(الصفحة 132)
بالاُخرى ، كأنّ إحدى الصلاتين تضيف الاُخرى في وقتها ، وحيث أنّ ذلك يحتاج إلى دليل ; ولذا لا يجوز عندهم إلاّ في موارد مخصوصة كالسّفر والمطر ونحوهما(1)وقد عرفت(2) أنّهم أخذوا بجميع روايات ابن عباس ، إلاّ روايته الدالة على جواز الجمع مطلقاً .
وحينئذ فيظهر لك الوجه فيما ادّعاه الشيخ(رحمه الله) من عدم الخلاف في وجوب الاتيان بالمغرب والعشاء الآخرة، إذاأدرك قبل طلوع الفجر مقدار خمس ركعات(3)، فإنّ ذلك مورد لاتفاق المسلمين ، وإن كان الوجه بينهم مختلفاً كما عرفت .
وكيف كان فيظهر من الشيخ عدم الاعراض عن أخبار الفجر ولو في خصوص مواردها وحينئذ فيقع الكلام ـ بعد عدم إمكان الاعتماد برواية عبيد المتقدّمة(4) الظاهرة في الامتداد مطلقاً ، لضعف سندها ـ في أنّه هل يعمل بتلك الأخبار في خصوص مواردها ، أعني النائم ، والساهي والحائض ، فيكون الوقت بالنسبة إليهم أوسع منه بالنسبة إلى غيرهم ، أو أنّه يتعدّى عنها إلى مطلق ذوي الأعذار بإلغاء الخصوصية ، أو يستفاد منها الاطلاق ، ولو بالنسبة إلى العامد ، غاية الأمر إنّه عاص بالتأخير ، للأخبار الكثيرة الدالّة على حرمة التأخير عن انتصاف الليل(5)؟ وجوه .
ولا يخفى أنّه لا دلالة لما دلّ على ثبوت كفّارة صوم يوم ، على من أخّر العشاء
- (1) المجموع 4: 370 ـ 371; المغني لابن قدامة 2: 113; الشرح الكبير 2: 116; بداية المجتهد 1: 246 ـ 240; الخلاف 1: 588 مسألة 351 وص591 مسألة 353; تذكرة الفقهاء 2: 365 مسألة 66 .
- (2) راجع ص88 .
- (3) الخلاف 1 : 273 مسألة 14 .
- (4) الوسائل 4 : 159 أبواب المواقيت ب10 ح9 .
- (5) الوسائل 4 : 183 . أبواب المواقيت ب17 .
(الصفحة 133)
عن الانتصاف(1) على انقضاء الوقت بذلك ، لأنّه يحتمل أن تكون الكفارة من جهة حرمة التأخير ، لا خروج وقتها بذلك .
ويجري في الأخبار الواردة في خصوص الحائض احتمالات ثلاثة :
أحدها : أن تكون محمولة على الاستحباب ، كما حكي عن الشيخ(رحمه الله)(2) .
ثانيها : أن تحمل على الوجوب ، ويكون المراد إتيانها إلى طلوع الفجر قضاء ، فتكون هذه الأخبار مخصّصة للأخبار الدالّة على عدم وجوب القضاء على الحائض ; إذا طهرت بعد انقضاء الوقت(3) .
ثالثها : الحمل على ظاهرها ، وهو وجوب إتيانهما عليها أداء ، لامتداد وقتهما إلى الفجر ، ولا يخفى أنّ الاحتمال الأوّل خلاف الظاهر ، والأظهر منها هو الاحتمال الأخير ، فإنّ المتبادر من هذه الروايات امتداد وقت المغرب والعشاء إلى الفجر ، كامتداد الظهرين إلى الغروب .
ثم إنّه قد يقال بترجيح الاحتمال الثالث ، نظراً إلى أنّ مقتضى الاحتمال الثاني تخصيص العمومات الدالّة على عدم وجوب القضاء على الحائض ، إذا طهرت بعد مضيّ الوقت ; ومقتضى الاحتمال الثالث خروج مورد الروايات عن تلك العمومات بنحو التخصّص ، فيدور الأمر بين التخصيص والتخصّص ، ولا ريب أنّ الترجيح مع الثاني ، ولكن لا يخفى أنّ ذلك فيما إذا كان مراد المتكلّم مجهولا ، فبأصالة العموم النافية للتخصيص يستكشف المراد .
