(الصفحة 165)
والذراعان؟» قال : قلت : لِمَ ؟ قال : «لمكان الفريضة ، لئلا يؤخذ من وقت هذه ويدخل في وقت هذه»(1) . ورواه في التهذيبين في موضع آخر بطريق آخر هكذا : قال ـ يعني أبا جعفر(عليه السلام) ـ : «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا كان الفيء في الجدار ذراعاً صلّى الظهر ، وإذا كان ذراعين صلّى العصر» قلت : الجدران تختلف ، منها قصير ومنها طويل؟ قال : «إنّ جدار مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يومئذ قامة ، وإنّما جعل الذراع والذراعان لئلاّ يكون تطوّع في وقت فريضة»(2) .
وظاهر هاتين الروايتين تباين الوقتين ، وقت الفريضة ووقت النافلة ، وقد عرفت أنّ ذلك مخالف لإجماع المسلمين(3) وحينئذ فيحتمل أن يكون المراد بوقت الفريضة وقت فضيلتها ، فالمقصود من الرواية الاُولى حينئذ أنّ التحديد إلى الذراع إنّما هو لئلاّ يؤخذ من وقت فضيلة العصر ويدخل في وقت نافلتها ; ومن الرواية الثانية أنّ التحديد إليه من جهة أن لا يقع التطوّع في وقت فضيلة الفريضة . ولكن هذا الإحتمال مردود أيضاً من جهة مخالفته للإجماع بالنسبة إلى صلاة الظهر ، لأنّ مقتضاه صيرورة الظهر ذات أوقات ثلاثة : وقتان للإجزاء ، ووقت للفضيلة متوسط بينهما .
ويحتمل أن يكون المراد بوقت الفريضة وقت انعقاد الجماعة لأجلها ، والمراد بالجعل هو جعل النبيّ(صلى الله عليه وآله) عمله كذلك لا الجعل التشريعي ، فيصير محصّل الروايتين أنّ تأخير النبيّ(صلى الله عليه وآله) عملا إنما هو لمراعاة حال المتنفلين القاصدين لإدراك الجماعة ، إذ
- (1) التهذيب 2 : 245 ح975 ; الاستبصار 1 : 249 ح894 ; الوسائل 4 : 146 . أبواب المواقيت ب8 ح21 .
- (2) التهذيب 2 : 250 ح993 ; الاستبصار 1 : 255 ح916 ; الوسائل 4 : 147 . أبواب المواقيت ب8 ح28 .
- (3) المجموع 3 : 18 ; المغني لابن قدامة 1 : 371 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 286 ; الهداية : 127 ; المقنعة : 92 ; الغنية : 69 ; الوسيلة : 82 ; المراسم : 62 ; الكافي في الفقه : 137 ; المهذّب 1 : 69 ; الخلاف 1 : 256 مسألة 3 ; المعتبر 2 : 27 ; تذكرة الفقهاء 2 : 300 ; مسألة 24 .
(الصفحة 166)
لو لم يكن يؤخّر الفريضة لأخذ من وقت انعقاد الجماعة للفريضة ، وأدخل في وقت النافلة ، وتقع النافلة حينئذ في وقت انعقاد الجماعة للفريضة ، وعلى أيّ تقدير فلا يستفاد من الرواية التوقيت كما هو واضح .
4 ـ ما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «الصلاة في الحضر ثمان ركعات إذا زالت الشمس ما بينك وبين أن يذهب ثلثا القامة ، فإذا ذهب ثلثا القامة بدأت الفريضة»(1) . والمراد بالصلاة هي نافلة الظهر ، وتدلّ الرواية على توقيتها إلى ذهاب ثلثي القامة ، ولا ريب أنّهما أزيد من الذراعين ، فتخالف جميع الروايات .
5 ـ رواية محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إذا دخل وقت الفريضة أتنفّل أو أبدأ بالفريضة؟ قال : «إنّ الفضل أن تبدأ بالفريضة ، وإنّما أخّرت الظهر ذراعاً من عند الزوال من أجل صلاة الأوابين»(2) . والمراد بوقت الفريضة في السؤال هو وقت فضيلتها ، أو وقت انعقاد الجماعة لها ، وهو بعد مضيّ الذراع ، لأنّ الإتيان بالنافلة قبل الذراع أفضل .
ويحتمل أن يكون المراد بوقت الفريضة ، الوقت الذي لا تزاحم النافلة الفريضة فيه ، لما عرفت من أنّ النافلة تزاحم الفريضة إلى الذراع وتصير مرجوحة بعده ، فلا يستفاد من الرواية التوقيت بالنسبة إلى النافلة .
