(الصفحة 477)
المقدّمة السادسة في الأذان والإقامة
إعلم أنّه قد ورد ذكر الأذان في موضعين من الكتاب العزيز :
أحدهما : قوله تعالى في سورة المائدة :
{يا أيُّها الذين آمنوا لا تتّخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً من الّذين أُوتُوا الكتاب من قبلكم والكفّار أوليآء واتّقوا الله إن كنتم مؤمنين* وإذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنّهم قومٌ لا يعقلون}(1)
.
وثانيهما : قوله تعالى في سورة الجمعة :
{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون}(2) .
والمراد بالنداء إلى الصلاة المذكور في الآيتين هو الأذان ، إذ لو كان المراد به غيره لنقل ذلك في كتب التواريخ والسير المعدة لنقل جميع حالات النبي(صلى الله عليه وآله)
- (1) المائدة : 57 ـ 58 .
- (2) الجمعة : 9 .
(الصفحة 478)
والمسلمين في زمانه ، ومن المعلوم عدمه ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ المراد هو الأذان لا شيء آخر، والتعبير عنه بالنداء إلى الصلاة يشعر بل يدل على أنّه مجعول لدعوة الناس إلى إقامة الجماعة بعد حضورهم في المساجد، إذ «النداء» لغة عبارة عن الصوت البليغ الذي يسمعه أكثر الناس ، وهو لا يناسب الصلاة منفرداً ، كما أنّ التعبير عنه بالنداء يدل على خروجه عن حقيقة الصلاة جزءً وشرطاً ، وإنّه لا يكون ممّا تتقوم به الصلاة، إذ النداء للشيء غير نفس الشيء ، بل مضمون بعض فصوله الأخيرة كالحيعلات يدل على عدم ارتباطه بالصلاة أصلا ، كما أنّ الإقامة أيضاً كذلك ، لاشتراكها معه في تلك الفصول .
والفرق بينهما أنّ الأذان نداء ودعوة للغائبين ، والإقامة تنبيه للحاضرين المجتمعين في المسجد ، لاشتغالهم بذكر الاُمور الدنيوية بعد حصول الاجتماع كما هو دأبهم ، فربّما لا يلتفتون إلى قيام الصلاة إلاّ بعد ركعة أو أزيد ، فالإقامة تنبيه لهم إلى قيامها .
ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار من التعبير عن الأذان والإقامة معاً بالأذان(1) ، ولو لم تكن الإقامة أيضاً نداءً لم يكن وجه لذلك التعبير بعد كون الأذان لغة بمعنى الإعلام كما لا يخفى .
وبالجملة: فكونهما نداءً دليل على خروجهما عن حقيقة الصلاة وعدم تقومها بهما ، بحيث لو وقعت بدونهما أو بدون أحدهما لبطلت .
ثمّ ممّا ذكرنا من أنّ مشروعية الأذان والإقامة كانت لإقامة الجماعة ، واطلاع الناس على دخول الوقت ، حتّى يجتمعوا في المساجد لإقامتها ، غاية الأمر إنّ الأذان إعلام للبعيد والإقامة إيذان للقريب ، يظهر عدم وجوبهما لا وجوباً استقلالياً ، ولا شرطياً للجماعة ، أو لأصل الصلاة .
- (1) التهذيب 2: 285 ح1139; الإستبصار 1: 304 ح1130; الوسائل 5: 434. أبواب الأذان والإقامة ب29 ح1.
(الصفحة 479)
إذ القول بالوجوب حينئذ مساوق للقول بوجوب الجماعة ، مع أنّها فضيلة للصلاة ، كما هو المرتكز والمعروف بين الناس من زمان النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام)إلى يومنا هذا ، مضافاً إلى إجماع الفقهاء على عدم وجوب الجماعة(1) ، غاية الأمر تأكّد استحبابها هذا ، مضافاً إلى ما ورد في بعض الأخبار من التحريض والترغيب إلى فعلهما بالنسبة إلى المنفرد ، معلّلا بأنّ الصلاة مع الأذان والإقامة أو مع أحدهما سبب لائتمام الملائكة به(2) ، فتصير صلاة المنفرد بذلك جماعة .
غاية الأمر إنّ الصلاة مع أحدهما يوجب ائتمام صف واحد من الملائكة ، طوله ما بين المشرق والمغرب ، ومعهما يوجب ائتمام صفّين منهم ، طول كل واحد منهما كذلك ، فالمصلحة الموجبة لمطلوبيتهما هي صيرورة صلاة المنفرد بهما أو بأحدهما جماعة ، وبعدما كانت الجماعة فضيلة للصلاة لا واجبة ، لا وجه لوجوبهما كما لا يخفى .
هذا كلّه مضافاً إلى أنّه لو كانا واجبين لزم أن يكون وجوبهما ضرورياً ، كوجوب أصل الصلاة لاشتراكهما معها في عموم البلوى ، وأن لا يكون وجوبهما مشكوكاً مورداً للاختلاف بين المسلمين ، بل اللاّزم وضوحه بحيث يعرفه الناس في زمان النبي(صلى الله عليه وآله) .
وبالجملة: فكثرة الابتلاءبهماكمقدار الابتلاء بالصلاة، وعدم التفات البعض أو الكثير أو الأكثر إلى فعلهما ، كما يستفاد من الأخبار الكثيرة الدالة على التحريص والترغيب إلى فعلهما(3) ، تدلّ قطعاً على عدم وجوبهما ، وقد عرفت أنّ التعبير عنهما
- (1) الخلاف : 1 / 541 مسألة 279; المعتبر 2: 414; تذكرة الفقهاء 4: 228 مسألة 528; كشف اللثام : 4 / 442; مستند الشيعة : 8 / 11; جواهر الكلام : 13 / 134 .