وأمّا في مثل المقام ممّا إذا كان المراد معلوماً ـ لأنّ المفروض ثبوت الوجوب
- (1) الفقيه 1 : 142 ح658 ; الوسائل 4 : 214 . أبواب المواقيت ب29 ح3 .
- (2) التهذيب 1 : 391 ذح1207 .
- (3) الكافي 3 : 102 ح1 و 2 ; التهذيب 1 : 389 ح1198 و 1199 ; الإستبصار 1 : 142 ح484 و485 ; الوسائل 2 : 361 ـ 362 . أبواب الحيض ب49 ح2 و3 .
(الصفحة 134)
بالنسبة إلى الحائض بعد الانتصاف ، سواء كان من باب التخصيص أو التخصّص ـ فلا مجال حينئذ للتمسّك بأصالة العموم كما حقّقناه في الاصول ، فانقدح ممّا ذكرنا أنّ مقتضى هذه الطائفة امتداد وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر ، وقد عرفت عدم ثبوت الاعراض عنها ، فلابدّ من الجمع بينها وبين الطائفة الرابعة الظاهرة في الامتداد إلى نصف الليل .
والاحتمالات في وجه الجمع ثلاثة :
الأوّل : أن يحمل أخبار الانتصاف على بيان آخر الوقت للمختار وأخبار الفجر على بيان آخر الوقت للمضطرّ .
الثاني : أن يحمل أخبار النصف على بيان آخر وقت الفضيلة ، وأخبار الفجر على بيان آخر وقت الإجزاء ، ومرجع هذين الوجهين إلى وجه واحد ، وهو كون كلّ من الطائفتين متعرّضة لتحديد أحد الوقتين المجعولين لكلّ صلاة ، غاية الأمر أنّ اختلافهما بالاختيار والاضطرار عند الشيخ ومن تبعه(1) ، وبالفضيلة والاجزاء عند غيرهم(2) ، وهو الأقوى كما عرفت .
هذا كلّه بناء على إلغاء الخصوصية من حيث الحيض ، والنوم ، والنسيان من أخبارالفجر،واستفادة العموم منها، وإلاّوجب العمل بمضمونهافي خصوص موردها.
الثالث : حمل أخبار الفجر على التقية ، لموافقتها للعامّة إجمالا ، وإن اختلفوا من حيث الامتداد إلى الفجر مطلقاً ، كما ذهب إليه مالك(3) ، أو الامتداد إليه في موارد
- (1) المقنعة : 294 ; المبسوط 1 : 72 ; الخلاف 1 : 271 مسألة 13 ; الكافي في الفقه : 138 ; المهذّب 1 :71 ; الوسيلة : 81 .
- (2) المسائل الناصريّات : 195 ; السرائر 1 : 196 ; المعتبر 2 : 26 ; الجامع للشرائع : 59 ; المراسم : 62 ; تذكرة الفقهاء 2 : 300 مسألة 23 ; حكاه عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة 2 : 4 .
- (3) المجموع 3 : 34 ; المغني لابن قدامة 1 : 424 ; الشرح الكبير 1 : 472 ; تذكرة الفقهاء 2 : 312 مسألة 31 .
(الصفحة 135)
الجمع(1) وحينئذ فلابدّ من طرح أخبار الفجر ، والأخذ بأخبار الانتصاف ، لكونها بصدد بيان الحكم الواقعي ، لما عرفت من أنّه ليس من الانتصاف في كلماتهم أثر أصلا ; وهذا الاحتمال هو الذي يستفاد من فتاوى فقهائنا الإمامية في متونهم الفقهية(2) ، مع أنّ مقتضى القاعدة الجمع بين الطائفتين بأحد من الوجهين الأوّلين ، لأنّ الجمع الدلالي مقدّم على الجمع من حيث الجهة .