واحتمل صاحب المدارك في الرواية إحتمالا آخر ، وهو أن يكون صدر الرواية متعرّضاً لحال النافلة المبتدأة ، لأنّها هي التي يكون الإتيان بالفريضة راجحاً عليها ، وذيلها وهو قوله : «وإنّما أخّرت الظهر ذراعاً . . .» إنّما هو دفع دخل ، لأنّه بعدما حكم بترجيح الإتيان بالفريضة على النافلة المبتدأة صار بصدد بيان الفرق بين النافلة المبتدأة وصلاة الأوابين ـ أي نافلة الظهر ـ لئلاّ يورد عليه
- (1) التهذيب 2 : 248 ح985 ; الاستبصار 1 : 253 ح908 ; الوسائل 4 : 146 . أبواب المواقيت ب8 ح23 .
- (2) الكافي 3 : 289 ح5 ; الوسائل 4 : 230 . أبواب المواقيت ب36 ح2 و 3 .
(الصفحة 167)
بأنّه ما الفرق بينهما مع اشتراكهما في كونهما نافلة؟ فأجاب بثبوت الفرق بينهما من حيث مرتبة الفضيلة ، فإنّ فضل نافلة الظهر بمرتبة تؤخّر الفريضة لأجلها(1) .
هذه مجموع الروايات التي يمكن أن يستدلّ بها القائل بالقول الثاني ، وقد عرفت عدم دلالة شيء منها على هذا القول ، فإنّ مفاد أكثرها هو بيان أنّ النافلة تزاحم الفريضة ، إلى أن يصير ظلّ الشاخص ذراعاً أو ذراعين ، وأمّا إذا بلغ الفيء إليهما فلا تزاحم النافلة الفريضة ، بل الفضل في تأخيرها عنها ، لا أنّه يخرج بذلك وقت النافلة وتصير قضاء ، فلا دلالة لها على ذلك أصلا .
بل يمكن أن يقال بدلالة بعضها على عدم خروج وقتها ، فإنّ قوله(عليه السلام) في صحيحة زرارة المتقدّمة : «بدأت بالفريضة وتركت النافلة» يدلّ على جواز الإتيان بالنافلة بعد الفريضة إذا بلغ الفيء الذراع ، وظاهره أنّ النافلة التي يجوز الإتيان بها بعد الفريضة في ذلك الوقت هي عين الطبيعة التي كانت تزاحم الفريضة قبله ، ولو كانت موقّتة بالذراع مثلا ، بحيث صارت قضاء بعده لم تكن النافلة البعدية عين الطبيعة القبلية ، لما حقّق في محلّه من أنّ طبيعة القضاء مباينة لطبيعة الأداء ، فلا يستفاد من الروايات بملاحظة ما ذكرنا أزيد من جواز مزاحمة النافلة للفريضة إلى الذراع ، ويكون إدراكها أفضل من إدراك فضل وقت الفريضة ، وبعد الذراع ينعكس الأمر من دون أن تصير النافلة قضاء .
نعم لا ينبغي الإشكال في كون النوافل موقّتة ، لدلالة الأخبار الكثيرة على استحباب قضاء النوافل(2) ، كما أنّ الظاهر عدم كون وقتها أوسع من وقت الفريضة وحينئذ فبعد عدم ثبوت توقيتها إلى الذراع والذراعين ، وكذا إلى المثل والمثلين ، لا
- (1) مدارك الاحكام 3 : 89 ; ولكن لم نعثر على الاحتمال المحكي عن المدارك فيه .
- (2) الوسائل 4 : 75 . أبواب أعداد الفرائض ب 18 .
(الصفحة 168)
يبعد القول بامتداد وقتها بامتداد وقت الفريضة ، لكن لا يترتب على هذا النزاع ثمرة مهمّة ، إذ الإتيان بها قبل الذراع راجح بلا إشكال ، والإتيان بها بعده قبل الفريضة مرجوح كذلك ، والإتيان بها بعدها جائز بلا ريب ، سواء كان قضاءً ، أو أداء ، إذ على فرض صيرورتها قضاء بعد الذراع لا مجال لاحتمال وجوب تأخيرها إلى الليل أو النهار الآتي كما هو واضح ; فالأحوط فيما إذا أتى بها بعد الفريضة الإتيان بها بقصد ما في الذمة .
