(الصفحة 193)
النهي فيها يحتمل وجوهاً :
أحدها : أن يكون النهي فيها للتحريم بسبب انطباق عنوان محرّم على النافلة مطلقاً ، راتبةً كانت أو غيرها بعد مضيّ الذراع مثلا .
ثانيها : أن يكون النهي إرشاداً إلى فساد النافلة في ذلك الوقت .
ثالثها : أن يكون النهي نهياً تنزيهيّاً بسبب انطباق عنوان ذي حزازة ومنقصة على النافلة في ذلك الوقت .
رابعها : أن يكون للإرشاد إلى قلة الثواب ، بمعنى أنّ النافلة لو أتى بها في هذا الوقت تكون أقل ثواباً بالنسبة إلى ما لو أتى بها في غير هذا الوقت .
خامسها : أن لا يكون النهي عن النافلة بسبب حرمتها أو حزازتها أو كونها أقلّ ثواباً ، بل كان للإرشاد إلى أنّ الأفضل حينئذ البدأة بالمكتوبة ، بمعنى أنّه حيث كانت ذمّة المكلّف مشغولة بما هوّ أهم وأكمل ، فالأحرى تقديم الأهمّ وعدم تأخيره ، فالنهي إنّما هو لمراعاة فضل المبادرة إلى الفريضة ، ومقتضى هذا الاحتمال عدم كون التطوّع في وقت الفريضة حراماً ، ولا ذا حزازة ومنقصة أصلا ، ولا ينقص فضلها عن الإتيان بها في غير وقتها ، بل هما متساويان بلا تفاضل .
وهذا هو أوجه الاحتمالات كما يظهر بالتدبّر فيها ، ويساعده فهم العرف أيضاً ، فإنّ العرف المخاطب بمثل قوله(عليه السلام) : «إذا دخل وقت الفريضة فابدأ بها» أو «لا تطوّع في وقت الفريضة» لا يفهم منه مع ملاحظة توسعة الوقت إلاّ أنّ مع اشتغال الذمّة بالفريضة ينبغي تقديمها وإفراغها منها ، ثمّ الشروع في الإتيان بالنوافل .
هذا كلّه مع أنّه لو أغمضنا النظر عمّا ذكرنا نقول : إنّ الأخبار الدالّة على الجواز صريحة فيه ، وروايات المنع ظاهرة في مدلولها ، ومقتضى قاعدة الجمع حمل الظاهر على النصّ ، وتوجيهه بما لا ينافيه ، والشهرة التي ادعيت على المنع ليست بحدّ توجب خروج أخبار الجواز عن الحجّية كما لا يخفى .
(الصفحة 194)
ثمّ إنّ أكثر الروايات المتقدّمة واردة في النهي عن التطوّع في وقت انعقاد الجماعة للفريضة ، أو غير آبية عن الحمل على هذه الصورة ، والحمل على هذا الوقت وإن كان بعيداً عن أذهاننا وما هو المتبادر إليها من الوقت ، إلاّ أنّ التتبّع في الأخبار يعطي أنّ المراد بالوقت في لسان الأخبار ليس خصوص ما هو المتبادر منه عند أذهاننا ، ويؤيّد ذلك ما رواه العامّة عن أبي هريرة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «إذا دخل الوقت فلا صلاة إلاّ المكتوبة»(1) .
والظاهر إنه ليس لهم في المسألة إلاّ هذه الرواية ، ولعلّها هي التي أشار إليها عمر بن يزيد في روايته المتقدّمة(2) ، كما يدلّ عليه التعبير بقوله : «يروون» ، ولا ينافي ذلك اختلاف التعبير فيهما . فإنّ رواية أبي هريرة ظاهرة في التحريم ، وما حكاه عمر بن يزيد لا يدلّ إلاّ على الكراهة لأنّه عبّر بكلمة لا ينبغي ، وذلك لأنّه يمكن أن لا يكون قد فهم من نفي الصلاة إلاّ الكراهة وعدم الحرمة ، أو أنّه يمكن أن تكون كلمة لا ينبغي مستعملة في التحريم عندهم .