- (2) أمالي الطوسي 2: 147; الوسائل 5: 383. أبواب الاذان والإقامة ب4 ح9; وروايات اُخر في الباب.
- (3) راجع الوسائل : 5 / 381. أبواب الاذان والاقامة ب4 .
(الصفحة 480)
بالنداء كما في الآيتين والرواية التي أشرنا إليها ، يدفع الوجوب الشرطي للجماعة أو لأصل الصلاة، لأنّ النداءإلى الشيءيغاير نفس ذلك الشيء ، ولا يكون ممّا يتقوّم به.
فالأقوى عدم وجوبهما ، وكونهما سنّتين مؤكّدتين ، كما هو المشهور بين الإمامية(1) ، ويدل على عدم الوجوب أيضاً ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة ، عن أبيه قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن رجل نسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصلاة؟ قال : «فليمض في صلاته فإنّما الأذان سنّة»(2) .
إذ الظاهر أنّ المراد بالسنّة الاستحباب مقابل الوجوب ، لا ما ثبت مطلوبيته من قول النبي(صلى الله عليه وآله) أو فعله ، مقابل ما ثبت بالكتاب العزيز ، وإلاّ لم تصلح أن تكون الجملة الأخيرة تعليلا للمضي كما لا يخفى ، مضافاً إلى أنّ الأذان ثبت مشروعيّته ومطلوبيته بالكتاب ، كما عرفت من دلالة الآيتين عليه .
والمراد بالأذان في قوله(عليه السلام) : «فإنّما الأذان سنّة» ، ليس خصوص الأذان المقابل للإقامة ، وإلاّ لم يكن وجه لتعليل المضي في الصلاة ، ولو مع نسيان الإقامة ، كما هو مورد الرواية بكون الأذان سنّة ، إذ لعلّ الإقامة كانت واجبة ، فوجوب الإعادة كان ثابتاً من أجل تركها لا ترك الأذان ، فالمراد بالأذان في الرواية الأعم من الإقامة ، والمصحّح لهذا الاستعمال ما عرفت من أنّ الإقامة أيضاً ايذان وتنبيه ، غاية الأمر إنّها إعلام للقريب ، والأذان إعلام للبعيد .
ومنه يظهر أنّ الرواية بنفسها تدلّ على عدم وجوب الإقامة أيضاً ، فلا يحتاج في اثبات عدم وجوبهما إلى ضمّ الاجماع المركّب إليها ، كما فعله العلاّمة في المختلف(3) ، حيث استدلّ بهذه الرواية على عدم وجوب الأذان فقط ، ثم ادّعى
- (1) رياض المسائل 2 : 235 .
- (2) التهذيب 2: 285 ح1139; الاستبصار 1: 304/1130; الوسائل: 5/434; أبواب الاذان والاقامة، ب29 ح1.
- (3) مختلف الشيعة : 2 / 122 .
(الصفحة 481)
الاجماع على عدم الفرق بينه وبين الإقامة في الحكم .
ثمّ إنّه قد يقال: بأنّ المراد من السنّة في الرواية هو ما ثبت مطلوبيته من فعل النبي(صلى الله عليه وآله)أو قوله ، وصلاحية الجملة الأخيرة للتعليل كصلاحية نظيرها للتعليل ، لعدم وجوب الإعادة في الخلل الواقعة في الصلاة نسياناً كما في الأخبار الكثيرة الواردة في نسيان بعض أفعال الصلاة كالتشهّد وأمثاله(1) ، فإنّه علّل فيها عدم وجوب الإعادة ، بكون الأفعال المنسية سنة ، مع أنّ من الواضح إنّه ليس المراد بالسنة فيها الاستحباب .
هذا ، ولكن يرد عليه إنّه إن كان المراد بالسنة ما لم يكن فرضاً من الله تعالى مأموراً به في الكتاب العزيز ، فالأذان والإقامة وإن لم يكن شيء منهما مأموراً به في الكتاب ، إلاّ أنّ أكثر الفروض والواجبات الشرعية تكون كذلك ، وإن كان المراد بها ما لم يكن فرضاً من الله تعالى بل من الرسول(صلى الله عليه وآله) .
غاية الأمر إنّه كان مورداً لإمضاء الله تعالى ، فيرده أنّ الأذان والإقامة لا يكون شيء منهما كذلك ، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة المستفيضة ، بل المتواترة الواردة في مقام التعريض على العامة ، الزاعمين أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) أخذ الأذان من رؤيا عبدالله بن زيد في منامه بقوله : «ينزل الوحي على نبيكم فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبدالله بن زيد(2)؟!»
وقد روي عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه قال : «لمّا أُسري برسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى السماء فبلغ البيت المعمور، وحضرت الصلاة، فأذّن جبرئيل(عليه السلام) وأقام، فتقدّم رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وصفّ الملائكة والنبيّون خلف محمّد(صلى الله عليه وآله)»(3) .
- (1) راجع الوسائل 6: 401 ب7 وص405 ب9 من أبواب التشهّد.
- (2) الذكرى 3: 195; الوسائل 5: 370. أبواب الأذان والإقامة ب1 ح3.
- (3) الكافي 3: 302 ح1; الوسائل 5: 369. أبواب الأذان والإقامة ب1 ح1.