(الصفحة 263)
وأنت خبير بأنّ هذه الرواية لا تدلّ على وجوب كشف الوجه على نحو يمكن أن ينظر الناظر إليه ، ويقع معرضاً لنظره ، بل إنّما تدل على حرمة تغطية الوجه على نحو تكون بعيدة عن التأذي بسبب حرارة الشمس وغيرها ، كما إذا غطّى الوجه بالنقاب ونحوه ، فلا تنافي مع وجوب ستره على نحو لا يكون معرضاً لنظر الأجنبي إليه ، كما هو المرسوم في هذه الأزمنة ، وعلى فرضه فلا تدلّ على كون الحكم في غير حال الإحرام أيضاً كذلك .
هذا ، مضافاً إلى أنّ ذيلها يدلّ على وجوب إرخاء الثوب من فوق الرأس على نحو يغطّي العينين والفم ، فالمستفاد من الآيات والروايات هو وجوب التستّر على المرأة حتى بالنسبة إلى الوجه والكفّين ، ولم يثبت ما يدلّ على التخصيص بهما .
ثمّ لا يخفى أنّ الحكم بعدم وجوب ستر الوجه على النساء لا يلازم الحكم بجواز نظر الأجنبيّ إليه ، فلا ينافيه ما يدلّ على حرمة النظر إلى الأجنبية ، مثل ما دلّ على أن النظر إليها سهم مسموم من سهام إبليس . أو أنّه زنا البصر(1) وغير ذلك ، فإنّ شمولها للنظر إلى الوجه ممّا لا يكاد ينكر ، بل هو القدر المتيقّن منه ، خصوصاً مع ملاحظة الحكمة في هذا الحكم المنصوص عليها في بعض الروايات(2) ، وهي كونه مهيّجاً للشهوة ، فإنّ التهييج الحاصل من النظر إلى الوجه يكون أقوى مراتبه .
ويدلّ على عدم ثبوت الملازمة بين الأمرين أنّ نظر المرأة إلى الأجنبي حرام مع أنّه لا يجب التستّر عليه بالاجماع(3) والضرورة ، حتّى إنّ بعضهم مع حكمه بعدم وجوب التستّر على النساء في الوجه حرّم نظرهنّ إلى وجوه الرجال .
- (1) جامع الاخبار : 93 ; بحار الأنوار 101 : 38 ح34 و35 ; وص40 ح46 .
- (2) علل الشرائع : 564 ; عيون الاخبار 2 : 97 ; بحار الأنوار 101 : 34 ح12 .
- (3) جواهر الكلام 29 : 81 .
(الصفحة 264)
وبالجملة : فلا ملازمة بين حرمة النظر ووجوب التستر ، ويؤيّد ذلك أنّهم أجمعوا على أنّه يجوز لمن أراد أن يتزوّج امرأة أن ينظر إلى وجهها ، ولمن أراد اشتراء أمة أن ينظر إلى الوجه والكفّين(1) ، فإنّه يستفاد منه أنّ جواز النظر إلى الأجنبية يختصّ بمن أراد التزويج أو الاشتراء ، ولا يعمّ غيرهما .
ثمّ إنّه لا فرق فيما يتستّر به بين أن يكون ثوباً أو غيره من ورق الشجر وغيره وإن كان يمكن الفرق بينهما في الستر الذي يكون شرطاً للصلاة . إلاّ أنّه لا فرق في هذا الستر المتعلّق للوجوب النفسي ; هذا كلّه في حكم النساء .
وأمّا الرجال فيجب عليهم ستر العورة كما هو المتّفق عليه بين المسلمين(2) ، والمشهور بين العامّة أنّه يجب عليهم التستّر من السرّة إلى الركبتين(3) ، وبين الخاصة هو وجوب ستر العورة فقط لقوله تعالى :
{قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم}(4) والظاهر من حفظ الفرج وإن كان هو حفظه عن الزنا ، إلاّ أنّه بقرينة الأخبار الدالّة على أنّ المراد بحفظ الفرج في الآيات كلّها هو حفظه عن الزنا إلاّ هذه الآية(5) ، فإنّ المراد منه حفظه من أن ينظر إليه يدلّ على ذلك .