وربّما يتمسّك في بقاء وقتها بعد الذراع باستصحاب بقاء الوقت ، أو عدم خروجه ، أو بقاء الرجحان ، ولا يخفى ما فيه من الضعف ، فإنّ ممّا يتقوّم به الاستصحاب أن يكون هنا متيقن سابق يمكن إبقائه في الزمان اللاحق ، ومن الواضح في المقام عدم ثبوت هذا الركن ، فإنّ المتيقّن السابق هو وقوع النافلة في وقتها مقيّداً بما إذا أتى بها قبل الذراع ، واستصحاب هذا المعنى لا يجدي لإثبات بقاء وقتها بعد الذراع أيضاً ، بل لا يجري هذا الاستصحاب لعدم كون هذه القضية الشرطية مشكوكة أصلا ، فما وقع الشك فيه ـ وهو أصل جهة الوقتية ـ مشكوك من أوّل الأمر ، وما كان متيقناً ـ وهي القضية الشرطية ـ لا يكون مشكوكاً أصلا كما هو واضح ; هذا كلّه بالنسبة إلى آخر وقت نافلة الظهرين .
وأمّا أول وقتها فلا إشكال ولا خلاف في جواز الإتيان بها من أوّل الزوال(1) ، وحكي عن جماعة جواز تقديم نافلة الظهر على الزوال(2) ، واستدلوا على ذلك
- (1) المجموع 4 : 11 ; المغني لابن قدامة 1 : 800 ; المقنعة : 90 ; النهاية : 60 ; الغنية : 71; المهذّب 1 : 70; الوسيلة : 83; المراسم 63; الجامع للشرائع : 62 ، السرائر 1 : 199 ، المعتبر 2 : 48 ; تذكرة الفقهاء 2 : 316 مسألة 37 ; مختلف الشيعة 2 : 33 ; جامع المقاصد 2 : 20 ; كشف اللثام 3 : 51 ; مفتاح الكرامة 2 : 31 .
- (2) منهم الشهيد في الذكرى 2 : 361; والأردبيلي في مجمع القائدة والبرهان 2 : 19 .
(الصفحة 169)
بروايات :
منها : رواية محمّد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) : عن الرجل يشتغل عن الزوال أيعجّل من أوّل النهار؟ قال : «نعم ، إذا علم أنّه يشتغل فيعجّلها في صدر النهار كلّها»(1) ، والمراد بالزوال هي نافلة الظهر .
ومنها : رواية عمر بن يزيد عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إعلم أنّ النافلة بمنزلة الهدية متى ما أُتي بها قبلت»(2) .
ومنها : رواية محمد بن عذافر قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : «صلاة التطوّع بمنزلة الهدية متى ما أُتي بها قبلت ، فقدّم ما شئت ، وأخّر منها ما شئت»(3) . والظاهر ـ باعتبار أنّ الراوي عن عمر بن يزيد في الرواية المتقدّمة هو محمّد بن عذافر ـ اتحاد الروايتين ، وكون الرواية الثانية مرسلة بحذف الواسطة ، لأجل الاعتماد عليها ، ولا يخفى ظهورهما في النافلة المبتدأة ، وعلى فرض الإطلاق تقيّدان بالأخبار الظاهرة في أنّ أوّل وقتها هو الزوال ، كما مر أكثرها .
ومنها : رواية إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إنّي أشتغل ، قال : «فاصنع كما نصنع صلِّ ستّ ركعات إذا كانت الشمس في مثل موضعها صلاة العصر ـ يعني ارتفاع الضحى الأكبر ـ واعتدّ بها من الزوال»(4) .
ومنها : رواية القاسم بن الوليد الغسّاني عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : جعلت فداك صلاة النهار صلاة النوافل في كم هي؟ قال : «ستّ عشرة ركعة في أيّ
- (1) الكافي 3 : 450 ح1 ; التهذيب 2 : 268 ح1067 ; الاستبصار 1 : 278 ح1011 ; الوسائل 4 : 232 . أبواب المواقيت ب37 ح1 .
- (2) الكافي 3 : 454 ح14 ، الوسائل 4 : 232 . أبواب المواقيت ب37 ح3 .
- (3) التهذيب 2 : 267 ح1066 ; الاستبصار 1 : 278 ح1010 ; الوسائل 4 : 233 . أبواب المواقيت ب37 ح8 .
- (4) التهذيب 2 : 267 ح1062 ، الاستبصار 1 : 277 ح1006 ، الوسائل 4 : 232 . أبواب المواقيت ب37 ح4 .