(الصفحة 155)
أوّل وقتهما . وأمّا نحن فقد عرفت أنّ مختارنا هو دخول وقت العصر بمجرّد الزوال بعد مضيّ مقدار أداء الظهر(1) ودخول وقت العشاء بالغروب بعد مضيّ أداء المغرب(2) وحينئذ فهل الأفضل الإتيان بهما في أوّل وقتهما كسائر الفرائض ، أو أنّ الأفضل تأخير العصر إلى المثل والعشاء إلى زوال الشفق ، أو يفصل بينهما بكون العصر كسائر الفرائض ، فالأفضل الإتيان بها في أوّل وقتها دون العشاء ; فإنّ تأخيرها إلى زوال الشفق أفضل؟ وجوه واحتمالات .
ولا يخفى أنّه بناء على الوجه الأوّل لا يكون للعصر والعشاء إلاّ وقتان : وقت فضيلة ووقت إجزاء ، وأمّا بناء على الوجه الثاني يصير لهما ثلاثة أوقات : وقت فضيلة ، ووقتا إجزاء ، كما أنّه بناء على الوجه الأخير يكون للعصر وقتان ، وللعشاء ثلاثة أوقات .
ويدل على الوجه الأول ، العمومات الدالّة على أنّ أول الوقت أفضل(3) ، وعلى الوجه الثاني ، الأخبار الدالّة على إتيان جبرئيل بأوقات الصلاة المروية بطرق الفريقين وقد تقدّمت ; وكذلك ما نقل بطريق الفريقين أيضاً من أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)كان يفرّق بين الظهر والعصر وكذا بين المغرب والعشاء(4) ، ومن المعلوم أنّ ذلك لم يكن إلاّ لإدراك الفضيلة ، لما سيأتي من عدم خصوصية للتفريق بما هو تفريق ، بل هو إنّما كان لأجل إدراك الفضيلة .
وبالجملة : فلا إشكال في أنّ العمل المستمر من النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان هو التفريق بين
- (1) ذكرنا المختار في المسألة الاُولى في بيان أوّل وقت الظهرين .
- (2) المسألة الخامسة في أوّل وقت العشاء ص105 من هذا الكتاب .
- (3) الوسائل 4 : 118 . أبواب المواقيت ب3 .
- (4) الوسائل 4 : 157 ـ 158 . أبواب المواقيت ب10 ح5 ـ 8 و ص220 ب31 ح7 ، سنن الترمذي 1 : 200 ، ح149 ; سنن أبي داود 1 : 107 ح393 ; سنن ابن ماجة 1 : 219 ح667 ; سنن البيهقي 1 : 364 ; سنن النسائي 1 : 283 ح498 .
(الصفحة 156)
الصلاتين ، فإنّه(صلى الله عليه وآله) كان يرجع إلى منزله بعد الإتيان بالمغرب ، ويتنفل ثمّ يصبر مدّة ثم يرجع إلى المسجد للعشاء(1) . نعم قد ورد منه أنّه كان قد يجمع بين الصلاتين(2)ولكن الظاهر إنّه كان نادراً إتفاقياً ، ولعلّ الغرض منه بيان الجواز .
فالعمدة في المقام بيان وجه ذلك مع أنّ التفريق كان مشقّة له(صلى الله عليه وآله) وللناس ، ولا وجه له سوى كون التأخير أفضل ، فكيف يجتمع ذلك مع الروايات الدالّة على أنّ أوّل الوقت أفضل مطلقاً ، وقد عرفت أنّ وقتهما يدخل بمجرّد الزوال والغروب بعد مضيّ مقدار أداء الشريكة(3) .
هذا ، وحكي عن الجواهر(4) أنّه أخذ بمقتضى ما استمرّ عليه عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله)من أنّ التأخير أفضل في كلتيهما ، أعني العصر والعشاء ، ولكنّه ذهب المحقّق الهمداني في المصباح إلى التفصيل بينهما كما هو مقتضى الوجه الثالث . قال في وجه ذلك ما ملخّصه : إنّ تأخير العصر وإن كان راجحاً مستحبّاً إلاّ أنّ تعجيلها والإتيان بها بعد أداء الظهر ونافلة العصر أيضاً حسن ، بل أحسن من جهة انطباق عنوان المسارعة والاستباق إلى الخير الذي هو عنوان ثانوي راجح عليه(5) .
