(الصفحة 9)
والإغراء كما هو الحق أو قلنا بأنّ مدلولها هو الوجوب لأنّه بناءً على الأوّل قد استعملت في مفادها وعلى الثاني في مطلق الرجحان مع انّه يحتمل أن يكون المراد ممّا لا يؤكل لحمه في رواية ابن سنان ما لا يعد للأكل ولا يكون أكله متعارفاً لا ما يحرم أكله شرعاً بل لا يبعد دعوى ظهورها في ذلك فيضعف ظهورها في الوجوب حتّى يستفاد منها النجاسة ويؤيّد هذا الاحتمال بل يشهد له بعض الروايات كالروايات الآمرة بالغسل عن أبوال البهائم الثلاث مع معلومية عدم نجاستها من الصدر الأوّل خصوصاً في زمان الصادقين (عليهما السلام) مع انّه لو أغمض عن ذلك وقيل بتعارض الروايتين وعدم شمول أدلّة العلاج للعامين من وجه كما هو الأقرب فالقاعدة تقتضي سقوطهما والرجوع إلى أصالة الطهارة إلاّ أن يقال بإطلاق الروايات الواردة في البول كصحيحة ابن مسلم المتقدّمة الدالّة على وجوب الغسل في مطلق البول وكذا إطلاق ما وردت في العذرة.
أقول: منشأ اختلاف الأقوال هو الاختلاف في المتقدّم من هاتين الروايتين فذهب القائلون بعدم الفرق بين الطيور وغيرها ـ وهو القول المشهور على ما عرفت ـ إلى ترجيح الاُولى على الثانية بدعوى انّها أشهر وأصحّ سنداً بل حكى عن العلاّمة في التذكرة انّ أحداً لم يعمل برواية أبي بصير وعليه فلا محيص عن الأخذ بعموم الرواية الاُولى أو إطلاقها.
وامّا القائلون بالطهارة فقد ذكروا انّه لا وجه لتقديم الاُولى على الثانية امّا أوّلاً فلأنّ الشهرة الفتوائية لا تصلح للمرجحيّة إذ لم يعلم بل ولم يظنّ باستنادهم إليها في فتواهم حتّى يرجح بذلك سندها، وامّا ثانياً فلأنّ الثانية صريحة في نفي البأس وكالصريحة في العموم أي عموم كل شيء يطير بل يتعذّر ارتكاب التخصيص فيها بحملها على خصوص مأكول اللحم من الطير لأنّ تقييد الموضوع بوصف الطيران
(الصفحة 10)
من غير أن يكون له مدخلية في الحكم ولا في إحراز موضوعه لكون المناط حلّية الأكل من غير فرق في ذلك بين الطير وغيره مستهجن عند العقلاء لأنّ الطير إن اُخذ مستقلاًّ عنواناً للموضوع في مقام إعطاء القاعدة، وامّا تخصيص الاُولى فلا استهجان فيه عند العرف لأنّ مرجعه إلى وجوب غسل الثوب من جميع أبوال ما لا يؤكل لحمه إلاّ الطيور، والتخصيص غير الموجب للاستهجان العرفي شائع حتّى قيل ما من عامّ إلاّ وقد خصّ.
واستدلّ القائل بالتفصيل بين الخرء والبول في الطيور المحرّمة بالحكم بالطهارة في الأوّل والتردّد في الثاني بأنّ نجاسة الخرء في مطلق الحيوان غير المأكول انّما ثبتت بعدم القول بالفصل وهو غير متحقّق في الطيور لوجود القول بالفصل فيها وعليه فلا مدرك لنجاسة خرء الطيور، مع انّ تعارض الروايتين انّما هو في البول لعدم اشتمال الاُولى على حكم الخرء والمفروض صراحة الثانية في نفي البأس به فلا تعارض بينهما في الخرء أصلاً فلا موجب لرفع اليد عن الثانية الدالّة على طهارته، وامّا التردّد في البول فللتردّد في تقديم إحدى الروايتين على الاُخرى.
