(الصفحة 80)
الشكّ.
وليعلم انّ المراد من طهارة الانفحة طهارتها الذاتية كالشعر والوبر والصوف فلا ينافيها لزوم غسل ظاهرها الملاقى للميتة برطوبة . نعم لو كانت الأنفحة بمعنى المظروف وفرضنا كونه مايعاً كما هو الظاهر فلا يحتاج إلى تطهير ظاهرها كاللبن، كما انّ الظاهر اختصاص الحكم بالانفحة المتعارفة التي تجعل في الجبن كانفحة الجدي والحمل على فرض صحّة اطلاق الانفحة على ما يؤخذ من غيرهما ـ على خلاف ما يظهر من كلام اللغويين من الاختصاص بهما ـ فتدبّر.
الفرع الخامس اللبن من الميتة الواقع في ضرعها وقد اختلف كلمات الأصحاب فيه، فعن الصدوق والشيخ وصاحب الغنية والشهيد (قدس سرهم) القول بالطهارة بل عن الخلاف دعوى الاجماع عليها، وذهب جماعة آخرون منهم العلاّمة والمحقّق وابن إدريس إلى النجاسة بل عن الحلّي انّه قال: لا خلاف فيه بين المحصلين من أصحابنا ويظهر من ذلك انّه لا إجماع بل ولا شهرة في أحد طرفي المسألة فلابدّ من ملاحظة الروايات ليظهر انّها هل تدل على الطهارة أم لا إذ الحكم بالنجاسة لا يتوقّف على دلالتها عليه ضرورة انّ إطلاق أدلّة نجاسة الميتة وشمولها للضرع بضميمة ما دلّ على منجسية كل نجس يقتضي نجاسة اللبن بل يمكن أن يقال بشمول إطلاق أدلّة نجاسة الميتة له من دون حاجة إلى ضمّ دليل آخر لأنّ اللبن الواقع في ضرع الميتة يكون من أجزائها كالبول والروث والبيض على ما تقدّم وعليه فتكون نجاسته عينية وإن كانت العينية لا يترتّب عليها أثر في مثل اللبن كما لا يخفى وكيف كان فالروايات الواردة في المقام:
منها: صحيحة زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت قال: لا بأس به، قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت؟ قال: لا
(الصفحة 81)
بأس به، قلت: والصوف والشعر وعظام الفيل والجلد والبيض يخرج من الدجاجة؟ فقال: كل هذا لا بأس به. ورواه الصدوق مثله إلاّ انّه أسقط لفظ الجلد قال صاحب الوسائل: وهو الصواب.
وربما يناقش فيها بدلالتها على طهارة جلد الميتة مع انّ نجاستها مجمع عليها في المذهب فالرواية غير صالحة للاعتماد عليها.
والجواب عنها:
أوّلاً: ما عرفت من انّها في رواية الصدوق لا تكون مشتملة على لفظ الجلد واستصوبه صاحب الوسائل.
وثانياً: من الممكن أن يكون ذكر الجلد في رديف الأشياء الطاهرة ناشياً عن التقية لاهتمام العامة به وكونه محلاً للكلام في تلك الأعصار ومعركة للآراء بين المسلمين.
وثالثاً: انّه لم يقم دليل على كون السؤالات المتعدّدة الواقعة في الرواية واقعة في مجلس واحد ويؤيّده تعدّد الأجوبة وعليه فلا يقدح الاشتمال على الجلد في الاستدلال.
ومنها: موثقة حسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) وأبي يسأله عن اللبن من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة فقال: كلّ هذا ذكي الحديث. هكذا نقل في بعض نسخ الوسائل وكذا في مرآة العقول للمجلسي (قدس سره) ولذا استشهد بها الأعلام في اللبن مع انّ التناسب في السؤال أيضاً يقتضي أن يكون عن اللبن لا عن السن ـ كما في الوسائل المطبوعة أخيراً ـ .
ومنها: صحيحة حريز قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) لزرارة ومحمد بن مسلم: اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء يفصل من
(الصفحة 82)
الشاة والدابة فهو ذكي وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسل وصل فيه. وليس قوله (عليه السلام) في الذيل: «وإن أخذته بعد أن يموت...» دليلاً على انّ صدر الرواية ناظر إلى الحي بحيث يكون الحكم بالطهارة في مورده فينتج انّه بعد الموت يحتاج إلى الغسل فيما يمكن تطهيره به واللبن واللباء غير قابلين لذلك فهما نجسان إن أُخذا من الميتة بل الذيل شاهد على إطلاق الحكم في الصدر وانّ الطهارة للأشياء المذكورة فيها ثابتة مطلقاً فتدبّر.
ومنها: مرسلة الصدوق قال: قال الصادق (عليه السلام) : عشرة أشياء من الميتة ذكية وعدّ منها اللبن.
والرواية وإن كانت مرسلة إلاّ انّ هذا النحو من الإرسال الذي يرجع إلى النسبة إلى الإمام (عليه السلام) بصورة الجزم والقطع لا يقدح في الاعتماد عليها لكونه يكشف عن وثاقة الرواة عند المرسل ـ بالكسر ـ واعتماده عليها وهذا في الحقيقة توثيق منه للرواة الواقعين في السند وتوثيقه لا يقصر عن توثيق مثل الكشي والنجاشي اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الصدوق في الفقيه قال في ذيلها: «وقد ذكرت ذلك مسنداً في كتاب الخصال في العشرات» وبعد المراجعة إلى الخصال ظهر أنّ في سند الرواية على بن أحمد بن عبدالله وأباه وهما مجهولان.
