(الصفحة 85)
ثمّ إنّه على تقدير القول بالطهارة ـ كما اختاره الماتن دام ظلّه ـ هل يختص ذلك بما إذا كان من الحيوانات المحلّلة أو يعمّ ما إذا كان من الحيوانات المحرّمة أيضاً؟ ظاهر كلام السيّد (قدس سره) في «العروة» هو الثاني واحتاط بالاختصاص في المتن بالاحتياط الذي لا يترك.
والحقّ هو الاختصاص لعدم دلالة روايات الطهارة على أزيد من طهارة لبن الميتة من الحيوان المحلّل فانّ مورد السؤال في صحيحة زرارة هو اللبن الذي يكون في ضرع الشاة وصحيحة حريز وإن كانت مشتملة على ذكر الدابّة مع الشاة إلاّ انّها ـ مع انصراف الدابة إلى الحيوانات المحلّلة ـ يستفاد من ذيلها وهو قوله (عليه السلام): «وان أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصلِّ فيه» انّ الكلام فيما يفصل من الحيوانات التي تجوز الصلاة في أجزائها ـ وهي خصوص الحيوانات المحلّلة ـ فصحيحة حريز أيضاً ظاهرة في الاختصاص وروايتا حسين بن زرارة والصدوق أيضاً تنصرفان إلى ما يؤكل لحمه ويؤيّد الانصراف قوله في رواية فتح بن يزيد أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً فالحقّ هو نجاسة لبن غير المأكول لعدم الدليل على طهارته.
تنبيه لا يخفى انّ جميع المستثنيات من الميتة انّما هو بالإضافة إلى ميتة غير نجس العين، وامّا فيها فلا يستثنى شيء لأنّ الأدلّة الدالّة على نجاسة الكلب مثلاً حيّاً تدلّ على نجاسة جميع أجزائه من دون استثناء وإذا كان جميع أجزائه نجساً في حال الحياة فبعد الموت يكون بطريق أولى وإلاّ فاللازم الالتزام بكون الموت مطهراً ولا يمكن أن يتفوّه به، فما عن السيّد المرتضى (قدس سره) من القول بطهارة شعر الكلب والخنزير بل طهارة كل ما لا تحلّه الحياة منهما غير وجيه بعد كونه جزء لهما لأنّ الكلب في الخارج كلب بجميع أجزائه والموت لا معنى لأن يكون مطهراً إلاّ أن يكون مراده
(الصفحة 86)
الطهارة في حال الحياة أيضاً وعليه فسيأتي البحث معه.
ويشهد لما ذكرنا ـ مضافاً إلى ما عرفت ـ روايتان لحسين بن زرارة:
إحداهما: ما رواه عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه قال: الشعر والصوف والريش وكل نابت لا يكون ميّتاً. الحديث ومعناها انّ المذكورات لا تتغيّر بالموت بلحالها حال قبل الموت.
ثانيتهما: ما رواه أيضاً قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السن (اللبن) من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة فقال: كل هذا ذكي قال: قلت: فشعر الخنزير يجعل حبلاً يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها فقال: لا بأس به. فانّه يدل على انّ نجاسة شعر الخنزير يكون مفروغاً عنها ومورد السؤال حكم الماء الملاقى له وترك الاستفصال يدلّ على نجاسته في كلتا الصورتين فتدبّر.
(في معنى الميتة)
بقي الكلام في بحث نجاسة الميتة في معنى الميتة وبيان المراد منها فقد صرّح السيّد (قدس سره) في العروة بأنّ المراد من الميتة أعمّ ممّا مات حتف أنفه أو قتل أو ذبح على غير وجه شرعي، ويحتمل أن يكون مراده من هذا التفسير بيان انّ الميتة التي تكون موضوعة لأحكام مخصوصة ليست هي خصوص الميتة المصطلحة عرفاً وهي ما مات حتف أنفه بل أعمّ منه وممّا قتل أو ذبح على غير وجه شرعي من دون أن يكون لها حقيقة ثانوية شرعية ويحتمل أن يكون مراده بيان انّ للميتة حقيقة شرعية في قبال حقيقتها اللغوية والعرفية وهي ما زهق روحه بغير سبب شرعي كما هو الظاهر وفاقاً لما أفاده سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ ويستفاد ذلك من موثقة سماعة أيضاً قال: سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال: إذا رميت وسمّيت فانتفع
(الصفحة 87)
بجلده، وامّا الميتة فلا. حيث جعلت الميتة مقابلة للمذكى أي ما رمى وسمى به.
انّما الكلام في انّ الميتة هل هي عنوان وجودي أو عدمي وهو ما لم يذك شرعاً ـ أي غير المذكى ـ وتظهر الثمرة فيما لو شكّ في شيء انّه ميتة أم لا، فانّه على تقدير كونها عبارة عن الأمر الوجودي لا يكاد يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية ولا يترتّب عليه أحكام الميتة بخلاف ما لو كانت عبارة عن الأمر العدمي فانّه يثبت بالاستصحاب ويترتّب عليه أحكامها. ومن الظاهر انّه بعد تسليم ثبوت الحقيقة الشرعية للميتة وثبوت المعنى الثانوي الشرعي لها لا مجال للمراجعة إلى اللغة لاستكشاف كونها أمراً وجودياً أو عدمياً كما صنعه بعض الأعلام على ما في تقريراته ـ .