والحقّ تقديم الثانية على الاُولى امّا لما أفاده ـ دام ظلّه ـ من صراحتها في عدم البأس وظهور الاُولى في الوجوب مطلقاً أو عند عدم الدليل على الترخيص كما عرفت من ا لرسالة، وامّا لما ذكرنا من انّ تقديم الثانية على الاُولى لا يوجب التخصيص المستهجن، وامّا العكس فهو يوجب الاستهجان ولغويّة أخذ قيد الطيران في موضوع الحكم. نعم رواية عمّار الآتية بظاهرها تعارض الرواية الثانية إلاّ انّه حيث تدلّ هذه الرواية على عدم البأس بخرء مطلق الطير صريحاً وتلك الرواية تدلّ على ثبوت البأس في خرء ما لا يؤكل لحمه لا يبقى مجال لتقديمها عليها أيضاً لأنّ نفي البأس صريح في الطهارة وثبوته ليس بصريح في النجاسة لملائمته مع
(الصفحة 11)
استحباب الاجتناب أيضاً فلا إشكال في ترجيح الرواية الثانية إلاّ انّ الكلام في إعراض الأصحاب عنها وعدمه ومنشأ توهّم الإعراض عدم تحقّق الفتوى على طبقها من قدماء أصحابنا الإمامية ـ رض ـ وما أفاده مثل العلاّمة ممّا تقدّم ولكن الظاهر انّ عدم تحقّق الفتوى على طبقها لم يعلم كون الوجه فيه اطلاعهم على ثبوت خلل في الرواية فمن الممكن أن يكون الوجه ترجيحهم للرواية الاُولى عليها للأشهرية أو شبهها ولا شهادة في كلام العلاّمة (قدس سره) أيضاً على الإعراض وطرحهم للرواية فتدبّر فالإنصاف بعد ذلك كلّه انّ القول بالطهارة قوي.
نعم هنا رواية أشرنا إليها وهي ما نقله العلاّمة في «المختلف» من كتاب عمّار بن موسى عن الصادق (عليه السلام) قال: خرء الخطاف لا بأس به هو ممّا يؤكل لحمه ولكن كره أكله لأنّه استجار بك وآوى إلى منزلك وكل طير يستجير بك فأجره. وقد استدلّ بها الشيخ الأنصاري (قدس سره) بتقريب انّه (عليه السلام) علّل عدم البأس بخرء الخطاف بأنّه ممّا يؤكل لحمه، وظاهره انّ الخطاف لو لم يكن محلّل الأكل كان في خرئه بأس فالمناط في الحكم بطهارة الخرء هو حلية الأكل من دون فرق في ذلك بين الطيور والحيوانات.
وأورد على الاستدلال بالرواية بعض الأعلام بأنّها ممّا لا يمكن الاعتماد عليه، امّا أوّلاً فلأنّ الشيخ نقلها بإسقاط كلمة «خرء» فمدلولها ـ حينئذ ـ انّ الخطاف لا بأس به ولا دلالة لها على حكم بوله وخرئه، وامّا ثانياً فلأنّها على تقدير الاشتمال على كلمة الخرء لا تقتضي ما ذهب إليه لأنّه لم يثبت انّ قوله: «هو ممّا يؤكل لحمه» علّة للحكم المتقدّم عليه أعني عدم البأس بخرء الخطاف ومن المحتمل أن يكون قوله هذا وما تقدّمه حكمين بيّنهما الإمام (عليه السلام) من غير صلة بينهما، ثمّ قال: «بل الظاهر انّه علّة للحكم المتأخّر عنه أعني كراهة أكله أي الخطاف يكره أكله لأنّه
(الصفحة 12)
وإن كان ممّا يؤكل لحمه إلاّ انّه يكره أكله لأنّه استجار بك وفي جملة: «ولكن كره أكله...» شهادة على انّ قوله: «هو ممّا يؤكل لحمه» مقدّمة لبيان الحكم الثاني».
