(الصفحة 389)
تتمّة :
قد ظهر لك أنّ حرمة لبس الذهب وكذا بطلان الصلاة فيه عند من يقول به إنّما هو بالنسبة إلى الرجال ، وهكذا الحرير على ما هو المشهور بين الأصحاب خلافاً للصدوق ، حيث يظهر منه أنّه لا يختصّ بطلان الصلاة في الحرير بالرجال ، بل يعمّ النساء استناداً إلى رواية(1) لابدّ من التصرّف فيها بالتأويل .
وحينئذ فيشكل الأمر في الخنثى المشكل بناءً على عدم كونه طبيعة ثالثة في أنّه هل يحرم عليه لبس الذهب والحرير وكذا الصلاة فيهما أم لا؟ ظاهر المحكي عن الشهيد في الألفية هو وجوب الاحتياط عليه(2) ، وظاهر المصباح خلافه(3) وإنّه تجري البراءة في حقّه ، والأقوى الأوّل ، لأنّه عالم إجمالا بثبوت واحد من التكاليف المختصّة بالرجال أو النساء في حقّه .
وحينئذ فيعلم إجمالا إنّه إمّا يجب عليه الستر وضعاً وتكليفاً وإمّا يحرم عليه الحرير والذهب مطلقاً، فيجب الاحتياط بحكم العقل ، لأنّه من موارد العلم الاجمالي ، إذ لا ينحصر مورده بما إذا كان الترديد من حيث المكلّف به ، وكذا لا يختصّ بما إذا كان الحكم الخاصّ مردّداً بين شيئين أو أشياء ، فالمقام نظير ما إذا علم إجمالا بغصبيّة هذا الماء أو بنجاسة ذلك الماء الواقع في إناء آخر .
وتوهّم خروج أحد الطرفين فيما نحن فيه عن مورد الابتلاء يدفعه أنّ مناط الخروج عن مورده هو قبح التكليف بالنسبة إليه ، ومن الواضح عدم تحققه في المقام أصلا . هذا ، مضافاً إلى ما عرفت من عدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية مطلقاً، كما تقدّم في حكم الصلاة في اللباس المشكوك .
- (1) الفقيه 1: 171 ذ ح 807 .
- (2) الألفيّة : 41 .
- (3) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 139 .
(الصفحة 390)
الأمر الخامس : شرطيّة الإباحة في لباس المصلّي
من الأمور المعتبرة في لباس المصلّي سواء كان ساتراً أم لم يكن كذلك أن يكون مملوكاً للمصلّي عيناً أو منفعة، أو كان مأذوناً من قبل المالك في التصرّف فيه ، فالصلاة في الثوب المغصوب وكذا في الثوب الذي يحرم على المصلّي التصرّف فيه، لكونه تصرّفاً في مال الغير بغير إذنه، ولو لم يكن مغصوباً فاسدة .
ولا يخفى أنّ عباراتهم في مقام بيان هذا الأمر لا تشمل الصورة الثانية لأنّهم ذكروا أنّه يعتبر في لباسه أن لا يكون مغصوباً(1) ، ومن الواضح أنّ الغصب عبارة عن الاستيلاء على مال الغير عدواناً ولو لم يكن متصرّفاً فيه ، وأنّ التصرّف في مال الغير بدون إذنه حرام، ولو لم يكن غصباً لأجل عدم التسلّط عليه ، ووجه الشمول الاشتراك في الدليل الدالّ على البطلان كما سيظهر إن شاء الله تعالى .
- (1) المسائل الناصريّات: 205; الغنية: 66; المعتبر 2: 92; المنتهى 1: 229; تذكرة الفقهاء 2: 476; التحرير 1: 30; نهاية الأحكام 1: 378; جامع المقاصد 2: 87 ; الذكرى 3: 48; روض الجنان: 204; جواهر الكلام 8 : 141; مستند الشيعة 4: 360; كشف اللثام 3: 223.
(الصفحة 391)
ثمّ إنّ هذه المسألة كالمسألة السابقة عليها لم تكن مذكورة في الجوامع المعدّة لنقل فتاوى الأئمة(عليهم السلام) ، حتّى يكون ذكرها فيها كاشفاً عن صدور نصّ منهم(عليهم السلام)فيها ، كما أنّ ظاهر الشيخ في الخلاف حيث استدلّ لمذهبه بغير الاجماع والأخبار ذلك أيضاً .
قال فيه : لا تجوز الصلاة في الدار المغصوبة ولا في الثوب المغصوب مع الاختيار، وأجاز الفقهاء بأجمعهم ذلك ولم يوجبوا إعادتها مع قولهم إنّ ذلك منهيّ عنه . . . إلى أن قال : دليلنا إنّ الصلاة تحتاج إلى نيّة بلا خلاف ، ولا خلاف أنّ التصرّف في الدار المغصوبة والثوب المغصوب قبيح ، ولا يصح نيّة القربة فيما هو قبيح ، وأيضاً طريقة براءة الذمة تقتضي وجوب إعادتها ، لأنّ الصلاة في ذمّته واجبة بيقين، ولا يجوز أن يبرئها إلاّ بيقين، ولا دليل على برائتها إذا صلّى في الدار والثوب المغصوبين(1) . انتهى .
وحاصل الاستدلال بالدليل الأوّل أنّ صحة العبادة متوقّفة على صلاحيتها للتقرّب بها مع قصده أيضاً ، وإذا اتحدت مع عنوان محرّم لا تكون صالحة لذلك ، ولا يتمشّى قصده من الملتفت إلى حرمته ، لأنّ الفعل الصادر عن المكلّف عصياناً للمولى وطغياناً عليه لا يعقل أن يكون مقرّباً له إليه .
