(الصفحة 11)
وبالفعل سافر إلى النجف، حيث الحوزة العلمية العريقة علماً وعملاً وفضلاً وشرفاً وسؤدداً والتي هي بحق كانت تمثّل أكبر جامعة علميّة في العالم الإسلامي آنذاك ممّا جعل لرغبة سيّدنا حافزاً عظيماً للإلتحاق بها، وطالما كانت اُمنيته تراوده كي يحضر فيها ويستقي من معينها، بعد أن ذاق طعم الدراسة في حوزتي بروجرد واصفهان... ويالَه من طموح عظيم إنه طموح العظماء، الذين لا يشبعون من العلم، ولا يتهيبون صعوبات ومشاق الرحلة إليه... فحطّ رحاله حيث حلقات الدرس التي يقيمها كلّ من الآخوند المولى محمد كاظم الخراساني، وشيخ الشريعة الاصفهاني والسيد محمد كاظم اليزدي صاحب العروة الوثقى. وكان يومها له من العمر سبع وعشرون سنة. فراح طيلة عشر سنوات يستقي علمه منهم بشغف وجدّية قلَّما لها من نظير. وأفاد من الآخوند (رحمه الله) أيّما إفادة ، حيث انكبَّ على ملازمته أكثر من غيره، كما كان يحظى بإقبال وعناية خاصة من قِبله، إذ كان الآخوند والاصفهاني يتوسمان فيه الذكاء الوقّاد والعبقرية الفذّة ، ويرون له مستقبلاً لا يرقى إليه إلاّ من كان ذا حظٍّ عظيم.
المرحلة الرابعة: بروجرد مرّة اُخرى
ولما عاد إلى بلدة بروجرد سنة 1328 كان مزوّداً بشهادة الاجتهاد من كلّ من شيخيه الخراساني والأصفهاني(1). كانت عودته لزيارة والده السيد علي الطباطبائي الذي وافاه الأجل بعد ستّة أشهر من وصول ابنه، ثمّ ورده خبر وفاة استاذه الآخوند الخراساني. فحالت هاتان المصيبتان عن عودته إلى النجف الأشرف ، فآثر البقاء في مدينته، ودامت إقامته فيها هذه المرّة ستّاً وثلاثين سنة ، وهي أطول مدّة قضاها بشكل متواصل فيها.
- (1) نقباء البشر 2 : 606 .
(الصفحة 12)
حقّاً لقد كانت هذه المرحلة فترةً غنيةً بالعلم والمعرفة، حيث صقلت شخصيته، وعمقت مداركه، وبرّزت مواهبه، فبروجرد لم تكن مدينة بعيدة عن الأجواء العلمية الحوزوية أبداً، بل هي مدينة عريقة بحوزتها، وحافلة بعلومها وعطائها الثرّ وأساتذتها ، وبعلماء كبار وطلبة أفاضل ... هيّأت هذه الأجواء لسيّدنا فرصة عظيمة لتلقّي العلم ، والخوض في أعماقه ونواحيه المختلفة ومجالاته المتنوّعة قبل أن يكون ركناً من أركان الحوزات الشيعية، وعلماً من أعلامها، ومناراً من مناراتها، ومرجعاً كبيراً للطائفة.
يقول السيد المحقّق الجلالي عن هذه الفترة: .. فكانت تلك السنون التي ناهزت الست والثلاثين سنة إلى حين مغادرته المدينة في 1364هـ فرصةً قيّمةً لتركيز معارفه وتكنيزها، تلك التي ضمّت أسرار نبوغ السيد وطلوع شخصيته المرموقة. فقد وجد في البلد العُدّة الكافية من المصادر والعدد الكافي من المحصلين والباحثين لإلقاء الدروس عليهم والتحاور معهم، مع المواظبة والملازمة على الأعمال العلمية المتواصلة دون انقطاع طيلة المدة التي عاشها السيّد وقتئذ ، حيث كان يُلقي الدرس صباحاً ومساءً، كما كان يستوعب كلّ درس ساعةً من الزمن. وكانت حصيلتها التألق في سماء الفقه والاُصول والحديث والرجال، العلوم التي هي الملاك الأساسي للمرجعية الدينية.