وحينئذ فطرح أخبار الفجر مشكل ، إلاّ أن يثبت الاعراض ، وقد عرفت عدم ثبوته ، والأحوط حتى بالنسبة إلى موارد أخبار الفجر من الحائض ، والنائم ، والساهي ، عدم قصد الأداء ولا القضاء بعد انتصاف الليل ، بل قصد الإتيان بما في الذمّة كما لايخفى .
المسألة الخامسة : أوّل وقت صلاة العشاء
قال الشيخ في كتاب الخلاف ما لفظه : الأظهر من مذهب أصحابنا ومن رواياتهم أنّ أوّل وقت العشاء الآخرة غيبوبة الشفق الذي هو الحمرة(3) ، وفي أصحابنا من قال : إذا غابت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين(4) .
- (1) أحدها: السفر ، الامّ 1 : 77 ; المجموع 4 : 370 ـ 371 ; المغني لابن قدامة 2 : 113 ; الشرح الكبير 2 : 116 .
- ثانيها : العرفة والمزدلفة ; وعلّة الجمع السفر كما قال أكثر الجمهور : المجموع 4 : 371 .
- ثالثها : المطر ; المجموع 4 : 384 ; المغني 2 : 117 ; الشرح الكبير 1182 ; بداية المجتهد 1 : 246 ـ 240 .
- (2) مسائل الميافارقيات (رسائل الشريف المرتضى) 1 : 274 ; المبسوط 1 : 75 ; المراسم : 62 ; الغنية : 70 ; الوسيلة : 83 ; السرائر 1 : 195 ، الجامع للشرائع : 60 ; المعتبر 2 : 43 ; الدروس 1 : 139 ; مفاتيح الشرائع 1 : 87 . .
- (3) الهداية : 130 ; المقنعة : 93 ; الكافي في الفقه : 137 ; المراسم : 62 ; المسائل الناصريّات : 195 .
- (4) المسائل الميافارقيات (رسائل الشريف المرتضى) 1 : 274 .
(الصفحة 136)
ولا خلاف بين الفقهاء أنّ أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة الشفق ، وإنّما اختلفوا في ماهية الشفق ، فذهب الشافعي إلى أنّه الحمرة ، فإذا غابت بأجمعها فقد دخل وقت العشاء الآخرة ، وروى ذلك عن عبدالله بن عمر ، وعبدالله بن مسعود ، وأبي هريرة ، وعبادة بن الصّامت ، وشدّاد بن أوس ، وبه قال مالك ، والثوري ، ومحمّد(1) ، وقال قوم : الشفق هو البياض ، لا تجوز الصلاة إلاّ بعد غيبوبته ، ذهب إليه الأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وزفر ، وروي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز ، وهو اختيار المزني(2) .
وذهب أحمد إلى أنّ وقتها في البلدان والأبنية غيبوبة البياض ، وفي الصحاري والفضاء غيبوبة الحمرة ، فإنّ البنيان يستر ، فاحتيط بتأخير الصلاة إلى غيبوبة البياض ، ليتحقّق معه غيبوبة الحمرة . وفي الصحراء لا حائل يمنع من ذلك ، فلم يعتبر ذلك ، لا أنّه جعل الوقت مختلفاً في الصحاري والبنيان(3) .
دليلنا : إنّ ما اعتبرناه من ذلك لا خلاف بين الطائفة المحقّة أنّه من الوقت ، وليس هاهنا إجماع على أنّ ما قبله وقت ، فوجب الاحتياط لئلاّ يصلّي قبل دخول الوقت ، وقد تكلّمنا في الأخبار المختلفة في هذا المعنى في الكتابين المقدّم ذكرهما(4) ، انتهى .
ويستفاد من ذلك تسالم المسلمين إجمالا على كون ما بين ذهاب الشفق بمعنى البياض ، وثلث الليل وقتاً للعشاء ، وإنّما وقع الاختلاف بينهم في وقتها أوّلا وآخراً ، هذا . وقد نقل(قدس سره) أقوالا ثلاثة :
- (1) سنن البيهقي 1 : 373 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 274 ; المجموع 3 : 42 .
- (2) المجموع 3 : 43 ; مغني المحتاج 1 : 123 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 274 .
- (3) مسائل أحمد بن حنبل : 27 .
- (4) الخلاف 1 : 262 . مسألة 7 .