والمراد بالفرج هو ما يفهم منه عرفاً لا المعنى اللغوي ، ومقتضى إطلاق الآية وجوب حفظ الفرج عن كلّ ناظر رجلا كان أو امرأة ، صغيراً أو كبيراً ، مجنوناً أو غيره ، نعم الصغير الذي لا يميّز بين العورة وغيرها خارج عن هذا الحكم ، لأنّ
- (1) المقنعة : 520 ; المبسوط 4 : 160 ـ 161 ; شرائع الإسلام 4 : 212 ; جواهر الكلام 29 : 63 .
- (2) الخلاف 1 : 393 مسألة 144 ; المعتبر 2 : 99 ، تذكرة الفقهاء 2 : 444 مسألة 10 ; الذكرى 3 : 5 ; كشف اللثام 3 : 227 ; مفتاح الكرامة 2 : 162 .
- (3) الأمّ 1 : 89 ; المجموع 3 : 167 ; بداية المجتهد 1 : 166 ـ 167 ; الخلاف 1 : 393 مسألة 144 .
- (4) النور : 30 .
- (5) مجمع البيان 7 : 137 و 138 ; الميزان 15 : 116 ; نور الثقلين 3 : 587 و 588 ; التفسير الكبير 8 : 363 .
(الصفحة 265)
المتبادر من الإطلاق غيره ، وكذا المجنون الذي بلغ جنونه إلى حدّ عدم التمييز بينهما لا مطلق الجنون .
ثمّ إنّه لا إشكال في وجوب حفظ الفرج عليهم في صورة العلم أو الظنّ ، بأنّه مع كشف العورة يقع مورداً لنظر الغير ، أمّا مع الاحتمال فقال بعض : بعدم الوجوب فيما لو كان الاحتمال موهوماً ، بحيث لو كشف عورته مع هذا الاحتمال فوقع نظر الناظر إليه لم يكن معاقباً عليه .
هذا ، ولا يخفى أنّه لو كان الاحتمال إحتمالا عقلائيّاً فمقتضى إطلاق الآية هو الوجوب ، ومع عدم كونه كذلك فمقتضى الإطلاق وإن كان أيضاً ذلك إلاّ أنّ الحكم به لا يخلو عن إشكال .
وقال الشافعي بأنّه يجب على الرجال التستّرولومع العلم بعدم وجود الناظر(1)، وفيه ما لا يخفى من المخالفة للآية الشريفة المفسّرة بما رواه العامّة عن النّبي(صلى الله عليه وآله)(2) ، والخاصّة عن أبي عبدالله(عليه السلام)(3) ، من أنّ المراد حفظ الفرج من أن ينظر إليه .
ثمّ إنّ حفظ الفرج يتحقّق بجعل حائل بين المبصِر والمبصَر ولو لم يكن ثوباً ، والأحوط أن لا يكون شفّافاً بحيث يحكي ما تحته ، نعم لا دليل على وجوب كون الحائل على نحو لا يحكي حجم المبصر ، وإن كان الأحوط أيضاً ذلك .
ثمّ إنّ كلمة «من» في قوله تعالى :
{وقُل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم}يحتمل أن تكون زائدة وأن تكون للتبعيض ، وهو إمّا باعتبار الابصار أو باعتبار المبصر ، فعلى الأوّل والثاني لا دلالة له على ما يجب غضّ البصر عنه ، لأنّ متعلّقه محذوف ولا يمكن أن يكون حذف المتعلّق هنا دليلا على العموم كما في سائر الموارد
- (1) المجموع 3 : 166 ـ 167 ; المغني لابن قدامة 1 : 651 ; تذكرة الفقهاء 2 : 444 مسألة 106 .
- (2) التفسير الكبير 8 : 363 .
- (3) مجمع البيان 7 : 138 .
(الصفحة 266)
لعدم إرادته قطعاً فهي مجملة من هذه الحيثية .
كما أنّ الإجمال متحقّق في المعنى الثالث أيضاً كما لا يخفى ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد وجوب غضّ البصر عن فروج سائر الرجال لمقارنته مع قوله تعالى :
{ويحفظوا فروجهم} فيصير المعنى حينئذ أنّه يجب على المؤمنين حفظ فروجهم من أن ينظر إليها ، ويحرم عليهم النظر إلى فروج غيرهم من الرجال .
