(الصفحة 70)
وفي قبال هذه الروايات قد وردت روايات اُخر مشعرة بل ظاهرة في نجاسة المذكورات:
منها: رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه قال: قال جابر بن عبدالله: انّ دباغة الصوف والشعر غسله بالماء، وأي شيء يكون أطهر من الماء. فانّ ظاهرها احتياج الصوف والشعر إلى الدباغة أي التطهير، والتعبير بالدباغة مكان التطهير لعلّه بمناسبة قول العامّة بأنّ دباغة جلد الميتة مطهرة له، وبالجملة تكون هذه الرواية ظاهرة في انّ الشعر والصوف لا يكونان طاهرين بل محتاجين إلى الدباغة لحصول الطهارة ودباغتهما غسلهما بالماء.
وفي الاستدلال بها نظر لكونها ـ مع وهنها بالنقل عن جابر إذ لا وجه لنقل الإمام (عليه السلام) عن جابر ومع عدم وجه للتعبير عن التطهير بالدباغة ـ مخالفة لفتوى الأصحاب والأخبار الكثيرة الدالّة على انّ المذكورات ذكية فلابدّ من أن تحمل الرواية على غسل موضع الملاقاة للميتة فيما إذا نتفا منها كما لا يخفى.
ومنها: ما روا يونس عنهم (عليهم السلام) قالوا: خمسة أشياء ذكية ممّا فيه منافع الخلق: الأنفحة والبيض والصوف والشعر والوبر. والظاهر منها انحصار الذكية وما فيه منافع الخلق في الخمسة المذكورة في الرواية وإن لم نقل بثبوت المفهوم للعدد لأنّ الإمام (عليه السلام) في مقام تعداد الأشياء الذكية الكذائية قد اكتفى بالمذكورات خصوصاً مع التصريح بعنوان الخمس فالظاهر الانحصار مع انّك قد عرفت انّ كل ما ليس فيه روح ذكي ومن المعلوم ثبوت المنافع لجلّها لولا كلّها.
وقد أجاب عنها سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ بأنّه من الممكن أن يكون قوله (عليه السلام): «ذكية» صفة لخمسة وخبرها بعدها فيكون المراد الاخبار بأنّ في بعض المستثنيات منافع للناس.
(الصفحة 71)
واحتماله وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ انّ مضمون الرواية يصير ـ على هذا ـ أمراً غير مرتبط بشأن الإمام (عليه السلام) ولعلّه لذلك أمر بالتأمّل في آخر كلامه والصحيح في الجواب أن يقال: إنّها لا تصلح لمعارضة سائر النصوص الواردة في المقام الدالّة على طهارة كلّ ما ليس فيه روح.
ومنها: رواية الفتح بن زيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً، فكتب (عليه السلام) : لا ينتفع من الميتة باهاب ولا عصب وكلّما كان من السخال، الصوف إن جز والشعر والوبر والأنفحة والقرن ولا يتعدّى إلى غيرها إن شاء الله تعالى. والظاهر منها انّ جواز الانتفاع في الصوف مشروط بالجز وإنّ ما ينتفع من الميتة منحصر في المذكورات ولا يتعدّى إلى غيرها.
والجواب عنها أوّلاً ضعف سندها وثانياً وهن متنها فانّها تكون في مقام بيان ما لا ينتفع من الميتة ثمّ تنتقل إلى بيان ما ينتفع بدون ذكر كلمة : «وينتفع منها» وثالثاً مخالفتها للنصوص المعتبرة الصريحة وفتوى الأصحاب.
ثمّ انّه قد نسب إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) التفصيل في الصوف والشعر والوبر بين ما إذا أخذ ذلك بجزّ وبين ما إذا أخذ بنتف بطهارة الأوّل ونجاسة الثاني والظاهر انّ مراده عدم طهارة اُصولها المتّصلة بجلد الميتة ونجاستها نجاسة الميتة والوجه في ذلك أحد أمرين:
أحدهما: انّ الشعر والصوف ونحوهما يستصحب عند انفصاله بالنتف جزء من أجزاء الميتة ممّا تحلّه الحياة وهو غير مستثنى عن نجاسة الميتة.
ثانيهما: رواية فتح بن زيد الجرجاني ـ المتقدّمة آنفاً ـ الدالّة على اشتراط الانتفاع بالصوف بما إذا جز.
ولا يخفى ما في كلا الأمرين :
(الصفحة 72)
امّا الأوّل فلأنّ محلّ الكلام ما إذا كان الصوف والشعر والوبر مجرّداً عن أجزاء الميتة لا ما إذا كان مستصحباً لشيء من أجزائها.
وامّا الثاني فلما عرفت فيها من ضعف السند واضطراب المتن والمخالفة لفتوى الأصحاب حيث إنّهم قد تعدّوا عن المذكورات فيها مضافاً إلى انّ مقتضاها اشتراط الجزّ في خصوص الصوف من السخال لا الصوف والشعر والوبر من كلّ حيوان فلا تنطبق على المدّعى.
والدليل على عدم الفرق بين الجزّ والنتف ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم وجود الدليل على الفرق ـ رواية حريز قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) لزرارة ومحمد بن مسلم: اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء يفصل من الشاة والدابّة فهو ذكي وإن أخذته منه بعد أن تموت فاغسله وصل فيه. فانّها تدلّ على عدم نجاسة اُصول الشعر والصوف ونحوهما في صورة النتف بالنجاسة العينية المبحوث عنها في المقام ولزوم الغسل للنجاسة العرضية التي حصلت لاُصولها بالاتصال بجلد الميتة.
