(الصفحة 88)
وبالجملة فالظاهر انّ الميتة عبارة عن الأمر الوجودي وهو لا يكاد يثبت بالاستصحاب كما انّه لا مجال ـ على ما عرفت ـ للمناقشة في جريان الاستصحاب وترتيب أحكام الميتة على تقدير كونها عبارة عن الأمر العدمي لأنّه ليس إلاّ مثل ما لم يذك من العناوين العدمية الثابتة باستصحاب عدم التذكية على تقدير جريانه.
وقد خالف في ذلك صاحب المدارك (قدس سره) وأنكر جريان الاستصحاب لإثبات النجاسة وغيرها من أحكام الميتة عند الشكّ في التذكية مع اعترافه بترتّب الأحكام على العنوان العدمي وهو ما لم يذك وذكر في وجهه أمرين ثانيهما انّ الأحكام المتقدّمة انّما رتّبت على ما علم انّه ميتة لقوله (عليه السلام) : ما علمت انّه ميتة فلا تصل فيه. وقوله (عليه السلام): وصل فيها حتّى تعلم انّه ميتة بعينه.
وقد استشكل بعض الأعلام على الاستشهاد بمثل الروايتين بأنّ غاية ما يستفاد منهما انّ العلم بالميتة قد اُخذ في موضوع الحكم بالنجاسة وحرمة الأكل وغيرهما من الأحكام إلاّ انّه علم طريقي قد اُخذ في الموضوع منجزاً للأحكام لا موضوعاً لها نظير أخذ التبين في موضوع وجوب الصوم في قوله تعالى: (كلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)والاستصحاب بأدلّة اعتباره صالح لأن يقوم مقام العلم الطريقي كالبيّنة والامارات.
ولا يخفى انّه لا محيص عن الاعتراف بالموضوعية فيما إذا اُخذ العلم في ظاهر الدليل قيداً للموضوع ودخيلاً فيه ولا مجال لدعوى كونه علماً طريقياً لا مدخلية له في الموضوع بحيث يكون ذكره كعدمه غاية الأمر انّ العلم المأخوذ في الموضوع تارة يؤخذ فيه بما انّه صفة خاصّة من الصفات النفسانية واُخرى يؤخذ فيه بما انّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه والفرق بين الصورتين انّما هو في قيام البيّنة والاستصحاب ونحوهما مقامه في الصورة الثانية وعدمه في الصورة الاُولى والمقام انّما هو من قبيل
(الصفحة 89)
الصورة الثانية وإن شئت قلت: إنّ العلم المذكور في موضوعات الأحكام بما انّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه لا يكون المراد به هو العلم الوجداني أصلاً بل المراد به هي الحجّة الشرعية وذكر العلم انّما هو بعنوان المثال، والتبين في آية الصوم يحتمل أن يكون من قبيل الأوّل فتأمّل.
والذي ينبغي أن يقال في جواب صاحب المدارك انّه كما انّ العلم بالميتة قد اُخذ موضوعاً للحكم بالنجاسة وعدم جواز الصلاة فيه كذلك العلم بالمذكى قد اُخذ في موضوع الحكم بجواز الصلاة فيه لقوله (عليه السلام) في موثقة ابن بكير: فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وكل شيء منه جائز إذا علمت انّه ذكي ذكاه الذبح. ومقتضى ذلك عدم جواز الصلاة مع الشكّ في التذكية.
فلا محيص من أن يقال في مقام الجمع بين الروايات إنّ العلم المذكور فيها بمعنى الحجّة الشرعية فإذا قامت حجّة على كونه ميتة فهو نجس لا تجوز الصلاة فيه ويحرم أكله وإذا قامت حجّة شرعية على كونه مذكى فهو طاهر ويجوز الصلاة فيه ويحلّ أكله.
إن قلت: فما حكم المورد الخالي عن الحجّة الشرعية على أحد الطرفين بحيث لا تكون حجّة على كونه ميتة أو مذكّى في البين.
قلت: لا يكاد يوجد مورد لا تقوم فيه الحجّة الشرعية على أحدهما إذ لا أقلّ من استصحاب عدم التذكية بناء على جريانه لو لم تكن حجّة اُخرى موافقة أو مخالفة.
إذا عرفت انّ الميتة عبارة عن الأمر الوجودي يقع الكلام في انّ الأحكام الشرعية الثابتة في موردها هل تكون مترتبة على عنوان الميتة أو عنوان غير المذكّى.
(الصفحة 90)
قال بعض الأعلام: انّ حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة حكمان مترتّبان على عنوان غير المذكّى للآية المتقدّمة والموثقتين المتقدّمتين وعليه إذا شككنا في تذكية لحم أو جلد أو نحوهما نستصحب عدم تذكيته ونحكم بحرمة أكله وعدم جواز الصلاة فيه.
