(الصفحة 68)
مسائل في تفصيل الأوقات
إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في تفصيل الأوقات ، نتعرّض له في ضمن مسائل :
المسألة الأولى : ابتداء وقت الظهرين
قال الله تبارك وتعالى :
{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}(1) ، ويستفاد منه كما عرفت أوقات الصلوات الأربع ، الظهرين والعشائين ، والمراد بالدلوك هو الزوال ، كما قال به كثير من أهل اللغة(2) ، ويدلّ عليه أيضاً ما رواه زرارة في حديث قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) عمّا فرض الله تعالى من الصلاة؟ فقال : «خمس صلوات في الليل والنهار . فقلت : هل سمّاهنّ الله وبيّنهنّ في كتابه؟ قال : نعم ، قال الله عزّوجلّ لنبيّه :
{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}ودلوكها : زوالها ، ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات ـ إلى أن قال : ـ وغسق الليل هو انتصافه»(3) .
وبالجملة : فلا إشكال في أنّ أوّل وقت الظهر هو زوال الشمس ، وما حكي عن ابن عباس من جواز تقديمه على ذلك بقليل ، والإتيان به قرب الزوال للمسافر(4) ، فمردود بالإجماع(5) ومخالفته للكتاب والسنّة(6) ; وقد تواترت الأخبار
- (1) الاسراء : 80 .
- (2) النهاية لابن الأثير 2 : 130 ; الصحاح 4 : 1584 ; لسان العرب 10 : 427 ، المصباح المنير : 199 .
- (3) الكافي 3 : 271 ح1 ; تفسير العياشي 2: 309 ح138 ; الوسائل 4 : 10 . أبواب أعداد الفرائض ب2 ح1 .
- (4) المغني لابن قدامة 1 : 441 ; الشرح الكبير 1 : 480 ; تذكرة الفقهاء 2 : 381 .
- (5) المجموع 3 : 18 ; المغني لابن قدّامة 1 : 371 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 268 ; الخلاف 1 : 256 ، مسألة 3 ; المعتبر 2 : 27 ; تذكرة الفقهاء 2 : 300 .
- (6) سنن الترمذي 1 : 202 ، ح151; صحيح البخاري 1 : 154 ، ب11 ، ح541 ، سنن ابن ماجه 1 : 219 ، ح667 ، صحيح مسلم 5 : 93 ، ب31 ، ح173 .
(الصفحة 69)
الدالة على أن أول وقت الظهر هو الزوال ، الظاهرة في عدم جواز الإتيان بصلاة الظهر قبله ، ولا بأس بذكر بعضها فنقول :
منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر ، فإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة»(1) .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن وقت الظهر والعصر؟ فقال : «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً ; إلاّ أنّ هذه ، قبل هذه ثم أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس»(2) .
ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : «صلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله)بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علّة»(3) .
ومنها : رواية داود بن فرقد عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال : «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات . . .»(4) الحديث .
ومنها : رواية منصور بن يونس عن العبد الصالح(عليه السلام)قال : سمعته يقول : «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين»(5) . . . إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المتواترة المذكورة في الوسائل في الباب الرابع من أبواب المواقيت . ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما عرفت ، استقرار طريقة المسلمين على ذلك في جميع الأعصار ، من زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا .
- (1) الفقيه 1 : 140 ح648 ; التهذيب 2 : 19 ح54 ; الوسائل 4 : 125 . أبواب المواقيت ب4 ح1 .
- (2) التهذيب 2 : 24 ح68 وص19 ح51 وص26 ح73 ; الإستبصار 1 : 246 ح881 وص260 ح934 ; الفقيه 1 : 139 ح647 ; الوسائل 4 : 126 . أبواب المواقيت ب4 ح50 .
- (3) التهذيب 2 : 19 ح53 ; وفيه : «عن أبي عبدالله
(عليه السلام)
- » ; الوسائل 4 : 126 . أبواب المواقيت ب4 ح6 .
