(الصفحة 143)
أنّه قال : «لولا أن أشقّ على اُمّتي لأخّرت العتمة إلى ثلث الليل أو نصفه»(1) . على الاختلاف ، فإنّ المستفاد من ذلك أنّ الإتيان بالعشاء في آخر وقته أفضل ، فلا يجوز جعل زوال الحمرة وقت الفضيلة ، فتدبّر .
وكيف كان فلا يجوز رفع اليد عن مقتضى الطائفة الاُولى ، خصوصاً مع كثرتها ، بحيث لا ينبغي الارتياب فيها مضافاً إلى الشهرة المحقّقة من زمان العلاّمة ، بل كان القائل به قبله أيضاً كثيراً ، ومن هنا ينقدح الخلل فيما استدلّ به الشيخ في الخلاف(2) في عبارته المتقدّمة ، ما ملخّصه : إنّ ما بعد الشفق متيقن ، وقبله مشكوك ، وجه الخلل أنه لا مجال للشكّ بعدما عرفت من كثرة الأخبار الدالة على دخول وقتها بمجرّد الفراغ من المغرب(3) ، وعدم إمكان رفع اليد عنها كما لا يخفى .
المسألة السادسة : آخر وقت صلاة العشاء
فنقول : اختلف المسلمون في ذلك ، فحكي عن العامة أقوال أربعة :
أحدها : ما اختاره إبراهيم النخعي من القول بامتداده إلى ربع الليل ، بلا فرق بين صورتي الاختيار والاضطرار(4) .
ثانيها : ما ذهب إليه أبو حنيفة ، والثوري ، والشافعي في القديم ، وجماعة من
- (1) الكافي 3 : 281 ح13 ; الوسائل 4 : 186 . أبواب المواقيت ب17 ح12 و13 ; سنن ابن ماجة 1 : 226 ح691 ; سنن الترمذي 1 : 214 ح167 ; سنن النسائي 1 : 301 ح530 ; صحيح البخاري 1 : 161 ح571 ; صحيح مسلم 5 : 116 ، ب39 ، ح225 .
- (2) الخلاف 1 : 262 مسألة 7 .
- (3) الكافي 3 : 281 ح16 ; الفقيه 1 : 142 ح662 ; التهذيب 2 : 260 ح1037 ; الوسائل 4 : 184 و186 . أبواب المواقيت ب17 ح2 و 14 .
- (4) عمدة القاري 5 : 62 و 69 ; المجموع 3 : 39 ـ 40 ; مغني المحتاج 1 : 124 ; الخلاف 1 : 265 مسألة 8 .
(الصفحة 144)
القول بامتداده للمختار إلى النصف ، وللمضطر إلى الطلوع(1) .
ثالثها : الامتداد إلى الفجر مطلقاً ، حكي ذلك عن ابن عباس ، وعطا ، وطاووس ، وعكرمة ، ومالك(2) .
رابعها : الامتداد إلى الثلث للمختار ، وإلى الفجر للمضطر ; ذكره الشافعي في الجديد(3) .
وقد ظهر من ذلك أنّ القول بالإمتداد إلى الفجر في الجملة قول معروف بينهم ، لأنّه لم يخالف فيه أحد منهم إلاّ النخعي .
وأمّا الإمامية فهم أيضاً مختلفون في ذلك ، لاختلاف الأخبار الواردة في هذا الباب ، والقول الذي كان معروفاً بينهم في جميع الأعصار هو القول بالامتداد إلى نصف الليل، أوثلثها، وأمّاالقائل بالامتداد إلى الفجر فقليل جدّاً . وقد أفتى به المحقّق في المعتبر بالنسبة إلى المضطرّين(4) ، وعبارة الصدوق(رحمه الله) في الفقيه(5) ظاهرة في اختياره ذلك. وحكاه الشيخ أيضاًفي المسبوط عن بعض أصحابناالإمامية(6)، ولكنّه يبعدأن يكون مراده بذلك البعض هوالصدوق; وبالجملة فهذاالقول في غاية الشذوذ.
