(الصفحة 257)
المقدمة الرابعة في الستر و الساتر
لا إشكال ولا خلاف في شرطية الستر في الجملة في الصلاة ، والكلام في الستر من جهتين :
الاُولى : في الوجوب النفسيّ الذي يتعلّق به مطلقاً في حال الصلاة وغيره .
الثانية : في شرطيته للصلاة ; ولا يخفى أنّ الكلام في الساتر إنّما هو من حيث الأحكام التي تتعلّق به لا بما هو ساتر ، بل من حيث لبس المصلّي له في حال الصلاة ، وغالب هذه الأحكام راجعة إلى مانعية بعض الأوصاف الموجودة فيه كما سيظهر إن شاء الله تعالى .
أمّا الكلام في الجهة الاُولى من الستر فهو وإن كان غير مرتبط بالمقام ، إلاّ أنّه لا بأس بذكر بعض ما يتعلّق به من الأحكام .
فاعلم أنّه يجب على النساء ستر ما عدا الوجه والكفّين بلا ريب ولا إشكال ، ويحرم على الرجال النظر إلى ما عداهما أيضاً ، إنّما الإشكال والخلاف في أنّه هل
(الصفحة 258)
يجب عليهنّ ستر الوجه والكفّين كما هو المشهور بين الخاصّة والعامّة أو لا؟ ومنشأ ذلك اختلاف ما ورد في تفسير قوله تعالى :
{ولا يبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها}(1).
فعن عبدالله بن مسعود : إنّ المراد بالزينة الظاهرة التي لا يحرم إبدائها هو الثياب(2) ويؤيّده قوله تعالى في ذيل هذه الآية :
{ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يُخفين من زينتهنّ} أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليتبيّن خلخالها ، فيعلم منه أنّ إبداء الزينة المخفية حرام .
وقوله تعالى :
{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد}(3) أي خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها عند إرادة الصلاة .
وقوله تعالى :
{يا أيُّها النبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ . . .}(4) أي قل لهؤلاء ليسترن وجههنّ بإرخاء الجلابيب ، فإنّ الإدناء إذا تعدّيت بـ «على» يكون المراد منها جعل ما تتعلّق به قريباً من المدنى عليه ، كما في قوله : «أدنى عليك ثوبك» إذا كان ثوبها بعيداً منها بحيث يظهر ما تحته ، والجلباب شيء أكبر من الخمار .
وعن عبدالله بن عبّاس : إنّ المراد بالزينة الظاهرة هو الكحل ، والخاتم ، والخدّان ، والخضاب في الكفّ(5) .
وعن ثالث : انّها الوجه والكفّان(6) ، فباختلاف التفاسير إختلف المراد من
- (1) النور : 31 .
- (2) مجمع البيان 7 : 138 .
- (3) الأعراف : 31 .
- (4) الأحزاب : 59 .
- (5) جامع البيان 10 : 157 ـ 158; الدر المنثور 5 : 41 .
- (6) السنن الكبرى 7 : 85 و86 ; التفسير الكبير 8 : 364 .
(الصفحة 259)
الآية ، فمن قال بعدم حرمة إظهار الوجه والكفين إعتمد على الأخيرين ، ومن قال بوجوب سترهما استند إلى الأوّل مع سائر ما يؤيّده من الآيات كما عرفت .
ثمّ إنّ قوله تعالى بعد ذلك :
{وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ}(1) لا يدلّ على وجوب ستر الوجه ، لأنّ مقتضاه إنّما هو وجوب جعل طرفي الخمار على الجيب ، وهو ضلع أعلى القميص ليستر ما ظهر من الصدر والعنق ، لأنّ ما يتسترن به في زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله) إنّما هو القميص الذي لا يستر صدرهنّ وعنقهنّ ، لكونهنّ يجعلن طرفي الخمار على ظهرهنّ على خلاف وضعه الطبيعي ، ولهذه الجهة فقد يمكن أن يتوهّم أنّ ستر الصدر والعنق غير واجب ، لأنّهما من المواضع الظاهرة ، فلذا قال تعالى : إنّه يجب إرخاء الخمار على الجيب ، وجعله بمقتضى وضعه الطبيعي ليسترهما .
وبالجملة : فيستفاد من هذه الجملة وجوب ستر الصدر والعنق ، ولا يستفاد ستر الوجه أصلا ، لأنّ جعل الخمار على الجيب لا يلازم ستر الوجه أصلا كما هو واضح .
ثمّ إنّ ظاهر قوله تعالى :
{ولا يبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها} وإن كان هو حرمة إبداء الزينة غير الظاهرة مطلقاً ، إلاّ أنّه يستفاد من قوله تعالى في ذيل الآية :
{ولا يبدين زينتهنّ إلاّ لبعولتهنّ . . .} وجوب التستر فيما كانت معرضاً لنظر الأجنبيّ ، سواء كان الناظر موجوداً أو لم يكن ، ولكن كانت في معرض النظر كما لا يخفى . هذا كلّه مقتضى الآيات الواردة في هذا المقام .