ولكنّه يرد عليه أنّ هذا الكلام يجري بعينه في العشاء أيضاً ، فلا وجه للتفصيل بينها وبين العصر ، مضافاً إلى أنّ الأمر بالاستباق(6) والمسارعة(7) ليس أمراً مولويّاً استحبابياً ناشئاً عن ملاك الاستحباب ، بل هو أمر إرشادي كما هو واضح ،
- (1) سنن النسائي 1 : 301 ـ 303 ح531 ـ 535 ، صحيح البخاري 1 : 160 ـ 161 ح569 إلى 572 .
- (2) الوسائل 4 : 220 . أبواب المواقيت ب32 .
- (3) تقدّم : ص123 .
- (4) جواهر الكلام 7 : 306 ـ 311 .
- (5) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 82 .
- (6) البقرة : 148 .
- (7) آل عمران : 133 .
(الصفحة 157)
ولو سلّمنا كونه مستحباً مولوياً أيضاً فنقول : يقع التزاحم حينئذ بين المستحبيّن ، ومن المعلوم أنّ تقديم أحدهما على الآخر يتوقّف على إحراز أقوائية ملاكه ، وكونه أرجح بالنسبة إلى الآخر ، ولم يقم في المقام دليل على أرجحية ملاك المسارعة في خصوص العصر ، للروايات المتواترة(1) الدالّة على استحباب الإتيان بالعصر بعد الذراعين نظراً إلى وضوح عدم خصوصية للذراعين ، وأنّ التأخير إليهما إنّما هو لمكان النافلة ، ولكنّه يرد عليه مخالفة ذلك لما استمرّ عليه عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) من التأخير إلى المثل .
والذي يمكن أن يقال في هذا المقام أنّ استمرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) على ما ذكر من تأخير العصر إلى أن يصير ظلّ الشاخص مثله مما لم يثبت ، كيف ويستفاد من الروايات الكثيرة التي بلغت من الكثرة حدّاً يمكن دعوى القطع بصدورها ، أنّ بناءه(صلى الله عليه وآله) كان على الإتيان بالعصر بعد الذراعين ، وحينئذ فيظهر بطلان ما عليه العامّة في مقام العمل من التأخير إلى المثل ، وكذا عدم صحة ما حكوا عن النبي(صلى الله عليه وآله)من أنّه كان ملتزماً بذلك(2) .
ولا بأس بإيراد بعض تلك الأخبار ليتّضح الحال ، فنقول :
منها : ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضيل بن يسار وزرارة بن أعين وبكير ابن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) إنّهما قالا : «وقت الظهر بعد الزوال قدمان»(3) .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سألته عن وقت الظهر؟ فقال :
- (1) الوسائل 4 : 143 . أبواب المواقيت ب8 .
- (2) سنن النسائي 1 : 285 ح500 ; سنن البيهقي 1 : 366 .
- (3) الفقيه 1 : 140 ح649 ; التهذيب 2 : 255 ح1012 ; الاستبصار 1 : 248 ح892 ; الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 ح1 و 2 .
(الصفحة 158)
«ذراع من زوال الشمس ، ووقت العصر ذراع من وقت الظهر ، فذاك أربعة أقدام من زوال الشمس . ثمّ قال : إنّ حائط مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان قامة ، وكان إذا مضى منه ذراع صلّى الظهر ، وإذا مضى منه ذراعان صلّى العصر . ثمّ قال : أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟ قلت : لِمَ جعل ذلك؟ قال : لمكان النافلة ، لك أن تنفل من زوال الشمس إلى أن يمضي ذراع ، فإذا بلغ فيئك ذراعاً من الزوال بدأت بالفريضة وتركت النافلة ، وإذا بلغ فيئك ذراعين بدأت بالفريضة وتركت النافلة»(1) .
ومنها : ما رواه عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث قال : «كان حائط مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) قبل أن يظلّل قامة ، وكان إذا كان الفيء ذراعاً وهو قدر مربض عنز صلّى الظهر ، فإذا كان ضعف ذلك صلّى العصر»(2) .