وأمّا القول بالامتداد إلى نصف الليل ، فذهب إليه السيّد ، وابن إدريس ، والحلبي ، وجماعة(7) ; وصرّح بعضهم بكونه آخر وقت المضطرّ ، وأنّ آخر الوقت
- (1) عمدة القاري 5 : 62 و 69 ; المجموع 3 : 39 ـ 40 ; مغني المحتاج 1 : 124 ; الخلاف 1 : 265 مسألة 8 .
- (2) عمدة القاري 5 : 62 ; المجموع 3 : 40 ; الخلاف 1 : 264 مسألة 8 ; ونقل فيه عنهم القول بالامتداد إلى طلوع الفجر الثاني لا مطلقاً كما في المتن .
- (3) المجموع 3 : 39 ; عمدة القاري 5 : 29 و 62 ; مغني المحتاج 1 : 124 ; الخلاف 1 : 264 مسألة 8 .
- (4) المعتبر 2 : 43 .
- (5) الفقيه 1 : 232 ـ 233 ذح1030 .
- (6) المبسوط 1 : 75 .
- (7) رسائل الشريف المرتضى 1 : 274 ; المراسم : 62 ; الغنية : 70 ; الكافي في الفقه : 137 ; الوسيلة : 83 ; السرائر 1 : 195 ; شرائع الإسلام 1 : 50 ; مختلف الشيعة 2 : 27 ; الدروس 1 : 139 ; الذكرى 2 : 344 ; مسالك الافهام 1 : 139 ; مفتاح الكرامة 2 : 29 .
(الصفحة 145)
للمختار هو الثلث(1) ، وأمّا ثلث الليل فاختاره المفيد ، والشيخ في النهاية والجمل والخلاف ، وبعض كتبه الاُخر(2) ; وقال ابن أبي عقيل : أوّل وقت العشاء الآخرة مغيب الشفق ، وهو الحمرة لا البياض ، فإن جاوز ذلك حتّى دخل ربع الليل فقد دخل في الوقت الأخير(3) .
وبالجملة : فأقوال الإمامية في المسألة أيضاً أربعة : الفجر ، ونصف الليل ، وثلثها ، وربعها ، وحكى في مفتاح الكرامة أنّ القول الأخير مرويّ عن الرضا(عليه السلام)(4) ، والظاهر أنّه أراد فقه الرضا ، وأمّا ما يدلّ على القول الأوّل فهي الأخبار المتقدّمة في آخر وقت المغرب(5) ، ولا يمكن الاعتماد عليها لموافقتها للعامّة ، لتسالمهم على الامتداد إلى الفجر في الجملة كما عرفت . نعم حكي عن النخعي القول بامتداده إلى ربع الليل ، ولكنّه شاذّ عندهم(6) .
وحينئذ فيحتمل قويّاً صدور الروايات الدالّة على ذلك تقية ; وما ذكرناه سابقاً(7) في مقام تصحيح هذه الأخبار من أن القول بجواز الإتيان بالمغرب إلى الطلوع خلاف ما هو المشهور بينهم ، فهو إنّما كان بالنسبة إلى المغرب ، وأمّا بالنسبة إلى صلاة العشاء فلا ، وإن كان ربّما يستظهر منها عدم التقية ، باعتبار اشتمالها على
- (1) الجامع للشرائع : 60 .
- (2) المقنعة : 93 ; النهاية : 59 ; الجمل والعقود : 59 ; الخلاف 1 : 265 مسألة 8 ; الاقتصاد : 256 .
- (3) مختلف الشيعة 2 : 28 .
- (4) مفتاح الكرامة 2 : 29 .
- (5) راجع الوسائل 4 : 159 . أبواب المواقيت ب10 ح9 وص 288 ب62 ح3 و 4 .
- (6) عمدة القاري 5 : 62 ; الخلاف 1 : 265 مسألة 8 .
- (7) راجع ص127 .
(الصفحة 146)
امتداد المغرب أيضاً إلى الفجر ، والعامّة لا يقولون به .