وقد استفاد السيد في هذه البلدة من كل الإمكانات المتاحة لتركيز مبانيه العلمية متزوّداً من الطبيعة الطيبة التي تمتاز بها، ومن الهدوء والاحترام الذي يتمتّع به بيته الكريم، ومن قوّة شخصيته الفذّة التي كانت سبباً لالتفاف أهل الفضل والعلم حوله، والأهم من الجميع قلّة المشاغل غير العلمية التي تعوق ذوي الفضل عن التفرّغ للبحث والتحقيق والتوفّر على مسائل العلم(1).
- (1) المنهج الرجالي: 19 ـ 20 .
(الصفحة 13)
إضافةً إلى ما يتمتّع به سيّدنا من نبوغ مبكّر وذكاء مفرط وحافظة جيّدة، وقدرة عجيبة على الصبر والمواظبة والإخلاص، وحرص شديد على عدم إضاعة الوقت، حيث يقول عن نفسه:
إنّي مذ عرفت نفسي لم أفرط بلحظة واحدة من حياتي، ولم أزل حتى الآن على هذه السيرة التي تشاهدونها.
وراح يوصي طلاّبه فيقول: فلا يحسبنَّ أحدٌ أنه سيبلغ المدى عندما يصرف وقته في سائر المشاغل، ويقتصر على ساعة واحدة ـ فقط ـ في اليوم للمطالعة.
وقد كان لا يملّ من المطالعة، بل تدرَّب عليها، واستأنس بها وبقي ذلك ديدنه حتى أيام زعامته وإلى آخر أيام حياته(1).
فمن كانت هذه صفاته كيف لا يسمو ولايرتقي العلياء؟! وكيف لا تكون حياته خصبةً معطاء غنيّة حافلةً بالعِبر والمُثل؟!
ولقد تجلّى نشاطه العلمي في هذه المرحلة من حياته بإلقائه أربع دورات أصولية، وأتمّ بحوثه في الطهارة والصلاة والزكاة والنكاح والطلاق والصيد والذبائح والمتاجر والوصية واللقطة. كما قام بتدريس «شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام» للاّهيجي (رحمه الله). وفي سنة 1363هـ وقبل سنة واحدة من وروده إلى قم كان يقوم بتدريس كتاب «معالم الدين في الاُصول» لولده السيد محمد حسن، وكان ـ كما يقول الشيخ المطهري الذي حضر ذلك الدرس في بروجرد ـ : «درساً حافلاً بالدقة والعمق».
قال السيد الجهرمي: كان يحضر هذا الدرس مَن هو بمستوى كفاية الاُصول من طلبة العلوم الدينية(2).
أما الشيخ آغا بزرك فيقول عنه: ورجع إلى بروجرد فاشتغل بوظائفه
- (1) المنهج الرجالي: 19 ـ 20 .
- (2) المنهج الرجالي : 20 .
(الصفحة 14)
الشرعية، وسطع نجمه أكثر من ذي قبل، واتجهت الأنظار إليه وكثر الإقبال عليه، ورجعت إليه الناس في التقليد، فطبع رسالة عملية وأدار شؤون الحوزة العلمية(1)...
كما يتحدّث عنه السيد الجلالي فيقول:
قد اشتهر فضل السيد وفقاهته على اثر الهجرة الطويلة تلك وشاع اسمه وطار صيّته بين الأعلام، وفي سنة 1355 هـ . ق التي توفي فيها الشيخ الحائري بقم ، حيث اتجهت إليه أنظار أفاضل الحوزة العلمية وأعلامها ، كما كان قد أرجع إليه المرجع العام للشيعة في ذلك العصر السيد أبو الحسن الاصفهاني احتياطاته، فنشرت لأوّل مرّة حاشيته على العروة الوثقى سنة 1355هـ . ق، تلك التي كشفت عن أبعاده العلمية المتميّزة، ممّا زاد في سعة شهرة فقاهة السيد وعظمته العلمية.