- (4) التهذيب 2 : 25 ح70 ; الاستبصار 1 : 261 ح936 ; الوسائل 4 : 127 . أبواب المواقيت ب4 ح7 .
- (5) التهذيب 2 : 244 ح966 ; الاستبصار 1 : 246 ح876 ; الوسائل 4 : 127 . أبواب المواقيت ب4 ح10 .
(الصفحة 70)
وهل المراد بالزوال وصول أوّل جزء من الشمس إلى دائرة نصف النهار ، أو وصول وسطها إليها ، أو وصول آخرها؟ الظاهر هو الثاني ، لأنّ الاعتبار إنّما هو بانتصاف النهار والانتصاف الحقيقيّ لا يحصل إلاّ بوصول وسطها إليها كما لا يخفى .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ هنا أخباراً تدلّ بظاهرها على أنّ وقت صلاة الظهر صيرورة الفي قدماً(1) ، وأوّل وقت العصر صيرورته قدمين(2) ; وأخباراً أُخر تدلّ على أنّ أوّل وقت الظهر صيرورة الفي قدمين أو ذراعاً ، وأوّل وقت العصر صيرورته أربعة أقدام أو ذراعين(3) ، والمراد بالقدم سبع الشاخص ، وبالذارع قدمان . ولكنّها لا تصلح أن تعارض مع الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال ، لأنّها لا تدلّ على أنّ وقت الظهر لا يدخل إلاّ بعد تحقّق تلك المقادير ، حتّى يجب له انتظار مضيّها ، بحيث لو أتى بها قبلها لكانت باطلة ; بل ظاهرها أنّ اعتبار القدم أو القدمين أونحوهما ، إنّما هو لأجل الإتيان بالنافلة ، واختلافها في المقدار الموضوع للنافلة إنّما هو من جهة اختلاف المتنفّلين في الخفة والبطء والتطويل والتقصير .
وبالجملة : يستفاد من هذه الروايات أنّ وقت فريضة الظهر بالأصل إنّما هو بعد الزوال ، لكن مزاحمة النوافل لها اقتضت ثبوت وقت عرضيّ لها ، وهو بعد صيرورة الفي قدماً أو قدمين أو ذراعاً ، فلا تنافي الروايات المتقدّمة أصلا . ويشهد لما ذكرنا روايات :
- (1) التهذيب 2 : 21 ح59 وص244 ح970 وج3 : 13 ح45 ; الإستبصار 1 : 412 ح1577 وص247 ح884 ، 885 ; الوسائل 4 : 144 ، 145 . أبواب المواقيت ب8 ح11 و 17 .
- (2) الفقيه 1 : 140 ح649 ; التهذيب 2 : 255 ح1012 ; الإستبصار 1 : 248 ح892 ; الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 ح1 و 2 .
- (3) التهذيب 2 : 249 ـ 250 ح989 ـ 993 ; الإستبصار 1 : 254 ـ 255 ح912 ـ 916 ; الوسائل 4 : 147 ـ 148 . أبواب المواقيت ب8 ح28 ، 30 .
(الصفحة 71)
منها : صحيحة الحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم جميعاً قالوا : كنّا نقيس الشمس بالمدينة بالذراع ، فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : «ألا أُنبّئكم بأبين من هذا؟ إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر ، إلاّ أنّ بين يديها سبحة ، وذلك إليك إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت»(1) .
ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث قال: «أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟» قلت : لِمَ جعل ذلك؟ قال : «لمكان النافلة ، لك أن تتنفّل من زوال الشمس إلى أن يمضي ذراع فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت بالفريضة وتركت النافلة»(2) الحديث .
ومنها : صحيحة زرارة أيضاً عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟» قلت : لِمَ؟ قال : «لمكان الفريضة ، لك أن تتنفّل من زوال الشمس إلى أن تبلغ ذراعاً، فإذا بلغت ذراعاً بدأت بالفريضة وتركت النافلة»(3). فإنّ معنى اختصاص البدأة بالفريضة وترك النافلة بما إذا بلغت الذراع أن قبل بلوغها إليه لا يختصّ البدأة بها، بل هما مشتركتان، لاأنّه لا يجوز البدأة بالفريضة أصلا كما لا يخفى.