هذا ، ولكن عرفت سابقاً إتّفاقهم إجمالا على امتداده أيضاً إلى الطلوع ، وإن اختلفوا من حيث أنّ الجواز من جهة سعة الوقت ، كما اختاره مالك(1) ، أو من جهة الجمع في موارد مشروعيته ، كالسفر والمطر ونحوهما ، فليس ذكر المغرب فيها مانعاً عن الحمل على التقية ، نعم بعضها يدلّ على ما لا يقولون به أصلا ، وهو اشتراك الوقت بين المغرب والعشاء إلى أن يبقى إلى الفجر مقدار أداء العشاء ، فيختصّ بها ، إذ ليس هذا التفصيل في كلامهم أصلا . وكيف كان ، فهذه الأخبار أيضاً مخالفة للمشهور ، ولا يجوز العمل بها .
وأمّا ما يدل على الامتداد إلى الثلث مطلقاً ، فهو الروايات الدالة على إتيان جبرئيل بالوقت(2) المشتملة على أنّ ما بين زوال الحمرة والثلث وقت .
وأما ما يدلّ على النصف :
فمنها : قوله تعالى :
{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}(3) لأنّ المراد بالغسق هو النصف ، كما قد فسّر به(4) .
ومنها : رواية زرارة قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) عمّا فرض الله تعالى من الصلاة؟ فقال : «خمس صلوات في الليل والنهار» ، فقلت : هل سمّاهنّ الله وبيّنهنّ؟ قال : «نعم ، قال الله عزّوجلّ لنبيّه :
{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} ودلوكها زوالها ، ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات : سمّـاهنّ الله
- (1) عمدة القاري 5 : 62 ; المجموع 3 : 40 ; الخلاف 1 : 264 ذيل مسألة 8 .
- (2) الوسائل 4 : 157 ـ 158 . أبواب المواقيت ب10 ح5 ـ 8 .
- (3) الاسراء : 80 .
- (4) مجمع البيان 6 : 282 ، تفسير الصافي 3 : 209 ، نور الثقلين 3 : 200 .
(الصفحة 147)
وبيّنهنّ ووقّتهنّ ، وغسق الليل إنتصافه . . .»(1) الحديث .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق(عليه السلام) : «إذا غابت الشمس فقد حلّ الافطار ووجبت الصلاة ، وإذا صلّيت المغرب فقد دخل وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل»(2) .
ومنها : رواية داود بن فرقد المشتملة على قوله(عليه السلام) : «إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات ، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات ، وإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقي وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل»(3) .
ومنها : رواية معلّى بن خنيس عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «آخر وقت العتمة نصف الليل»(4) . وغير ذلك من الأخبار الظاهرة في امتداد وقت العشاء إلى الانتصاف .
هذا والجمع بين هذه الأخبار والأخبار الدالّة على الثلث ، هو حمل الثانية على الفضيلة والاُولى على الإجزاء ، لما عرفت من أنّ لكلّ صلاة وقتين وأنّ اختلافهما إنّما هو بالفضيلة والاجزاء . نعم من قال بأنّ اختلافهما إنّما هو بالنسبة إلى حالتي الاختيار والاضطرار ، كما ذهب إليه جماعة(5) ، يكون المتعيّن عنده هو حمل الثانية
- (1) الكافي 3 : 271 ح1 ; تفسير العياشي 1 : 127 ح416 ; الفقيه 1 : 124 ح1 ; علل الشرائع : 354 ح1 ; التهذيب 2 : 241 ح954 ; معاني الأخبار : 332 ; الوسائل 4 : 10 . أبواب اعداد الفرائض ب2 ح1 .
- (2) الفقيه 1 : 142 ح662 ; الوسائل 4 : 184 . أبواب المواقيت ب 17 ح2 .
- (3) التهذيب 2 : 28 ح82 ; الاستبصار 1 : 263 ح945 ; الوسائل 4 : 184 . أبواب المواقيت ب17 ح4 .
- (4) التهذيب 2 : 262 ح1042 ، الإستبصار 1 : 273 ح987 ، الوسائل 4 : 185 . أبواب المواقيت ب17 ح8 .
- (5) المقنعة : 94 ; المبسوط 1 : 72 . الخلاف 1 : 271 مسألة 13 ; الكافي في الفقه : 138 ; الوسيلة : 81 ; المهذّب 1 : 71 .