إن قلت: قد أمر في الرواية بغسل مطلق ما اُخذ من الحيوان بعد أن يموت سواء كان بالجزّ أو بالنتف، وفي صورة الجزّ لم يتّصل ما أخذ منه بالجلد حتّى يغسل للنجاسة العرضية.
قلت: حيث إنّ الأخذ أي أخذ الصوف والشعر من الحيوان بعد أن مات يكون بالنتف غالباً فالرواية ناظرة إلى خصوص هذه الصورة ومحمولة عليه.
الفرع الثالث: البيض من الميتة الذي اكتسى القشر الأعلى والمراد من القشر الأعلى هو الجلد الغليظ الأبيض نوعاً وقد حكم في المتن بطهارته مشروطاً بالشرط المذكور فيه وهو كونه مكتسياً لذلك القشر وهل الطهارة فيه على طبق
(الصفحة 73)
القاعدة من دون حاجة إلى مثل رواية خاصّة أو انّ مقتضى القاعدة النجاسة؟ قال بعض الأعلام ـ على ما في تقريراته ـ : إنّ مقتضى القاعدة الطهارة من دون فرق بين صورة الاكتساء لذلك القشر وعدمه لقصور ما دلّ على نجاسة الميتة عن شمول بيضتها لأنّ أجزاء الميتة وإن كانت نجسة كنفسها إلاّ انّ أدلّة نجاستها غير شاملة لما هو خارج عن الميتة وإن كانت ظرفاً لوجوده من غير أن تتّصل بشيء من أجزاء الميتة فالحكم بطهارة البيضة على وفق القاعدة في كلتا الصورتين.
ولا يخفى ما فيه من المناقشة لأنّ البيضية قبل الانفصال يكون جزء من الحيوان وإن لم تكن متّصلة بشيء من أجزائه كبوله وفضلته ونحوهما، فالأدلّة الدالّة على نجاسة الميتة تشمل البيضة لكونها جزء منها وعليه فيكون مقتضى القاعدة نجاستها مطلقاً.
سلمنا انّ العمومات الدالّة على نجاسة الميتة لا تشمل البيضة لعدم كونها جزء منها ولكنّه لابدّ أن يفصل في ما هو مقتضى القاعدة بين ما إذا كانت البيضة على حالة تسري النجاسة من الميتة إلى باطنها وبين ما إذا لم تكن كذلك إلاّ أن يقال بأنّ البيضة في تلك الحالة لا يطلق عليها عنوانها أو يقال بأنّ الكلام في النجاسة العينية لا النجاسة العرضية الحاصلة من السراية فتدبّر.
وكيف كان فقد وردت في البيضة الخارجة من الميتة طوائف ثلاث من الروايات:
منها: ما دلّ على طهارتها ـ مطلقاً ـ كموثقة حسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السنّ من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة، فقال: كلّ هذا ذكي. وهذه الرواية ناظرة إلى خصوص الطهارة والنجاسة بقرينة إرداف البيضة في السؤال من السنّ.
(الصفحة 74)
ومنها: ما دلّ على جواز أكلها كذلك كرواية صفوان عن الحسين بن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: الشعر والصوف والريش وكل نابت لا يكون ميتاً وقال: وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة فقال: تأكلها.
ومنها: ما فصل فيه بين حالتي الاكتساء وعدمه كموثقة غياث بن إبراهيم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة قال: إن كانت اكتست الجلد الغليظ فلا بأس بها.
وناقش في سندها صاحبا المعالم والمدارك (قدس سرهما) نظراً إلى انّ غياث بن إبراهيم زيدي والراوي عنه ـ وهو محمد بن يحيى ـ مردّد بين محمد بن يحيى الخزاز ومحمد بن يحيى الخثعمي والثاني ممّن لم يذك بعدلين.
وهذه المناقشة انّما تتمّ على مذهبهما من عدم حجّية غير الصحاح من الروايات واعتبار تذكية الرواة بعدلين، وامّا بناء على حجّية خبر الثقة ـ كما هو الحقّ ـ فلا مجال للمناقشة في سندها لأنّ غياث بن إبراهيم سواء كان هو غياث بن إبراهيم الزيدي أو غياث بن إبراهيم التميمي ثقة كما انّ محمد بن يحيى ثقة سواء كان هو محمد بن يحيى الخزاز المذكى بتذكية عدلين أو محمد بن يحيى الخثعمي لأنّ الثاني أيضاً ثقة فلا إشكال في سند الرواية.
وامّا دلالتها الظاهر انّ السؤال فيها يكون عن الحلّية والحرمة لا عن النجاسة والطهارة لكون المنفعة المقصودة من البيضة هي الأكل ولا يتبادر من السؤال عن البيضة إلاّ كون المقصود السؤال عن جواز الأكل وعدمه فنفي البأس في الجواب مشروطاً بالاكتساء للجلد الغليظ لا يكون ناظراً إلاّ إلى جهة الأكل وعليه فالرواية المفصّلة في المقام خارجة عمّا هو محل البحث فيه من الطهارة والنجاسة ودعوى الملازمة بين الأمرين مدفوعة بأنّ جواز الأكل وإن كان ملازماً لثبوت الطهارة