(الصفحة 197)
المقدّمة الثالثة في القبلة
إنّ اعتبار استقبال القبلة في المفروض من الصلوات ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، بل هو من ضروريّات الإسلام والفقه كما أنّه لا شكّ في أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة المشرّفة(1) ، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين من كان في المسجد ، ومن كان في الحرم ، ومن كان خارجاً عنهما ، للأخبار الكثيرة الدالّة عليه :
منها : رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : متى صرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر»(2) . فإنّها تدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي إلى الكعبة ، وهذا المعنى كان مسلّماً عند الراوي ، ولذا لم يسأل عنه ، بل سأل عن زمان صرف فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة .
ومنها : رواية أبي بصير عن أحدهما(عليهما السلام) ـ في حديث ـ قال : قلت له : إنّ الله
- (1) الخلاف 1 : 295 ; المقنعة : 95 ; الوسيلة : 85 ; المراسم : 60 ; الغنية : 68 ; المهذّب 1 : 84 ; السرائر 1 : 204 ; المعتبر 2 : 64 ـ 65 ; مختلف الشيعة 2 : 60 ; كشف اللثام 3 : 128 ; جواهر الكلام 7 : 320 .
- (2) التهذيب 2 : 43 ح135 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح1 .
(الصفحة 198)
أمره أن يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم ، ألا ترى أنّ الله يقول :
{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرسول . . .}(1) ثم قال : إنّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس ، فقيل لهم إنّ نبيّكم صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين ، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين»(2) .
وغير ذلك من الروايات الكثيرة التي ربما تبلغ عشرين رواية .
وفي مقابلها ما يدلّ على أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد ، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم ، والحرم قبلة لأهل الدنيا ، كمرسلة عبدالله بن محمّد الحجال عن أبي عبدالله(عليه السلام) : «إنّ الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا» ورواه الصدوق في العلل مثله»(3) .
ورواية ابن عقدة عن بشر بن جعفر الجعفي ، عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) قال : سمعته يقول : «البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة للناس جميعاً»(4) . وغيرهما من الأخبار الواردة بهذا المضمون .
ولكنّها لا تصلح لمعارضة الأخبار الدالّة على أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة لضعف سند بعضها ، وثبوت الارسال في بعضها الآخر ; مع أنّ من عمل بمضمونها كالشيخ(قدس سره) في أكثر كتبه(5) لا يقول بها فيمن صلّى في الحرم متوجّهاً إلى المسجد على
- (1) البقرة : 143 .
- (2) التهذيب 2 : 43 ح138 ; إزاحة العلّة في معرفة القبلة : 2 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح2 .
- (3) علل الشرائع : 415 ب156 ح2 ; التهذيب 2 : 44 ح139 ; الوسائل 4 : 303 . أبواب القبلة ب3 ح1 .
- (4) التهذيب 2 : 44 ح140 ; الوسائل 4 : 304 . أبواب القبلة ب3 ح2 .
- (5) الخلاف 1 : 295 مسألة 41 ; النهاية : 62 ـ 63 ; المبسوط 1 : 77 ـ 78 ، الجمل والعقود : 61 .
(الصفحة 199)
نحو لا يكون مستقبلا إلى الكعبة ، كأن صلّى متوجّهاً إلى زاوية من المسجد ، فأفتى فيه بوجوب مراعاة الكعبة ، وعليه فيمكن أن يدّعى الاجماع(1) على خلاف مضمون هذه الروايات ، بل كاد أن يكون ضروريّاً .
ثمّ إنّه لا تعارض بين الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ الكعبة قبلة للمسلمين ، وبين قوله تعالى :
{وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره}(2) حيث أمر بتولية الوجه شطر المسجد الحرام ، لأنّ المراد بالمسجد في الآية هي الكعبة ، والتعبير عنها به باعتبار قلّة التفاوت بينهما من حيث المقدار ، لأنّ المسجد الحرام قد توسّع في الأزمنة المتأخّرة .
وليس المراد بالكعبة هو خصوص البناء وما أحاطه من الفضاء ، بل المراد به هو البناء وكلّ ما هو مسامت له من تحت الأرض إلى فوق السماء ، كما هو ظاهر رواية عبدالله بن سنان ، أنّه سأل فيها رجل عن صحّة صلاة صلّى فوق أبي قبيس والكعبة واقعة تحته؟ فقال(عليه السلام) : «نعم إنّها قبلة من موضعها إلى السماء»(3) . وهل يكفي التوجّه إلى حجر إسماعيل أم لا؟ المنقول عن جماعة هو الكفاية(4) لكنّ الظاهر عدمها ، لأنّ المتبادر من البيت هو البناء المربع والحجر خارج عنها .