وهذا لا فرق فيه بين أن نقول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، أو نقول بامتناعه ، ولذا اخترنا الجواز(2) مع اختيار بطلان العبادة فيما إذا اتحدت مع عنوان محرّم ، فمجرّد الحكم بالبطلان لا يكون كاشفاً عن القول بالامتناع، كما يظهر من جماعة من الاُصوليين ، حيث نسبوا القول بعدم الجواز إلى المشهور(3) ، لما رأوا من أنّهم
- (1) الخلاف 1: 509 مسألة 253 .
- (2) نهاية الاُصول (تقريرات بحث السيّد البروجردي) 1: 259.
- (3) كفاية الاُصول 1 : 248 ـ 249 .
(الصفحة 392)
يحكمون بالبطلان ، لما عرفت من عدم الملازمة بينهما ، فالأقوى في المقام هو البطلان، وإن كان الحق في تلك المسألة الجواز .
هذا ، ولكنّ البطلان إنّما هو فيما إذا كانت الحرمة منجّزة ، وأمّا في غير ذلك من موارد عدم تنجّزها ، كما إذا كان جاهلا بالموضوع أو الحكم ، أو ناسياً ، أو كان مقتضى الأصل خلافها ، كما إذا كان مأذوناً من المالك في التصرّف في ماله سابقاً وشكّ في بقائه ، ففي جميع تلك الموارد تكون العبادة صحيحة ، لعدم كونها مبغوضة ، وعدم صدورها من المكلّف على وجه العصيان والطغيان حتّى ينافي ذلك مع كونها مقربة ، وهذا هو الفارق بين الموارد التي يكون فساد الصلاة فيها، لأجل اتحادها مع عنوان محرم ، وبين ما يكون فسادها لأجل عدم رعاية بعض الموانع الاُخر ، كما إذا صلّى في غير المأكول جاهلا أو ناسياً ، حيث إنّ مانعية الأوّل منحصرة بما إذا كانت الحرمة المتعلّقة بالعنوان المتّحد مع الصلاة خارجاً منجّزة على المكلّف بخلاف الثاني .
ولا يخفى أنّ ما ذكرنا في وجه بطلان الصلاة في الثوب المغصوب يجري بعينه في الصلاة في المكان المغصوب ، بلا فرق بينهما أصلا كما هو واضح .
ثمّ إنّه حيث جرى في الكلام ذكر مسألة جواز الاجتماع وعدمه ، فلا بأس أن نشير إلى بيان المختار فيها على سبيل الاجمال ، وإن كان خارجاً عن محلّ البحث والمقال ، فنقول وعلى الله الاتكال :
اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي المتعلّقين بعنوانين بينهما عموم من وجه ، يمكن أن يتصادقا في وجود واحد بحسب سوء اختيارالمكلّف ، على قولين نسب إلى المشهور القول بالامتناع وقد عرفت ما في هذه النسبة .
والحقّ هو القول بالجواز ، وأقوى ما استدلّ به للقول بالامتناع ما أفاده المحقّق
(الصفحة 393)
الخراساني في الكفاية .
وملخّصه : إنّه لا ريب في ثبوت التضادّ بين الأحكام الخمسة التكليفية في مرتبة الفعليّة ، لضرورة المنافاة بين البعث نحو شيء والزجر عنه ، وكذا بين البعث على وجه أكيد ، وبينه على وجه غير أكيد ، وكذا بين مرتبتي الزجر عن شيء .
وكذا لا شكّ في أنّ متعلّق التكاليف فعل المكلّف وما هو في الخارج صادر عنه ، وذلك لأنّ البعث والزجر إنّما يتعلّق كلٌّ منهما بالوجود الخارجي ، وما يصدر من المكلّف في الخارج ، وحينئذ فلو جاز اجتماع الأمر والنهي في واحد شخصيّ كما هو محلّ الكلام ، يلزم اجتماع الضدّين وكون شيء واحد معروضاً بتمامه لعرضين متنافيين ، لأنّه بعد فرض كون متعلّق الأحكام هو ما يصدر في الخارج من المكلّف ، يلزم كون الغسل بماء مغصوب أو الصلاة في الدار المغصوبة مثلا متعلّقاً لحكمين ، وقد عرفت ثبوت التضادّ بين الأحكام ، فلا يمكن عروض إثنين منها لمعروض واحد ووجود فارد ، وهل هو إلاّ ككون جسم معروضاً بتمامه للسواد، وفي ذلك الحال معروضاً بتمامه للبياض ، ومن الواضح استحالته(1) .
أقول : ويرد عليه أنّ كون الأحكام من قبيل الأعراض لفعل المكلّف محلّ نظر بل منع ، وذلك لأنّه لو كانت عرضاً يلزم عدم إمكان تحقّقها قبل وجود معروضها ، كما هو الشأن في سائر الأعراض من السواد والبياض وأشباههما ، ومن المعلوم ثبوت التكليف قبل أن يوجد المكلّف متعلّقه ، إذ هو الداعي والباعث على الايجاد فلا يمكن تقدّم المتعلّق عليه .
مضافاً إلى أنّ المكلّف قد لا يوجد متعلّقه أصلا إمّا لعصيان منه كما في التكاليف الوجوبيّة ، أو لغيره كما في التكاليف التحريميّة ، فإنّ متعلّقها أيضاً هو
- (1) كفاية الاُصول 1 : 248 ـ 249 .