وامّا النجاسة وحرمة الانتفاع ـ على تقدير القول بها ـ فهما من الآثار المترتّبة على عنوان الميتة حيث لم يقم دليل على ترتبهما على عنوان غير المذكّى ومعه لا يمكن إثباتها عند الشكّ في التذكية، ويكفينا في ذلك أوّلاً الشكّ في انّ موضوعها هل هو الميتة أو ما لم يذك. وثانياً تصريح بعض أهل اللغة كالفيومي في مصباحه بأنّ الميتة ما مات بسبب غير شرعي.
والإنصاف انّ كلامه ـ أي بعض الأعلام ـ في التفصيل بين الأحكام متين جدّاً ولكنّه لا يخفى ما في كيفية استدلاله لترتّب النجاسة وحرمة الانتفاع على عنوان الميتة لأنّه قد ادّعى أوّلاً انّ النجاسة وحرمة الانتفاع قد ترتّبا على عنوان الميتة جزماً ثمّ قال في مقام الاستدلال: بأنّه يكفينا الشكّ في انّ موضوعها هل هو الميتة أو ما لم يذك ومن المعلوم عدم انطباق الدليل على المدعى. نعم لو كان المدعى عدم الترتّب عند الشكّ في التذكية لكان الانطباق متحقّقاً، وأضعف منه ما استدلّ به ثانياً من تصريح بعض أهل اللغة بما ذكره فانّه لا وجه للاستدلال بكلام اللغوي في إثبات انّ النجاسة وحرمة الانتفاع من آثار الميتة بعد وضوح انّه للميتة حقيقة شرعية والفراغ عن كونها عنواناً وجودياً، مع انّ قوله: ويكفينا في ذلك الشكّ... لا يفهم المراد منه فانّ الظاهر انّ مراده منه انّ ترتّب النجاسة وحرمة الانتفاع على عنوان الميتة هو القدر المتيقّن وترتّبهما على غير المذكّى مشكوك مع انّ الأخذ بالقدر المتيقّن انّما هو فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر في الواقع لا فيما إذا دار الأمر
(الصفحة 91)
بين المتساويين كالميتة وغير المذكى فانّهما في الواقع متساويان ولا فرق بينهما أصلاً غاية الأمر انّ أحدهما وجودي والآخر عدمي فلابدّ في إثبات النجاسة وحرمة الانتفاع من الآثار المترتّبة على الميتة من ملاحظة انّ أدلّة نجاسة الميتة هل تدلّ على ترتّب النجاسة عليها أو على عنوان غير المذكّى وبعد المراجعة إليها تظهر صحّة ذلك ودلالتها على الأوّل وهكذا حرمة الانتفاع ـ على القول بها ـ ، وكيف كان فأصل التفصيل وجيه والفرق بين الآثار ثابت وكون النجاسة من آثار الميتة ظاهر.
وقد خالف في ذلك المحقّق الهمداني (قدس سره) حيث ذهب إلى انّ النجاسة من آثار عدم التذكية واستدلّ عليه بمكاتبة الصيقل قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام): انّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فاُصلّي فيها؟ فكتب إليَّ: اتخذ ثوباً لصلاتك فكتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : كنت كتبت إلى أبيك (عليه السلام) بكذا وكذا فصعب على ذلك فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية؟ فكتب إليَّ: كل أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله فإن كان ما تعمل وحشياً ذكياً فلا بأس. فإنّ المراد من نفي البأس نفي نجاسة الجلود، ومقتضى تعليق الطهارة على كونها ذكيّة انّ موضوع النجاسة هو ما لم يذك.
واستشكل عليه أوّلاً بأنّ الرواية غير معتبرة لجهالة أبي القاسم الصيقل.
وثانياً: انّ الحصر فيها إضافي بمعنى انّ عمله كان دائراً بين الميتة والمذكى ولم يكن مبتلى بغيرهما، وبعبارة اُخرى انّ المذكى في هذه الرواية مقابل الميتة أي إن كان ما تعمل وحشياً ذكياً فلا بأس وإن كان وحشياً ميتاً ففيه بأس أي نجس فصورة الشكّ خارجة عن مفروض الرواية.
وقد انقدح ممّا ذكرنا انّ التفصيل الذي أفاده بعض الأعلام موافق للتحقيق وهو
(الصفحة 92)
مختار صاحب الحدائق (قدس سره) حيث ذهب إلى طهارة ما يشكّ في تذكيته من اللحوم والجلود وغيرهما.