وهناك أسس ودعم وركّز مبانيه الاُصولية من خلال دورات الدروس التي ألقاها على تلامذته وناقشها معهم(2).
وكان كثيراً ما ينأى بعلم الاُصول ـ الذي يراه مقدمةً من المقدّمات الاُخرى للورود إلى الفقه ـ عن الفلسفة ومصطلحاتها المعقدة ، وعن العبارات الغامضة وعمّا لا ثمرة عملية له.. ويؤكد على وجوب فهم الأحاديث وظروفها، وعلى عدم الاتكال على ما توصل إليه علماء الرجال ، والاكتفاء به فقط دون النظر والتحقيق والتأمّل.
المرحلة الخامسة: قم المقدّسة
بعد زيارته لمشهد الإمام الرضا (عليه السلام)، ونزولاً عند رغبة فضلائها أمضى فيها
- (1) نقباء البشر 2 : 606 .
- (2) المنهج الرجالي : 24 .
(الصفحة 15)
ثمانية أشهر ـ وقيل ثلاثة عشر شهراً ـ استاذاً وإماماً للجماعة الوحيدة، بعد أن اقتدى به كلّ أئمّة الجماعات هناك. وفي طريق عودته إلى مدينته الاُم، بروجرد، زار مدينة قم المقدّسة، فكان في استقباله جمع كبير من علمائها وفضلائها، ولم يكتف الشيخ عبد الكريم الحائري بأن يكون على رأس المستقبلين، بل طلب من السيد البقاء في قم، فما كان من السيد إلاّ أن يلبّي هذه الدعوة، فبقي فيها خمسة أشهر، وكان هذا في سنة 1347هـ .
يقول السيد الجلالي: فأقام السيد هناك، وبدأ بالتدريس والبحث مدّة خمسة أشهر، كان نجمه فيها يتألّق، لكن الحكومة لم يرُق لها ذلك، فكانت تدبّر المؤامرات وتحيكها; لانتقال السيد إلى بروجرد، تاركاً قم أمله ومأمنه.
وفي عام 1364هـ وبعد سبعة عشر عاماً من عودته إلى مدينته من قم المقدّسة، عاد إلى هذه المدينة المقدسة مرجعاً كبيراً وعَلماً من أعلام الطائفة، تلبيةً لطلب أكثر الأعلام ـ وفي طليعتهم السيّد الإمام الخميني (قدس سره)ـ واستجابةً لرغبة فضلائها بعد التشتّت والاختلاف الذي دبّ بين صفوفها على اثر وفاة مؤسّسها الشيخ الحائري.
يقول الشيخ آغا بزرك : ... فسافر إلى طهران في (1364) للعلاج، وبقي في (مستشفى الفيروزآبادي) سبعين يوماً حتى تحسّنت حاله وبرئ، فطلب منه جمع من طلاّب قم وبعض علمائها أن يحلّ بينهم، فينظم الحوزة العلمية هناك، فأجابهم ووردها في (14 محرّم 1364) أو في (26 صفر 1364 على قول، وقيل في 24 محرّم) وعزم على سكناها; لايجاد روح العلم وتشجيع الطلاّب، حيث تبدّد نظام الهيأة العلمية بعد وفاة المؤسس الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري (رحمه الله)، وتمهدت له الاُمور، واتفق أن فجع العالَم الإسلامي بوفاة السيد أبي الحسن الأصفهاني في (1365) ومضت برهة يسيرة وإذا بأنظار المسلمين في شتى البلاد والأصقاع متجّهةً إليه شاخصةً نحوه... وهو اليوم ـ في عهد الشيخ آغا بزرك ـ أكبر زعماء