أقول: امّا الإشكال الأوّل فقد أوضحه سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ بعد حكايته عن الشيخ في باب المطاعم نقل الرواية من غير كلمة «خرء» بانّ احتمال كونها رواية اُخرى نقلها العلاّمة وأهملها الشيخ في غاية البعد بل مقطوع الفساد. نعم يحتمل اختلاف النسخ فدار الأمر بين الزيادة والنقيصة فإن قلنا بتقدّم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لدى العقلاء خصوصاً في المقام ممّا يظنّ لأجل بعض المناسبات وجود لفظ الخرء صحّ الاستدلال بها لكن إثبات بنائهم على ذلك مشكل بل إثبات بنائهم على العمل بمثل الرواية أيضاً مشكل وقد حرّر في محلّه انّه لا دليل على حجّية خبر الثقة إلاّ بنائهم المشفوع بإمضاء الشارع.
ومع الغضّ عن الإشكال الأوّل لا مجال للإشكال الثاني بوجه لأنّ المتفاهم عند العرف من الرواية انّ جملة: «هو ممّا يؤكل لحمه» علّة لنفي البأس عن خرء الخطاف ولو كانت جملة مستقلّة لكان الأنسب أن يقال: «وهو ممّا يؤكل لحمه» مع ـ الواو ـ كما انّ جملة «لأنّه استجار بك» علّة لكراهة أكله، وما أفاده من كون العلّة لكراهة الأكل هي جملة «ممّا يؤكل لحمه» غير صحيح لأنّ ما يلائم أن يكون علّة للكراهة في المقام هو استجارته به لا مأكولية لحمه ضرورة انّ مأكولية اللحم يمكن أن يتوهّم كونها مانعة عن كراهة أكله ولذا قد دفعه الإمام (عليه السلام) بذكر علّة الكراهة بأنّه استجار بك وآوى إلى منزلك فتدبّر.
وقد تحصّل ممّا ذكرنا انّ الأقوى بحسب الأدلّة هو القول بالطهارة وإن كان الاجتناب هو مقتضى الاحتياط ولا بأس بذكر كلام المحقّق الهمداني (قدس سره) في المقام فانّه بعد تقوية القول بالطهارة قال: لكن الذي أوقعنا في الريبة من هذا القول
(الصفحة 13)
وضوح ضعف مستند المشهور وعدم صلاحيته للمعارضة مع الأصل فضلاً عن النص الخاصّ فيظنّ بذلك انّ استدلالهم بمثل هذه الأدلّة لم يكن إلاّ من باب تطبيق الدليل على المدعى لا استفادة المدعى من الدليل فالذي يغلب على الظنّ معهودية الكلّية أعني نجاسة البول والخرء من كل ما لا يؤكل لحمه، لديهم ووصولها إليهم يداً بيد على سبيل الإجمال كجملة من أحكام النجاسات فلمّا أرادوا إثباتها بالبرهان تشبّثوا بمثل هذه الأدلّة القاصرة، ومن خالفهم نظر إلى قصور الأدلّة لا إلى معهودية المدّعى التي ألجأهم إلى الاستدلال بها. انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.
وأنت خبير بأنّ ما أفاده من وصول الحكم بالنجاسة إليهم يداً بيد وعدم استنادهم فيه إلى الأدلّة الواردة إلاّ من باب تطبيق الدليل على المدعى لا استفادة المدعى من الدليل لا يكاد يتجاوز عن مجرّد الاحتمال وعلى تقدير بلوغه إلى مرتبة الظنّ بل الغالب عليه لا دليل على اعتباره بعد وجود النصّ الخاصّ الدالّ على الطهارة وثبوت الاُصول المعتبرة إلاّ أن يثبت الإعراض أوّلاً وكون الإعراض موهناً ثانياً والأوّل غير ثابت ولو سلمنا الثاني.
بقي في هذه المسألة اُمور:
الأمر الأوّل: قد صرّح في المتن بشمول الحكم بنجاسة البول والخرء لغير المأكول بالعارض أيضاً كالجلال وموطوء الإنسان والمرتضع من لبن الخنزيرة إلى أن يشتدّ عظمه ومنشأ التعميم أحد اُمور:
الأوّل: دعوى الإجماع على النجاسة من جماعة الفقهاء ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ كصاحب الغنية حيث ادّعى الإجماع ـ على ما حكي عنه ـ على نجاسة خرء مطلق الجلال وبوله، وعن المختلف والتنقيح والمدارك والذخيرة الإجماع على