وأمّا الروايات فالمحكي عن العلاّمة (رحمه الله) في المنتهى إنّه قال : روي عن النّبيّ(صلى الله عليه وآله)أنّه قال : «المرأة عورة»(2) ، والمفهوم منه عند عرف المتشرّعة وجوب ستر جميع
- (1) النور : 31 .
- (2) المنتهى 1 : 236 .
(الصفحة 260)
البدن ، لأنّ وجوب الستر من أظهر خواصّ المشبّه به وآثاره .
وفي مجمع البيان للطبرسي في ذيل قوله تعالى :
{والقواعد من النساء . . .}(1)قال : وقد روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «للزوج ما تحت الدرع وللإبن والأخ ما فوق الدرع ولغير ذي محرم أربعة أثواب : درع وخمار وجلباب وإزار»(2) ، ومعناه أنّه لا يحرم على الزوج النظر إلى ما تحت الدرع ـ وهو القميص ـ ولا يحرم على الزوجة إظهاره ولا يحرم على الإبن والأخ النظر إلى ما فوقه ولا على الاُم والاُخت إظهاره ، ويجب على المرأة أن تستر نفسها عن الأجنبي غير المحرم بأربعة أثواب : درع وهو القميص ، وخمار وهو ما يغطّي رأس المرأة ، وجلباب وهو شيء أكبر من الخمار ، وإزار وهو الذي يستر جميع البدن من الرأس إلى القدمين .
والمقصود من الرواية هو تأكيد وجوب التستّر عليها ، إذ من المعلوم كفاية ستر المرأة جميع بدنها ولو كان بالأخير فقط ، وأيضاً يكفي ستر المرأة نفسها ولو لم يكن بالثوب بل بورق الشجر أو غيره . هذا ، وقد استدل القائلون بوجوب ستر الوجه والكفّين أيضاً على النساء بالرواية الاُولى بناءً على أن يكون المراد بالعورة هي السوأة ، ويكون حملها على المرأة من باب التشبيه البليغ الذي تكون أداة التشبيه فيه محذوفة ، ليعرف ثبوت وجه الشّبه في المشبّه على نحو ثبوته للمشبّه به ، حتّى كأنّ الأوّل يكون من أفراد الثاني ومصاديقه .
ولمّا كان أظهر خواصّ العورة وآثارها هو قبح إظهارها عرفاً وشرعاً ، ووجوب سترها شرعاً لأجل كون إظهارها موجباً لتحريك الشهوات وفعل ما لا ينبغي صدوره ، فبذلك التشبيه البليغ يعلم ثبوت هذا الأثر في المرأة التي هي المشبّه ، لأنّ ظهورها موجب لصدور الأفعال القبيحة الممنوعة عند الشرع .
- (1) النور : 60.
- (2) مجمع البيان 7 : 155 .
(الصفحة 261)
ومن المعلوم أنّ ما هو المناط في وجوب الستر ثابت في الوجه على النحو الأتم كما لا يخفى . فتدل الرواية حينئذ على أنّه يجب على المرأة ستر جميع البدن حتّى الوجه والكفّين . هذا ، ويحتمل أن يكون المراد من العورة ما هو معناها بحسب اللغة وهو كلّ شيء يستره الإنسان للاستحياء من ظهوره لكونه قبيحاً ، ويكون المراد من الرواية أنّ المرأة شيء يستحيي من ظهورها لاحتفافها بالأعمال القبيحة ، والأفعال الممنوعة التي لا ينبغي صدورها منها .
ويؤيده ما رواه الخاصّة عن النّبي(صلى الله عليه وآله) انّه قال : «النساء عيّ وعورة فداووا عيّهنّ بالسكوت وعوراتهنّ بالبيوت»(1) فإنّ حفظ عوراتهنّ بالبيوت يدل على كون ظهورها ولو مع تسترها بالثياب معرضاً لصدور الأفعال القبيحة ، فحمل العورة على المرأة باعتبار احتفافها بتلك الأفعال والأعمال ، وإلاّ فنفس المرأة ليست شيء يستحيي منها مع قطع النظر عن احتفافها بها ، كما يدلّ عليه إضافة العورات إليهن .
ولكنّ الظاهر من الرواية هو المعنى الأول كما هو غير خفيّ على من لاحظ ما هو المفهوم من العورة عند العرف ، وقوله(صلى الله عليه وآله) : «فداووا . . . وعوراتهنّ بالبيوت» يكون تأكيداً لحرمة ظهورها غير مستورة ووجوب سترها ، فلا ينافي عدم وجوب الحفظ بالبيوت .
هذا مقتضى الرواية الاُولى ، وأمّا الرواية الثانية فتدلّ أيضاً على وجوب ستر الوجه والكفّين عليها ، بضميمة وجوب إرخاء مقدار من الجلباب الذي يستفاد من قوله تعالى :
{يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ} وبضميمة وجوب ضرب الخمار على الجيب الذي يدلّ عليه قوله تعالى :
{وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ}(2)
- (1) أمالي الطوسي 2 : 192 ; بحار الأنوار 100 : 251 ح48 .
- (2) النور: 31.