هل المراد بوجوب التوجّه إلى الكعبة وجوب التوجّه إليها بجميع مقاديم البدن أم يكفي توجّه الوجه خاصّة مع خروج طرف الأيمن أو الأيسر؟ وجهان ، بل قولان :
- (1) راجع كشف اللثام 3 : 128 ـ 129 .
- (2) البقرة 2 : 144 .
- (3) التهذيب 2 : 383 ح1598 ; الوسائل 4 : 339 . أبواب القبلة ب18 ح1 .
- (4) نهاية الاحكام 1 : 392 ; تذكرة الفقهاء 3 : 22 مسألة 144 ; الذكرى 3 : 169 ; كشف اللثام 3 : 129 ; مستند الشيعة 4 : 161 ; جواهر الكلام 7 : 326 .
(الصفحة 200)
من أنّ المذكور في قوله تعالى :
{وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره} هو الوجه خاصّة ; ومن أنّ الوجه المذكور في الآية الشريفة لا خصوصية فيه ، بل هو كناية عن مقاديم البدن ، كما يظهر من صدر الآية ، حيث ذكر فيها
{فلنولينّك قبلة ترضيها}(1) فنسب التولية إلى المخاطب دون الوجه .
هذا ، ولا يبعد أن يقال بكفاية توجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها ، ولا يلزم توجّه جميع المقاديم حتى ما هو أوسع من الوجه ممّا لا يحاذيه كالكتف الأيمن أو الأيسر ، لأنّ العرف يفهم من توجّه الوجه إلى شيء أنّ الوجه بوضعه الطبيعي متوجّه إلى ذلك الشيء ، وتوجّهه في هذه الحالة يكون ملازماً لتوجّه المقاديم التي يحاذيه . فالآية الشريفة الآمرة بتولية الوجه نحو الكعبة لا تدلّ على أزيد ممّا ذكرنا ، ومع فرض الشكّ يرجع إلى أصالة عدم وجوب توجّه أزيد من هذا المقدار .
ثمّ إنّه بعدما ظهر ممّا ذكرنا ـ أنّ العبرة بتوجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها ـ يقع الكلام في أنّه هل يتحقّق هذا المقدار بخروج خطّ مستقيم من جزء من أجزاء الوجه إلى الكعبة ، أو لا يحصل بذلك ، بل يلزم أن يخرج ذلك الخطّ من وسط الوجه؟ ومنشأ الإحتمالين أنّ سطح الوجه ليس على نحو تخرج من جميع أجزائه خطوط متوازية كسطح واحد ، بل هو على التقريب يكون ربع الدائرة .
ومن المعلوم أنّ الخطوط المستقيمة الخارجة من كلّ جزء من أجزاء الدائرة ليست على نحو التوازي ، فالشخص المتوجّه إلى الكعبة قد يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إليها دون جزء آخر ; فعلى هذا يقع النزاع في أنّ العبرة في توجّه الوجه إلى شيء هل هو بأن يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إلى
(الصفحة 201)
ذلك الشي ، أو أنّه يتوقّف صدق هذا المفهوم على خروج خطّ مستقيم من وسط الوجه إليه ، فلا يتحقق تولية الوجه إلى الكعبة إلاّ إذا خرج خط مستقيم من وسط الوجه إليها ، وإن كانت الخطوط الخارجة من طرف يسار الوجه أو يمينه قد تصل إلى مكان واقع في طرف يسار الكعبة أو يمينها بعيدة منها بفراسخ؟
لا يبعد أن يقال بأنّ توجّه الوجه نحو شيء لا يتحقّق عند العرف إلاّ إذا خرج من وسطه خطّ إليه ، ولا يكفي مجرّد وصول الخط الخارج من طرف يسار الوجه أو يمينه ، واحتمال أنّه يعتبر في تحقّق الاستقبال إلى الكعبة مثلا خروج خطّ مستقيم من كل جزء من أجزاء الوجه متواز مع الخطّ الآخر على نحو يحدث بين محلّ تقاطع الخطّ الخارج ، والمحلّ الذي يخرج منه زواية قائمة في غاية البعد بل ممّا يقطع بخلافه . لأنّ ذلك فرض مستحيل كما هو محسوس ، نعم يمكن هذا الفرض مع حدوث زاوية حادّة .
وكيف كان فالظاهر أنّ تولية الوجه المأمور بها في قوله تعالى :
{فولّوا وجوهكم شطره} يكون المراد بها هي تولية بعض الوجه على نحو عرفت ، لتحقّقها بنظر العرف بتولية بعضه ، نعم لا يكفي مجرّد وصول الخطّ الخارج من أحد طرفيه كما عرفت .
هنا مسائل :
المسألة الاُولى : ما المراد من جهة الكعبة؟
اختلف الفقهاء رضوان الله عليهم ـ بعد الإتّفاق على أنّ قبلة القريب هي عين الكعبة أو الحرم ـ في أنّ قبلة البعيد هل هي عين الكعبة ، أو الحرم ، أو جهة الكعبة ،