد حكم عليها بالنجاسة ولابدّ من ملاحظة دليلها فنقول: ربما يستند في ذلك إلى أدلّة نجاسة الميتة فانّها تشملها امّا لكونها ميتة حقيقة لأنّ الميتة بحسب اللغة هو ما ذهب روحه وهذه القطعة قد انقطع عنها الروح بعد صيرورتها مبانة فهي ميتة حقيقة، وامّا لوجود مناط نجاسة الميتة ـ وهو الموت ـ فيها وإن لم يصدق عليها عنوان الميتة.
ويرد عليه انّ العناوين المأخوذة موضوعاً في الأدلّة الشرعية لابدّ وأن تؤخذ من العرف والعقلاء ومن المعلوم انّ إطلاق الميتة على الجزء المبان من الحي بعيد عن الأنظار العرفية وإن كان موافقاً للمعنى اللغوي.
وامّا حديث تنقيح المناط وكشف الحكم بالملاك ففيه انّ إثبات الحكم التعبّدي الذي لم يعلم مناطه بمجرّد الظنّ بالملاك مشكل لأنّ الظنّ لا يسمن ولا يُغني فاستفادة النجاسة في المقام من أدلّة نجاسة الميتة لا مجال لها أصلاً. نعم هنا روايات خاصّة يمكن التمسّك بها:
منها: صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما