(الصفحة 468)
ثمّ إنّ المشهور بينهم بل كان مفروغاً عنه عندهم ظاهراً أنّه لا يجوز السجود على الرماد ولا على الفحم(1) ، ولكن يمكن المناقشة في ذلك بأنّ الفحم إنّما هو من نبات الأرض ويشترك مع الخشب في بقاء الجسم النباتي فيه ، وزوال الحياة النباتية عنه ، نعم يفترق معه في كونه مطبوخاً ، وقد عرفت أنّ المطبوخ من الأرض لا يخرج بذلك عن حقيقتها ، فكذا المطبوخ من النبات ، وأمّا الرماد فهو وإن خرج عن صدق النبات ، لعدم بقاء الجسم النباتي معه أيضاً إلاّ أنّه يمكن أن يقال بصدق اسم الأرض عليه ، نظير التراب الذي كان في الأصل إنساناً ، فالجواز إنّما هو من هذه الجهة ، لا من جهة كونه نباتاً ، ولكن الظاهر ما ذكروه من عدم الجواز ، كما أنّ مقتضى الاحتياط أيضاً ذلك .
الفرع الثالث : في عدم جواز السجود على المأكول والملبوس
لا يجوز السجود على المأكول والملبوس ، وليس المراد منهما خصوص ما يكون صالحاً للأكل واللبس فعلا ، كالخبز والقميص ، بل يعمّ ذلك ، وما يكون صالحاً للأكل واللّبس ولو بعلاج كالحنطة والشعير والقطن والكتان ، لأنّها بنظر العرف تعدّ من المأكولات والملبوسات ، وإن توقّف أكل الأولين نوعاً على الطحن ، ثم الطبخ ، وليس الأخيرين على النسج ثم الخياطة .
ثمّ إنّ الشيء قد يكون مأكولا في جميع الأمكنة وفي جميع حالاته وفي جميع الأحوال أي أحوال الناس،ولاإشكال حينئذ في عدم جوازالسجودعليه، وقد يكون مأكولا في بعض البلاد دون بعض ، أو في بعض حالاته دون بعض ، أو في بعض
- (1) المبسوط 1 : 89 ; السرائر 1: 268; المعتبر 2: 120; تذكرة الفقهاء 2: 439; كشف اللثام 3: 344; جواهر الكلام 8 : 416; مستند الشيعة 5: 252.
(الصفحة 469)
الأحوال دون بعض ، وعلى الأوّل فقد تكون العلّة في عدم كونه مأكولا في بعض البلاد هي فقده وإعوازه فيه ، بحيث لو وجد فيه لكان مأكولا فيه أيضاً فلا إشكال حينئذ في عدم الجواز ، وقد لا تكون العلّة ذلك ، فيشكل الحكم بعدم الجواز.
وفي الفرض الثاني يمكن أن يقال بعدم خروجه عن صدق عنوان المأكول بذلك ، فلا يجوز السجود عليه ، وأولى منه القسم الثالث كالأدوية ، فإنّ الظاهر عند العرف كونها مأكولة كما لا يخفى .
ثمّ إنّه قد يقال بجواز السجود على قراب السيف والخنجر إذا كان من الخشب ، وإن كانا ملبوسين ، لعدم كونهما من الملابس المتعارفة(1) ، ولكن يمكن أن يقال بعدم الجواز في حالة كونهما ملبوسين .
نعم ، لا بأس بجواز السجود على الخشب وإن كان صالحاً لأن يصنع منه القراب ، كما أنّه يجوز على ما أعدّ منه له ، للفرق بينه وبين القطن والكتان اللذين لا يجوز السجود عليهما ولو قبل النسج والخياطة عند العرف ، فإنّه لا يطلق على الخشب أنّه ملبوس وإن كان معدّاً للقراب ، بخلافهما .
الفرع الرابع : السجود على القطن والكتان
في جواز السجود على القطن والكتّان خلاف(2) ، وقد ورد فيه صنفان من الروايات ، فطائفة منها تدلّ على الجواز ، والاُخرى تدلّ على المنع .
- (1) جواهر الكلام 8 : 423 .
- (2) رسائل الشريف المرتضى 1: 147; الخلاف 1: 357 مسألة 112; المعتبر 2: 118; تذكرة الفقهاء 2: 436; مختلف الشيعة 2: 115; الحدائق 7: 249; مستند الشيعة 5: 253; جواهر الكلام 8 : 423; كتاب الصلاة للمحقّق النائيني 1: 361.
(الصفحة 470)
فأمّا الطائفة الاُولى، فمنها : ما رواه داود الصرمي قال : «سألت أبا الحسن الثالث(عليه السلام): هل يجوز السجودعلى القطن والكتّان من غيرتقية؟ فقال(عليه السلام) : «جائز»(1).
ومنها : خبر الحسين بن عليّ بن كيسان الصنعاني قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث(عليه السلام) أسأله عن السجود على القطن والكتان من غير تقية ولا ضرورة؟ فكتب إليّ : «ذلك جائز»(2) .
ومنها : رواية منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابنا قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج أفنسجد عليه؟ قال : «لا ، ولكن اجعل بينك وبينه شيئاً قطناً أو كتاناً»(3) .
ومنها : رواية ياسر الخادم قال : مرّ بي أبو الحسن(عليه السلام) وأنا أُصلّي على الطبري وقد ألقيت عليه شيئاً أسجد عليه فقال لي : «مالكَ لا تسجد عليه؟ أليس هو من نبات الأرض؟»(4) . ودلالة هذه الرواية على الجواز مبنية على أن يكون الطبري شيئاً معهوداً متخذاً من القطن والكتان .
وأمّا الطائفة الثانية ، فمنها : خبر الأعمش المروي في الخصال عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام)في حديث شرايع الدين قال : «لا يسجد إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلاّ المأكول والقطن والكتان»(5) .
ومنها : خبر أبي العبّاس الفضل بن عبدالملك قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) :
- (1) التهذيب : 2 / 307 ح1246 ; الاستبصار : 1 / 332 ح1246 ; الوسائل : 5 / 348. أبواب ما يسجد عليه ب2 ح6.
- (2) التهذيب 2: 308 ح1248; الإستبصار 1: 333 ح1253; الوسائل 5: 348. أبواب ما يسجد عليه ب2 ح7.
- (3) التهذيب : 2 / 308 ح1247 ; الاستبصار : 1 / 332 ح 1247; الوسائل : 5 / 351. أبواب ما يسجد عليه ب4 ح7 .
- (4) التهذيب 2: 308 ح1249; الإستبصار 1: 331 ح1243; الوسائل 5: 348. أبواب ما يسجد عليه ب2 ح5.
- (5) الخصال : 604 ح9; الوسائل : 5 / 344. أبواب ما يسجد عليه ب1 ح3 .
(الصفحة 471)
«لايسجد إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلاّ القطن والكتّان»(1) .
وقد جمع بين الطائفتين بوجوه .
منها : حمل الطائفة الاُولى على الجواز ، والثانية على الكراهة(2) .
ومنها : حمل الطائفة الاُولى على حال الضرورة أو التقية ، والثانية على حال الاختيار(3) .
ومنها : حمل الطائفة الاُولى على ما قبل النسج ، والثانية على ما بعده(4) .
ولا يخفى ما في هذه الوجوه من الاستبعاد ، لأنّ حمل الثانية على الكراهة لا يناسب عطفهما على المأكول ، كما في حديث شرايع الدين ، وكذا حمل الطائفة الاُولى على الضرورة أو التقية ينافي مع تقييد السائل بعدم ثبوتهما .
وأمّا حملها على ما قبل النسج فهو وإن كان أنسب بمعنى القطن والكتان، لأنّ المنسوج منهما إنّما يطلق عليه الثوب ونحوه ، إلاّ أنّ حمل الطائفة الثانية على ما بعد النسج بعيد ، لأنّ المفروض أنّ المأخوذ فيها أيضاً إنّما هو القطن والكتان .
هذا ، ويظهر من بعض المحققين من المعاصرين إنّه أفاد في كتاب صلاته في وجه الجمع بينهما ما ملخّصه :
إنّه يمكن أن يقال : إنّ القطن والكتان ليسا ممّا يطلق عليه الملبوس بقول مطلق ، فإنّ الظاهر من الملبوس في الأخبار المتضمّنة لمنع السجود عليه ، هو ما أُعدّ للبس ، ومجرّد قابلية الشيء لأن يكون ملبوساً لا يوجب صدق عنوان الملبوس
- (1) الكافي 3: 330 ح1; الوسائل 5: 344. أبواب ما يسجد عليه ب1 ح6.
- (2) كما في المعتبر 2 : 119 ورسائل الشريف المرتضى 1: 174.
- (3) كما في التهذيب 2: 308 وتذكرة الفقهاء : 2 / 437; كشف اللثام : 3 / 343 وجواهر الكلام : 8 / 425 والحدائق 7: 251 .
- (4) كما في كشف اللثام : 3 / 343 .
(الصفحة 472)
عليه ، فعلى هذا يكون كل من القطن والكتان على قسمين : قسم يكون معدّاً للّبس ، وقسم يكون معدّاً للافتراش ونحوه .
وحينئذ فنقول : إنّ الأخبار المجوّزة للسجود على مطلق القطن والكتان ، تخصّص بالأخبار المانعة عن السجود على الملبوس ، فإنّ اخراج الملبوس من خصوص القطن والكتان عن تحت أدلّة المنع يوجب تقييد موردها بالفرد النادر ، وهو الملبوس من غيرهما من جنس النباتات ، بل لعلّه لم يكن موجوداً في زمن صدور الأدلة ، فلابدّ من حفظ الملبوس من جنسهما تحت أدلّة المنع ، وتقييد مورد أدلة الجواز بغير ما يكون معدّاً للبس كالفراش ونحوه .
وحينئذ فلو قلنا بأنّ العام المخصّص بالتخصيص المنفصل في حكم الخاص ، يخصّص بأدلّة الجواز عموم الأخبار الناهية عن السجود على القطن والكتان ، ويقيد موردها بما يكون ملبوساً . انتهى موضع الحاجة من ملخص كلامه(قدس سره)(1) .
وأنت خبير بأنّه قد قرّر في محلّه أنّ العام المخصّص بالتخصيص المنفصل لا يصير في حكم الخاص ، بل يبقى على عمومه ، بمعنى أنّ حال العامّ مع عامّ آخر قبل خروج فرد من أحدهما وبعده سواء ، لا فرق بينهما أصلا ، فيصير التعارض بين أدلتي المنع والجواز من قبيل التعارض على نحو التباين .
ولابدّ في هذا القسم من التعارض ، من الرجوع إلى المرجحات ، والظاهر أنّ أدلة المنع أشهر من حيث الفتوى كما ذكره المحقق في الشرائع(2) ، فالترجيح معها بناءً على ما هو الحق من أوّل المرجحات هي الشهرة في الفتوى، كما مرّ مراراً .
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري (رحمه الله) :473 100.
- (2) شرائع الإسلام : 1 / 63 .