(الصفحة 83)
ومنها: رواية الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً فكتب (عليه السلام): لا ينتفع من الميتة باهاب ولا عصب وكلّما كان من السخال الصوف ان جزّ والشعر والوبر والانفحة والقرن ولا يتعدّى إلى غيرها إن شاء الله.
ومنها: رواية يونس عنهم (عليهم السلام) قالوا: خمسة أشياء ذكية ممّا فيه منافع الخلق الانفحة والبيض والصوف والشعر والوبر الحديث.
ولا يخفى ما في هذه الروايات من المناقشة:
امّا الاُولى: فلضعفها بوهب فقد عبّر عنه في بعض الموارد بأنّه أكذب البرية وامّا ما أفاده بعض الأعلام في مقام الجواب عن الرواية من انّ الحرمة غير النجاسة فيمكن أن يكون اللبن من الميت حراماً غير نجس فلا ينافي أدلّة النجاسة بوجه فغير تامّ ظاهراً لأنّ حرمة لبن الميت لا يكون لها وجه إلاّ نجاسته وتوهّم النجاسة صار منشأً لسؤال السائل عن لبن الميتة.
وامّا رواية ابن يزيد فقد عرفت المناقشات المتعدّدة فيها من جهة ضعف السند واضطراب المتن والمخالفة للنصوص المعتبرة.
وامّا رواية يونس فقد عرفت أيضاً ما فيها فكيف يمكن أن تعارض الروايات الدالّة على الطهارة مع انّها بين صحيحة وموثّقة أو مثلهما ومن حيث الدلالة ظاهرة.
وامّا ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) من انّ رواية وهب لابدّ وأن يؤخذ بها ويطرح غيرها وإن كانت صحيحة لكون رواية وهب موافقة للقواعد واُصول المذهب وطرح الأخبار الصحيحة المخالفة لاُصول المذهب غير عزيز فممّا لا يكاد يتمّ لعدم كون قاعدة منجسية كل نجس من القواعد المعدودة من اُصول المذهب بحيث لا
(الصفحة 84)
تكون قابلة للتخصيص أصلاً حتّى بالرواية الصحيحة فضلاً عن الروايات الصحيحة المتعدّدة المعتضدة بفتوى جماعة من الأعاظم خصوصاً مع انّه لا دليل لفظياً لهذه القاعدة فانّها منسبكة عن الموارد المتعدّدة والأدلّة المختلفة وتكون قاعدة اصطيادية اللهمّ إلاّ أن لا يكون مراده من القاعدة قاعدة منجسية كل نجس بل كان مراده منها ما هو مقتضى أدلّة نجاسة الميتة من ثبوت النجاسة لها بجميع أجزائها واللبن أيضاً يكون معدوداً منها ويرد عليه حينئذ انّ هذا الدليل أيضاً ليس بحيث لا يكون قابلاً للتخيص فقد خصّص بمثل البيضة والانفحة ولا يكون في اللبن خصوصية أصلاً.
وثانياً: لا دليل على انّ مجرّد موافقة الرواية للقاعدة تكون جابرة لضعفها.
وثالثاً: سلّمنا انّ الموافقة موجبة لانجبار ضعفها بها ولكنّه لو كان لنا عموم وفي قباله روايتان: إحداهما ضعيفة ولكنّها موافقة للعموم، والاُخرى قوية ومخالفة للعموم فهل لا يخصّص ذلك العام بالرواية المعتبرة؟! وهل يكون وجود رواية ضعيفة مخالفة لها مانعاً عن صلاحيتها لتخصيص العام بها؟! فما أفاده الشيخ (قدس سره) ممّا لا يمكن المساعدة عليه. نعم يمكن أن يقال ـ بعد عدم احتياج إثبات النجاسة إلى دليل خاص وكفاية أدلّة نجاسة الميتة لإثبات نجاسة لبنها امّا بدون الضميمة أو معها ـ انّه لابدّ في إثبات الطهارة من إقامة دليل خاص معتبر عليها وأدلّة الطهارة كلّها قابلة للمناقشة لاشتمال صحيحة زرارة على طهارة جلد الميتة وعدم ثبوت كون السؤال في رواية ابنه عن اللبن وعدم ثبوت اعتبار مرسلة الصدوق بعد التصريح برواتها في الخصال وعدم ثبوت وثاقة اثنين منهم وعليه فلا تصلح للمقاومة في قبال أدلّة نجاسة الميتة ويشكل الفتوى بالطهارة ـ حينئذ ـ فالأحوط بمقتضى ما ذكرنا الاجتناب.
(الصفحة 85)
ثمّ إنّه على تقدير القول بالطهارة ـ كما اختاره الماتن دام ظلّه ـ هل يختص ذلك بما إذا كان من الحيوانات المحلّلة أو يعمّ ما إذا كان من الحيوانات المحرّمة أيضاً؟ ظاهر كلام السيّد (قدس سره) في «العروة» هو الثاني واحتاط بالاختصاص في المتن بالاحتياط الذي لا يترك.