والحق انّ المتبادر من الميتة عند المتشرّعة عنوان وجودي وهو ما مات بسبب غير شرعي ولا وجه لتوهّم كونها عبارة عمّا مات حتف أنفه بعد ثبوت الحقيقة الشرعية، وامّا قوله تعالى: (حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكيتم)(1) فالظاهر منه ابتداء وإن كان هو انّ الميتة ما مات حتف أنفه لوقوعها في مقابل ما أهلَّ لغير الله به والمنخنقة ومثلها إلاّ انّه مع إمعان النظر يظهر انّها في الآية الكريمة لا تكون إلاّ بالمعنى اللغوي وهو ما زهق روحه وانتهت حياته وانصرمت مدّته بدليل استثناء المذكى عنها بقوله تعالى: (إلاّ ما ذكيتم) ودعوى كون الاستثناء في الكريمة منقطعاً مدفوعة بانّ الاستثناء المنقطع خلاف الظاهر لا يكاد يصار إليه إلاّ مع انحصار الطريق به كما هو واضح.
(الصفحة 88)
وبالجملة فالظاهر انّ الميتة عبارة عن الأمر الوجودي وهو لا يكاد يثبت بالاستصحاب كما انّه لا مجال ـ على ما عرفت ـ للمناقشة في جريان الاستصحاب وترتيب أحكام الميتة على تقدير كونها عبارة عن الأمر العدمي لأنّه ليس إلاّ مثل ما لم يذك من العناوين العدمية الثابتة باستصحاب عدم التذكية على تقدير جريانه.
وقد خالف في ذلك صاحب المدارك (قدس سره) وأنكر جريان الاستصحاب لإثبات النجاسة وغيرها من أحكام الميتة عند الشكّ في التذكية مع اعترافه بترتّب الأحكام على العنوان العدمي وهو ما لم يذك وذكر في وجهه أمرين ثانيهما انّ الأحكام المتقدّمة انّما رتّبت على ما علم انّه ميتة لقوله (عليه السلام) : ما علمت انّه ميتة فلا تصل فيه. وقوله (عليه السلام): وصل فيها حتّى تعلم انّه ميتة بعينه.
وقد استشكل بعض الأعلام على الاستشهاد بمثل الروايتين بأنّ غاية ما يستفاد منهما انّ العلم بالميتة قد اُخذ في موضوع الحكم بالنجاسة وحرمة الأكل وغيرهما من الأحكام إلاّ انّه علم طريقي قد اُخذ في الموضوع منجزاً للأحكام لا موضوعاً لها نظير أخذ التبين في موضوع وجوب الصوم في قوله تعالى: (كلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)والاستصحاب بأدلّة اعتباره صالح لأن يقوم مقام العلم الطريقي كالبيّنة والامارات.
ولا يخفى انّه لا محيص عن الاعتراف بالموضوعية فيما إذا اُخذ العلم في ظاهر الدليل قيداً للموضوع ودخيلاً فيه ولا مجال لدعوى كونه علماً طريقياً لا مدخلية له في الموضوع بحيث يكون ذكره كعدمه غاية الأمر انّ العلم المأخوذ في الموضوع تارة يؤخذ فيه بما انّه صفة خاصّة من الصفات النفسانية واُخرى يؤخذ فيه بما انّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه والفرق بين الصورتين انّما هو في قيام البيّنة والاستصحاب ونحوهما مقامه في الصورة الثانية وعدمه في الصورة الاُولى والمقام انّما هو من قبيل
(الصفحة 89)
الصورة الثانية وإن شئت قلت: إنّ العلم المذكور في موضوعات الأحكام بما انّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه لا يكون المراد به هو العلم الوجداني أصلاً بل المراد به هي الحجّة الشرعية وذكر العلم انّما هو بعنوان المثال، والتبين في آية الصوم يحتمل أن يكون من قبيل الأوّل فتأمّل.
والذي ينبغي أن يقال في جواب صاحب المدارك انّه كما انّ العلم بالميتة قد اُخذ موضوعاً للحكم بالنجاسة وعدم جواز الصلاة فيه كذلك العلم بالمذكى قد اُخذ في موضوع الحكم بجواز الصلاة فيه لقوله (عليه السلام) في موثقة ابن بكير: فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وكل شيء منه جائز إذا علمت انّه ذكي ذكاه الذبح. ومقتضى ذلك عدم جواز الصلاة مع الشكّ في التذكية.
فلا محيص من أن يقال في مقام الجمع بين الروايات إنّ العلم المذكور فيها بمعنى الحجّة الشرعية فإذا قامت حجّة على كونه ميتة فهو نجس لا تجوز الصلاة فيه ويحرم أكله وإذا قامت حجّة شرعية على كونه مذكى فهو طاهر ويجوز الصلاة فيه ويحلّ أكله.
إن قلت: فما حكم المورد الخالي عن الحجّة الشرعية على أحد الطرفين بحيث لا تكون حجّة على كونه ميتة أو مذكّى في البين.
قلت: لا يكاد يوجد مورد لا تقوم فيه الحجّة الشرعية على أحدهما إذ لا أقلّ من استصحاب عدم التذكية بناء على جريانه لو لم تكن حجّة اُخرى موافقة أو مخالفة.
إذا عرفت انّ الميتة عبارة عن الأمر الوجودي يقع الكلام في انّ الأحكام الشرعية الثابتة في موردها هل تكون مترتبة على عنوان الميتة أو عنوان غير المذكّى.