(الصفحة 299)
يعلموا»(1) .
ولا يخفى أنّه لا يجوز الاعتماد على إطلاقها للروايات الاُخرى الدالة على التقييد ، مثل ما رواه الكليني عن عمر بن أذينة، عن فضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم أنّهم سألوا أبا جعفر(عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصّابون؟ فقال(عليه السلام) : «كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه»(2) فإنّ مقتضى مفهومها أنّه لو كان شرائها من غير أسواقهم لا يجوز أكلها من دون سؤال .
والظاهر أنّ المراد من سوق المسلمين هو السوق الذي كان أكثر أهله مسلماً ، لا السوق المنعقد في البلد الذي يكون تحت سلطنة الإسلام وحكومة المسلمين ، ولو كان جميع أهله أو أكثره مشركاً .
وأيضاً الظاهر أنّ اعتبار السوق إنّما هو بالنسبة إلى من كان مجهول الحال ولايعلم أنّه مسلم أو كافر ، فإنّه يبنى على إسلامه لمكان غلبة المسلمين فيه ، ويكون إسلامه أمارة على وقوع التذكية الشرعية على الحيوان ، وإلاّ فلو علم بكفر البائع والذابح أو بكفر الأوّل فقط مع الشك في كفر الثاني فلا يؤثِّر في حلية اللحم المشترى منه كون أكثر أهل السوق مسلماً كما هو واضح ، فيرجع اعتبار السوق إلى اعتبار يد المسلم .
غاية الأمر انّه لا فرق بين ما إذا أُحرز إسلامه بالقطع أو بني عليه للغلبة ونحوها ، ثمّ إنّ مقتضى الرواية جواز الأكل مع السؤال عند الاشتراء من غير المسلم ، والظاهر أنّ المراد به هو السؤال عن البائع دون غيره ، فيرجع إلى اعتبار
- (1) الكافي 6 : 297 ح2; المحاسن 2: 239 ح1737; الوسائل 3: 493. أبواب النجاسات ب50 ح11 وج24: 90. أبواب الذبائح ب38 ح2.
- (2) الكافي 6: 237 ح2; الفقيه 3: 211 ح976; التهذيب 9: 72 ح306 و307; الوسائل 24: 70. أبواب الذبائح ب29 ح1.
(الصفحة 300)
قوله عند الإخبار بوقوع التذكية أو بجريان يد المسلم عليه .
كما يدلّ عليه منطوق رواية إسماعيل بن عيسى القمّي قال : سألت أبا الحسن(عليه السلام)عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل(1) أيُسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال(عليه السلام) : «عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه»(2) . فإنّ ظاهرها جواز الانتفاع بالجلود واستعمالها فيما إذا كان البائع مشركاً مع السؤال عنه .
ثمّ إنّ الظاهر من هذه الرواية عدم الفرق في جواز الانتفاع بدون السؤال بين ما إذا كان البائع مسلماً عارفاً بالإمامة أو غير عارف ، وعليه فالحكم باعتبار يد المسلم ليس لكونه أمارة شرعية على كون الحيوان مذكّى بالتذكية المعتبرة عند العارف ، وذلك لاختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية، كاجتزائهم في الصيد بارسال غير الكلب المعلّم ، وكذلك في بعض الفروع كحكمهم بطهارة جلد الميتة بالدباغ ، وإنّه تذكيته ، وبطهارة ذبائح أهل الكتاب ، وغير ذلك من الموارد ، فلا يكون مجرّد كونه في يده أو مع ترتيبه آثار المذكّى عليه كالصلاة فيه ـ كما هو محتمل الرواية ـ أمارة على وقوع التذكية المعتبرة عندنا عليه .
فالحكم حينئذ باعتبار يد المسلم ليس لأماريته ، بل لأجل أنّ الغالب في تلك الأزمنة هو كون المسلمين غير عارفين ، فيكون بائع الجلود وغيرها أيضاً غير عارف بحسب الغالب ، والحكم بعدم اعتبار يدهم مستلزم للعسر ، فلذا جعل الشارع الأصل في الحيوان التذكية تعبداً فيما إذا لم يكن بائعه مشركاً .
- (1) ذكر في بعض النسخ بالياء ، وعليه يكون المراد به هو بلد الجيلان كما أنّ المراد بالأوّل هو بلد الري وأطرافه ولعلّه الظاهر (منه) .
- (2) الفقيه 1: 167 ح788; التهذيب 2 : 371 ح1544; الوسائل 3 : 492 . أبواب النجاسات ب50 ح7 .
(الصفحة 301)
ثمّ لا يخفى أنّه لا معارضة بين هذه الرواية ورواية الفضلاء الثلاثة عن أبي جعفر(عليه السلام) المتقدّمة الدالة على اعتبار سوق المسلمين ـ وذلك لأنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ المراد بالمسلم الذي تكون يده معتبرة ليس خصوص العارف بالإمامة ، بل يعمّ غيره ، وهذا لا ينافي مدلول تلك الرواية كما هو واضح ، كما أنّ الظاهر أنّه لا معارضة بينهما ـ وبين ما رواه إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح(عليه السلام) أنّه قال : «لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام» قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : «إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس»(1) .
وذلك أي وجه عدم المعارضة أنّك عرفت أنّ مقتضاهما هو اعتبار يد المسلم ولو كان غير عارف ، وهذه تدلّ على أنّه يكفي في جواز الانتفاع بالجلود كونها مصنوعة في أرض الإسلام ، أي الأرض التي تكون تحت رئاسة الإسلام وحكومة المسلمين ، في مقابل أرض الكفر ودار الحرب ، ومن المعلوم انّه يبنى على إسلام من كان مجهول الحال في أرض الإسلام ، فمرجعها أيضاً إلى أنّ الفراء المصنوع فيها يبنى على كون صانعه مسلماً ، ومعه يجب ترتيب آثار التذكية عليه ولو كان بائعه مشركاً ، إذا لم يعلم بكونه صانعه ، فمدلولها أيضاً أنّ الاعتبار بيد المسلم .