والحقّ هو الاختصاص لعدم دلالة روايات الطهارة على أزيد من طهارة لبن الميتة من الحيوان المحلّل فانّ مورد السؤال في صحيحة زرارة هو اللبن الذي يكون في ضرع الشاة وصحيحة حريز وإن كانت مشتملة على ذكر الدابّة مع الشاة إلاّ انّها ـ مع انصراف الدابة إلى الحيوانات المحلّلة ـ يستفاد من ذيلها وهو قوله (عليه السلام): «وان أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصلِّ فيه» انّ الكلام فيما يفصل من الحيوانات التي تجوز الصلاة في أجزائها ـ وهي خصوص الحيوانات المحلّلة ـ فصحيحة حريز أيضاً ظاهرة في الاختصاص وروايتا حسين بن زرارة والصدوق أيضاً تنصرفان إلى ما يؤكل لحمه ويؤيّد الانصراف قوله في رواية فتح بن يزيد أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً فالحقّ هو نجاسة لبن غير المأكول لعدم الدليل على طهارته.
تنبيه لا يخفى انّ جميع المستثنيات من الميتة انّما هو بالإضافة إلى ميتة غير نجس العين، وامّا فيها فلا يستثنى شيء لأنّ الأدلّة الدالّة على نجاسة الكلب مثلاً حيّاً تدلّ على نجاسة جميع أجزائه من دون استثناء وإذا كان جميع أجزائه نجساً في حال الحياة فبعد الموت يكون بطريق أولى وإلاّ فاللازم الالتزام بكون الموت مطهراً ولا يمكن أن يتفوّه به، فما عن السيّد المرتضى (قدس سره) من القول بطهارة شعر الكلب والخنزير بل طهارة كل ما لا تحلّه الحياة منهما غير وجيه بعد كونه جزء لهما لأنّ الكلب في الخارج كلب بجميع أجزائه والموت لا معنى لأن يكون مطهراً إلاّ أن يكون مراده
(الصفحة 86)
الطهارة في حال الحياة أيضاً وعليه فسيأتي البحث معه.
ويشهد لما ذكرنا ـ مضافاً إلى ما عرفت ـ روايتان لحسين بن زرارة:
إحداهما: ما رواه عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه قال: الشعر والصوف والريش وكل نابت لا يكون ميّتاً. الحديث ومعناها انّ المذكورات لا تتغيّر بالموت بلحالها حال قبل الموت.
ثانيتهما: ما رواه أيضاً قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السن (اللبن) من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة فقال: كل هذا ذكي قال: قلت: فشعر الخنزير يجعل حبلاً يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها فقال: لا بأس به. فانّه يدل على انّ نجاسة شعر الخنزير يكون مفروغاً عنها ومورد السؤال حكم الماء الملاقى له وترك الاستفصال يدلّ على نجاسته في كلتا الصورتين فتدبّر.
(في معنى الميتة)
بقي الكلام في بحث نجاسة الميتة في معنى الميتة وبيان المراد منها فقد صرّح السيّد (قدس سره) في العروة بأنّ المراد من الميتة أعمّ ممّا مات حتف أنفه أو قتل أو ذبح على غير وجه شرعي، ويحتمل أن يكون مراده من هذا التفسير بيان انّ الميتة التي تكون موضوعة لأحكام مخصوصة ليست هي خصوص الميتة المصطلحة عرفاً وهي ما مات حتف أنفه بل أعمّ منه وممّا قتل أو ذبح على غير وجه شرعي من دون أن يكون لها حقيقة ثانوية شرعية ويحتمل أن يكون مراده بيان انّ للميتة حقيقة شرعية في قبال حقيقتها اللغوية والعرفية وهي ما زهق روحه بغير سبب شرعي كما هو الظاهر وفاقاً لما أفاده سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ ويستفاد ذلك من موثقة سماعة أيضاً قال: سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال: إذا رميت وسمّيت فانتفع
(الصفحة 87)
بجلده، وامّا الميتة فلا. حيث جعلت الميتة مقابلة للمذكى أي ما رمى وسمى به.
انّما الكلام في انّ الميتة هل هي عنوان وجودي أو عدمي وهو ما لم يذك شرعاً ـ أي غير المذكى ـ وتظهر الثمرة فيما لو شكّ في شيء انّه ميتة أم لا، فانّه على تقدير كونها عبارة عن الأمر الوجودي لا يكاد يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية ولا يترتّب عليه أحكام الميتة بخلاف ما لو كانت عبارة عن الأمر العدمي فانّه يثبت بالاستصحاب ويترتّب عليه أحكامها. ومن الظاهر انّه بعد تسليم ثبوت الحقيقة الشرعية للميتة وثبوت المعنى الثانوي الشرعي لها لا مجال للمراجعة إلى اللغة لاستكشاف كونها أمراً وجودياً أو عدمياً كما صنعه بعض الأعلام على ما في تقريراته ـ .
والحق انّ المتبادر من الميتة عند المتشرّعة عنوان وجودي وهو ما مات بسبب غير شرعي ولا وجه لتوهّم كونها عبارة عمّا مات حتف أنفه بعد ثبوت الحقيقة الشرعية، وامّا قوله تعالى: (حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكيتم)(1) فالظاهر منه ابتداء وإن كان هو انّ الميتة ما مات حتف أنفه لوقوعها في مقابل ما أهلَّ لغير الله به والمنخنقة ومثلها إلاّ انّه مع إمعان النظر يظهر انّها في الآية الكريمة لا تكون إلاّ بالمعنى اللغوي وهو ما زهق روحه وانتهت حياته وانصرمت مدّته بدليل استثناء المذكى عنها بقوله تعالى: (إلاّ ما ذكيتم) ودعوى كون الاستثناء في الكريمة منقطعاً مدفوعة بانّ الاستثناء المنقطع خلاف الظاهر لا يكاد يصار إليه إلاّ مع انحصار الطريق به كما هو واضح.