وكيف كان فالمتطوّع في وقت الفريضة إمّا أن يكون مترقّباً لإنعقاد الجماعة ، ومنتظراً لإقامتها ، أو يتطوّع مع انعقاد الجماعة حال التطوّع ، أو أنّه لا يريد الصلاة جماعة بل فرادى ، ففي الصورة الاُولى لا إشكال في جوازه ، لرواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة ، قال : قلت : أُصلّي في وقت فريضة نافلة؟ قال : «نعم ، في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام تقتدي به ، فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة»(3) . وأمّا في صورة انعقاد الجماعة فظاهر رواية عمر بن يزيد المتقدّمة الجواز ، لكن مع كراهية ، والفضل في
- (1) سنن ابن ماجه 1 : 364 ح1151 ; سنن الترمذي 2 : 126 ب60 ح861 و862 ; وفيهما «إذا اُقيمت الصلاة . . .» .
- (2) الوسائل 4 : 228 . ابواب المواقيت ب35 ح9 .
- (3) الكافي 3 : 289 ح4 ; الوسائل 4 : 226 . أبواب المواقيت ب35 ح2 .
(الصفحة 195)
البدأة بالفريضة من جهة أفضلية المبادرة والمسارعة إلى إدراك فضل الوقت والجماعة معاً ، وليس المراد بالكراهة هي الكراهة التكليفية أو الوضعية ، بل المراد ما عرفت من كون الإتيان بالفريضة أهمّ وأولى من دون أن يكون في التطوّع حزازة ومنقصة موجبة للكراهة .
ومن هنا يظهر الجواز في صورة الإنفراد أيضاً بطريق أولى ، لأنّ التطوّع في صورة انعقاد الجماعة يوجب فوات فضيلتي الوقت والجماعة معاً ، بخلاف التطوّع منفرداً مع عدم قيام الجماعة ، فإنّه لا يوجب إلاّ فوات فضيلة الوقت فقط كما هو واضح ; فجوازه في الاُولى يستلزم الجواز في الثانية بطريق أولى ، والأمر بالابتداء بالمكتوبة في صورة الإنفراد كما في رواية إسحاق بن عمّار المذكورة ليس إلاّ لدرك فضل الوقت ، ولا يدل على حكم إلزامي أصلا .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ التطوّع في وقت الفريضة أو لمن عليه قضائها لا يكون محرّماً ولا مكروهاً ، بل النهي عنه إنّما هو للإرشاد إلى درك فضل الوقت فقط ، أو مع الجماعة كما عرفت .
نعم ، لا ينبغي الإشكال في عدم الجواز فيما إذا ضاق الوقت ، بحيث لو أتى بالنافلة لخرج وقت الفريضة ، كما أنّه لا إشكال في أنّ سبب النهي بأيّ معنى كان ، هو اشتغال الذمّة بالفريضة ، فالآتي بها لا يكون مشمولا لهذا الحكم أصلا كما هو أوضح من أن يخفى .
(الصفحة 196)
(الصفحة 197)
المقدّمة الثالثة في القبلة
إنّ اعتبار استقبال القبلة في المفروض من الصلوات ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، بل هو من ضروريّات الإسلام والفقه كما أنّه لا شكّ في أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة المشرّفة(1) ، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين من كان في المسجد ، ومن كان في الحرم ، ومن كان خارجاً عنهما ، للأخبار الكثيرة الدالّة عليه :
منها : رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : متى صرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر»(2) . فإنّها تدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي إلى الكعبة ، وهذا المعنى كان مسلّماً عند الراوي ، ولذا لم يسأل عنه ، بل سأل عن زمان صرف فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة .
ومنها : رواية أبي بصير عن أحدهما(عليهما السلام) ـ في حديث ـ قال : قلت له : إنّ الله
- (1) الخلاف 1 : 295 ; المقنعة : 95 ; الوسيلة : 85 ; المراسم : 60 ; الغنية : 68 ; المهذّب 1 : 84 ; السرائر 1 : 204 ; المعتبر 2 : 64 ـ 65 ; مختلف الشيعة 2 : 60 ; كشف اللثام 3 : 128 ; جواهر الكلام 7 : 320 .
- (2) التهذيب 2 : 43 ح135 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح1 .