ومنها : رواية صفوان الجمّال قال : صلّيت خلف أبي عبدالله(عليه السلام) عند الزوال ، فقلت : بأبي أنت واُمّي وقت العصر؟ فقال : «ريثما تستقبل إبلك ، فقلت : إذا كنت في غير سفر؟ فقال : على أقلّ من قدم ثلثي قدم وقت العصر»(3) .
ومنها : رواية إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)إذا كان فيء الجدار ذراعاً صلّى الظهر ، وإذا كان ذراعين صلّى العصر ، قال : قلت : إنّ الجدار يختلف ، بعضها قصير وبعضها طويل؟ فقال : كان جدار مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله)يؤمئذ قامة»(4) .
ومنها : رواية علي بن حنظلة قال : قال لي أبو عبدالله(عليه السلام) : «القامة والقامتان
- (1) الفقيه 1 : 140 ح653 ، التهذيب 2 : 19 ح55 ، الإستبصار 1 : 250 ح899 ، علل الشرائع : 349 ح2 ، الوسائل 4 : 141 . أبواب المواقيت ب8 ح3 و 4 .
- (2) الكافي 3 : 295 ح1 ، التهذيب 3 : 261 ح738 ، الوسائل 4 : 142 . أبواب المواقيت ب 8 ح7 .
- (3) الكافي 3 : 431 ح1 ; الوسائل 4 : 143 . أبواب المواقيت ب8 .
- (4) التهذيب 2 : 21 ح58 ، الوسائل 4 : 143 . أبواب المواقيت ب 8 ح10 .
(الصفحة 159)
الذراع والذراعان في كتاب علي(عليه السلام)»(1) . والمراد أنّه قد فسّرت القامة بالذراع في كتابه(عليه السلام) ، أو أنّ المذكور فيه بدل القامة الذراع .
إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه عدم تأخير العصر إلى المثل ، وأنّ النبي(صلى الله عليه وآله)كان يصلّيها قبله ، وحينئذ فلا ينبغي الارتياب بمقتضى أصول المذهب في بطلان ما عليه العامّة ، لحجّية أقوال العترة الطاهرة في حقّنا ، بل في حقّ من لم يقل بإمامتهم أيضاً ، فإنّهم أحد الثقلين(2) اللذين تركهما النبيّ(صلى الله عليه وآله) في الاُمة في عرض الثقل الآخر الذي هو الكتاب العزيز ، ويستفاد من ذلك أنه كما يجب التمسك بالكتاب لأجل فهم الأحكام الشرعية ، كذلك يجب الاعتصام بحبلهم لإستفادة ما لم يكن مبيّناً في الكتاب من الأحكام والشرائع ، فلا عذر في طرد قولهم والاستغناء عنهم بالكتاب.
هذا كلّه بالنسبة إلى صلاة العصر .
وأمّا صلاة العشاء فاستفادة استحباب تأخيرها إلى زوال الشفق من مجرّد تأخير النبيّ(صلى الله عليه وآله) إليه على فرض ثبوته مشكل ، إذ لعلّ تأخيره لم يكن لأجل كونه أفضل ، بل كان لجهات خارجية كتعشي الناس واستراحتهم مثلا ، حيث كان أكثرهم في النهار مشتغلين بتحصيل المعاش وتحمل المشقة ، فلم يقدروا في الليل على الإتيان بالصلاتين متعاقبة .
وبالجملة : فمجرّد الفعل من دون وضوح وجهه لا يدلّ على الاستحباب أصلا وتسالم العامّة على ذلك قولا وفعلا لا يدلّ على ذلك ، خصوصاً بعدما ظهر فساد أكثر ما تسالموا عليه ، كما عرفت في صلاة العصر ، مضافاً إلى وضوح أنّ بنائهم في ذلك على اُمور لا اعتبار بها أصلا كالاعتماد على قول صحابيّ ، ولو كان مثل أبي هريرة الذي روى عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ما يزيد عن خمسة آلاف حديث مع قلّة
- (1) التهذيب 2 : 23 ح64 ، الوسائل 4 : 144 . أبواب المواقيت ب8 ح14 .
- (2) المراجعات : 27 ، المراجعة 8 ; وفي ذيلها ذكر موارد نقل الحديث في كتب العامة .