وأمّا الكلام في الجهة الثانية ، وهي الوجوب الشرطي المتعلّق بالستر ، فهو المقصود بالبحث . واعلم أنّ بين الوجوب النفسي المتعلّق بالستر مطلقاً والوجوب الشرطي الذي يتعلّق به في حال الصلاة فرق من جهات :
منها : أنّ الأوّل يتعلّق بالرجل بالنسبة إلى عورته وبالمرأة بالنسبة إلى جميع بدنها إذا كانا معرضين لنظر الغير كما عرفت ، والثاني يكون ثابتاً عليهما مطلقاً ولو لم يكونا معرضين للنظر أصلا .
ومنها : أنّ الأوّل أعمّ من حيث الساتر أي لا يجب أن يكون هو الثوب ، بل يكفي ورق الشجر أو الطين أو غيرها ، بخلاف الثاني ، فإنّه يجب أوّلا أن يكون الساتر هو الثوب ، ومع عدم التمكّن منه يكتفي بغيره ، وإن لم يكن متمكّناً من الساتر رأساً تسقط شرطية الستر كما سيجيء .
ومنها : أنّه لا يعتبر في الأوّل أن يكونا لابسين له ، بل يكفي أن يكون الساتر بحيث يكون حائلا بينه وبين الغير وإن كان منفصلا عنه بخلاف الثاني ، فإنّه يجب أن يكون المصلّي لابساً له .
ومنها : أنّه لا يعتبر في الأوّل صفة في الساتر ، أي لا يعتبر أن لا يكون حريراً للرجل أو غيره ، بخلاف الثاني فإنّه يجب أن لا يكون الساتر حريراً للرجل أو ميتة أو نجساً ومن أجزاء غير مأكول اللحم لمطلق المصلّي وإن كان امرأة .
نعم هذه الأوصاف لا تعتبر في الساتر بما هو ساتر ، بل تكون معتبرة فيه من
(الصفحة 267)
حيث كون المصلّي لابساً له ، وبعبارة أُخرى يشترط أن لا يكون ما يلبسه المصلّي وإن لم يكن ساتراً له واجداً لواحد من تلك الأوصاف ، ويكون وجود واحد منها مانعاً لصحّة الصلاة كما سيظهر إن شاء الله تعالى .
إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّه لا يجب على الرجال في الصّلاة إلاّ ستر ما يكون ستره متعلّقاً للوجوب النفسي ، فيجب عليهم ستر العورة فقط ، خلافاً لبعض العامّة(1) حيث أوجب عليهم أن يستروا ما بين السرّة والركبة ، ولكن لا دليل عليه كما عرفت ، ولكن يستحبّ نفسيّاً أن يستر ما بينهما(2) ، ويوجب ذلك أكملية الصلاة ، هذا في الرجال .
وأمّا النساء فيجب عليهنّ ستر جميع البدن ما عدى الوجه ، فإنّ ستره لا يكون شرطاً لصحّة الصلاة(3) ، كما هو مقتضى الأخبار الصحيحة الدالّة على ذلك(4) ، بل بعضها يدلّ على استحباب عدمه(5) ، غاية الأمر أنّها إذا كانت معرضاً لنظر الغير ولم يستر وجهها تكون عاصية للوجوب النفسي ، بناءً على وجوب ستره عليها ، وهذا لا يكون مضرّاً بصحّة الصلاة كما هو واضح .
والمراد بالوجه الذي لا يجب ستره في الصلاة ولا يكون شرطاً لها هل هو الوجه الذي يجب غسله في باب الوضوء ، وهو ما دارت عليه الابهام والوسطى من قصاص الشعر إلى الذقن ، كما رواه زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)(6) ، أو أنّ المراد به هو
- (1) كالشافعي ومالك وأبي حنيفة كما في بداية المجتهد 1 : 166 . المسألة الثانية .
- (2) قواعد الأحكام 1 : 256 ; وهو المشهور كما في كشف اللثام 3 : 231 .
- (3) المبسوط 1 : 87 ; الإقتصاد : 258 ; الكافي في الفقه : 139 ; السرائر 1 : 260 ; مختلف الشيعة 2 : 98 .
- (4) الفقيه 1 : 167 ح785 ; الوسائل 4 : 405 . أبواب لباس المصلّي ب28 ح1 .
- (5) التهذيب 2 : 230 ح904 ; الوسائل 4 : 421 . أبواب لباس المصلّي ب33 ح1 وص424 ب35 ح6 .
- (6) الفقيه 1 : 28 ح88 ; الكافي 3 : 27 ح1 ; التهذيب 1 : 54 ح154 ; الوسائل 1 : 403 . أبواب الوضوء ب17 ح1 .