وفيه ـ مضافاً إلى ما عرفت من انّ الإرسال بهذه الكيفية توثيق لرواة الرواية فلا مجال لدعوى المجهولية ـ انّ المحكي عن العلاّمة تصحيح بعض الروايات الواقع في طريقها علي بن أحمد ونقل عن المجلسي الأوّل انّه قد وثق أباه فالرواية معتبرة ولا مجال للخدشة فيها من حيث السند.
وفي مقابل هذه الروايات رواية وهب عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) انّ علياً (عليه السلام)سُئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن فقال علي (عليه السلام) : ذلك الحرام محضاً.
(الصفحة 83)
ومنها: رواية الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً فكتب (عليه السلام): لا ينتفع من الميتة باهاب ولا عصب وكلّما كان من السخال الصوف ان جزّ والشعر والوبر والانفحة والقرن ولا يتعدّى إلى غيرها إن شاء الله.
ومنها: رواية يونس عنهم (عليهم السلام) قالوا: خمسة أشياء ذكية ممّا فيه منافع الخلق الانفحة والبيض والصوف والشعر والوبر الحديث.
ولا يخفى ما في هذه الروايات من المناقشة:
امّا الاُولى: فلضعفها بوهب فقد عبّر عنه في بعض الموارد بأنّه أكذب البرية وامّا ما أفاده بعض الأعلام في مقام الجواب عن الرواية من انّ الحرمة غير النجاسة فيمكن أن يكون اللبن من الميت حراماً غير نجس فلا ينافي أدلّة النجاسة بوجه فغير تامّ ظاهراً لأنّ حرمة لبن الميت لا يكون لها وجه إلاّ نجاسته وتوهّم النجاسة صار منشأً لسؤال السائل عن لبن الميتة.
وامّا رواية ابن يزيد فقد عرفت المناقشات المتعدّدة فيها من جهة ضعف السند واضطراب المتن والمخالفة للنصوص المعتبرة.
وامّا رواية يونس فقد عرفت أيضاً ما فيها فكيف يمكن أن تعارض الروايات الدالّة على الطهارة مع انّها بين صحيحة وموثّقة أو مثلهما ومن حيث الدلالة ظاهرة.
وامّا ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) من انّ رواية وهب لابدّ وأن يؤخذ بها ويطرح غيرها وإن كانت صحيحة لكون رواية وهب موافقة للقواعد واُصول المذهب وطرح الأخبار الصحيحة المخالفة لاُصول المذهب غير عزيز فممّا لا يكاد يتمّ لعدم كون قاعدة منجسية كل نجس من القواعد المعدودة من اُصول المذهب بحيث لا
(الصفحة 84)
تكون قابلة للتخصيص أصلاً حتّى بالرواية الصحيحة فضلاً عن الروايات الصحيحة المتعدّدة المعتضدة بفتوى جماعة من الأعاظم خصوصاً مع انّه لا دليل لفظياً لهذه القاعدة فانّها منسبكة عن الموارد المتعدّدة والأدلّة المختلفة وتكون قاعدة اصطيادية اللهمّ إلاّ أن لا يكون مراده من القاعدة قاعدة منجسية كل نجس بل كان مراده منها ما هو مقتضى أدلّة نجاسة الميتة من ثبوت النجاسة لها بجميع أجزائها واللبن أيضاً يكون معدوداً منها ويرد عليه حينئذ انّ هذا الدليل أيضاً ليس بحيث لا يكون قابلاً للتخيص فقد خصّص بمثل البيضة والانفحة ولا يكون في اللبن خصوصية أصلاً.
وثانياً: لا دليل على انّ مجرّد موافقة الرواية للقاعدة تكون جابرة لضعفها.
وثالثاً: سلّمنا انّ الموافقة موجبة لانجبار ضعفها بها ولكنّه لو كان لنا عموم وفي قباله روايتان: إحداهما ضعيفة ولكنّها موافقة للعموم، والاُخرى قوية ومخالفة للعموم فهل لا يخصّص ذلك العام بالرواية المعتبرة؟! وهل يكون وجود رواية ضعيفة مخالفة لها مانعاً عن صلاحيتها لتخصيص العام بها؟! فما أفاده الشيخ (قدس سره) ممّا لا يمكن المساعدة عليه. نعم يمكن أن يقال ـ بعد عدم احتياج إثبات النجاسة إلى دليل خاص وكفاية أدلّة نجاسة الميتة لإثبات نجاسة لبنها امّا بدون الضميمة أو معها ـ انّه لابدّ في إثبات الطهارة من إقامة دليل خاص معتبر عليها وأدلّة الطهارة كلّها قابلة للمناقشة لاشتمال صحيحة زرارة على طهارة جلد الميتة وعدم ثبوت كون السؤال في رواية ابنه عن اللبن وعدم ثبوت اعتبار مرسلة الصدوق بعد التصريح برواتها في الخصال وعدم ثبوت وثاقة اثنين منهم وعليه فلا تصلح للمقاومة في قبال أدلّة نجاسة الميتة ويشكل الفتوى بالطهارة ـ حينئذ ـ فالأحوط بمقتضى ما ذكرنا الاجتناب.