ومنها : رواية محمّد بن أحمد بن يحيى قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن(عليه السلام) : روي عن آبائك القدم والقدمين والأربع ، والقامة والقامتين ، وظلّ مثلك ، والذراع والذراعين؟ فكتب(عليه السلام) : «لا القدم ولا القدمين ، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين ، وبين يديها سبحة وهي ثمان ركعات ، فإن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت ، ثم صلِّ الظهر ، فإذا فرغت كان بين الظهر والعصر سبحة ، وهي
- (1) الكافي 3 : 276 ح4 ; الوسائل 4 : 131 . أبواب المواقيت ب5 ح1 .
- (2) الفقيه 1 : 140 ح653 ; التهذيب 2 : 19 ح55 ; الاستبصار 1 : 258 ح899 ; علل الشرائع 349 ح2 ; الوسائل 4 : 141 . أبواب المواقيت ب8 ح3 ، 4 .
- (3) الكافي 3 : 288 ح1 ; التهذيب 2 : 245 ح974 ; الاستبصار 1 : 249 ح893 ; الوسائل 4 : 146 . أبواب المواقيت ب8 ح20 .
(الصفحة 72)
ثمان ركعات ، إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت ، ثمّ صلِّ العصر»(1) . . . إلى غير ذلك من الأخبار ; والمستفاد من مجموعها أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال إلاّ انّ التقدير بتلك المقادير إنّما هو بملاحظة إتيان النافلة قبلها ، لا أنّ وقتها لا يدخل إلاّ بعد قدم أو نحوه كما هو واضح .
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لحمل الأخبار ـ الدالّة على أنّ الوقت إنّما يدخل بمجرّد الزوال ـ على التقيّة ، بعد كون ذلك مجمعاً عليه ومورداً لاتّفاق المسلمين ، عدى مالك(2) القائل بعدم جواز الإتيان بصلاة الظهر ما لم يصر الفي بقدر شراك النعل . وسيجيء نقل دليله ، كما أنّه لا إشكال فيها من حيث السند بعد كونها متواترةً إجمالا . فالمتعيّن ما ذكرنا في مقام الجمع .
ثمّ إنّه هل يستفاد من الأخبار ـ الدالّة على أنّ وقت الظهر إنّما هو بعد صيرورة الفي قدماً أو قدمين أو ذراعاً ، بعد حملها على ما ذكرنا ـ استحباب تأخير الظهر إلى تلك المقادير أم لا؟ بل كان محطّ النظر فيها هو بيان وقت يشترك فيه الفريضة والنافلة ، ويجوز فيه مزاحمة الثانية للاُولى ، من دون أن يكون لتأخير الفريضة فضل أصلا؟ وعلى التقدير الأوّل فهل يستفاد منها استحباب تأخير الظهر مطلقاً ، ولو لم يكن قاصداً للنافلة ، أو لم تشرع في حقّه لكونه مسافراً ، أو يكون ذلك مختصّاً بمن كان قاصداً للنافلة ومشروعة في حقّه؟ الظاهر أنّ تلك الأخبار مسوقة لمجرّد بيان وقت يمكن أن يزاحم فيه النافلة للفريضة ، من غير دلالة على استحباب تأخير الفريضة مطلقاً ، أو مع الإتيان بالنافلة قبلها ، ولذا صرّح في كثير منها بأنّه إذا مضى هذا المقدار بدأ بالفريضة وترك النافلة(3) ، وحينئذ فما ورد من أنّ «أوّل
- (1) التهذيب 2 : 249 ح990 ; الاستبصار 1 : 254 ح913 ; الوسائل 4 : 134 . أبواب المواقيت ب6 ح13 .
- (2) المدوّنة الكبرى 1 : 55 ; المجموع 3 : 24 ; الخلاف 1 : 256 مسألة 3 .
- (3) راجع الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 .