هذا بناءً على أن يكون المراد بقوله(عليه السلام) : «إذا كان الغالب عليهاالمسلمين» كون الأرض تحت غلبة المسلمين وحكومتهم ، كما هو الظاهر من تعدية الغلبة بـ «على» ، وأمّا إذا كان المراد منه هو غلبة أفراد المسلمين وأكثريّتهم كما قاله الشهيد الثاني(قدس سره)(2) ، فعدم المعارضة بينهما أوضح من أن يخفى .
وممّا يؤيّد ذلك ، أي جواز الانتفاع بالجلد المشترى من المسلم ولو كان غير عارف ، ما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث عن عليّ بن الحسين(عليهما السلام) إنه
- (1) التهذيب 2 : 368 ح1532; الوسائل 3 : 491 . أبواب النجاسات ب50 ح5 .
- (2) مسالك الأفهام 1 : 285 .
(الصفحة 302)
كان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذاحضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال : إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة، ويزعمون أنّ دباغه ذكاته»(1) ، فإنّ ظاهرها جواز الانتفاع بما يشترى ممّن يستحل لباس جلد الميتة ويعتقد طهارته بالدباغ، وعدم صلاته(عليه السلام)فيه لم يكن لعدم جواز الصلاة فيه ، وإلاّ يلزم أن لا يجوز الإنتفاع به في غير حال الصلاة أيضاً ، بل لكراهتها فيه، ولكن لا يخفى أنّها لا تنهض للحجية لضعف سندها .
ومثلها في الدلالة على كراهة الصلاة في الجلد المشترى من المستحلّ ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «تكره الصلاة في الفراء إلاّ ما صنع في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة»(2) ، والتخصيص بأرض الحجاز إنّما هو في مقابل أرض العراق ، لأنّ أهله كانوا يقولون بتذكية جلد الميتة بالدباغ ، كما عرفت في الرواية المتقدّمة .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الاعتبار بيد المسلم أو بجريان يده عليه ولو كان البائع مشركاً ، ولا فرق بين كونه عارفاً أو غيره ، نعم تكره الصلاة فيما يشترى ممّن يستحلّ لباس جلد الميتة، ويزعم أنّ دباغه ذكاته للروايتين الأخيرتين .
ثمّ إنّك عرفت أنّه يستفاد من رواية الفضلاء الثلاثة ورواية إسماعيل بن عيسى المتقدّمتين ، اعتبار قول البائع عند السؤال عنه ، لأنّ الظاهر أنّ المراد هو السؤال عنه لا عن غيره ، ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه محمّد بن الحسن الأشعري قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام) : ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال(عليه السلام) : «إذا كان مضموناً فلا بأس»(3) ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بكونه
- (1) الكافي 3 : 397 ح2 ; الوسائل 4 : 462 . أبواب لباس المصلّي ب61 ح2 .
- (2) الكافي 3: 398 ح4; الوسائل 4: 462. أبواب لباس المصلّي ب61 ح1 .
- (3) الكافي 3 : 398 ح7; الوسائل 4 : 463 . أبواب لباس المصلّي ب61 ح3 .
(الصفحة 303)
مضموناً هو تعهّد البائع وإخباره بانتزاعه من الحيوان المذكّى ، وعدم البأس معه يرجع إلى جواز الاعتماد على قوله كما لا يخفى .
ويؤيده أيضاً بعض الروايات المتقدّمة كمضمرة أحمد بن محمد بن أبي نصر ، وروايته الاُخرى عن الرضا(عليه السلام)(1) ، وبعض ما يأتي في المسألة الآتية ، هذا مضافاً إلى استقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على قول ذي اليد والأخذ به في الأمور المتعلّقة بما في يده من الاقرار به لغيره وغيره ، والظاهر أنّ الشارع لم يردع عنها بل جرى على طبقها وحكم بجواز الأخذ والاعتماد على قول ذي اليد عند الإخبار بالتذكية، أو بالطهارة والنجاسة أو بغيرها كما لا يخفى .
ثمّ إنّك عرفت فيما تقدّم أنّ مقتضى الأصل الأوّلي في الجلد أو اللحم المشكوك هي الحرمة والنجاسة ، لجريان استصحاب عدم التذكية ، لأنّ الحلية وكذا الطهارة معلقة في الدليل على التذكية ، فإذا أحرز بالاستصحاب عدمها فلا يترتب عليه الآثار المترتبة على وجودها ، بل يترتب عليه التحريم والنجاسة .
لأنّ ظاهر الأدلة والفتاوى عدم اختصاص موضوعهما بعنوان الميتة التي هي عبارة عن خصوص الحيوان الذي مات حتف أنفه ، كما أنّه ربما يساعده العرف ويؤيده قوله تعالى :
{حرّمت عليكم الميتة والدم . . .}(2) حيث جعلها مقابلة للمتردية والنطيحة وغيرهما .
وإن كان قد يترائى من بعض الأخبار المتقدمة ما يدل بظاهره على أنّ الحرمة موقوفة على العلم بكون الحيوان ميتة ، عدم الواسطة بين المذكى والميتة ، كما أنّه ربما يستشعر ذلك من بعض الأخبار الواردة في مسألة صيد المحرم ، حيث أطلق فيه الميتة على الصيد الذي ذكاه المحرم .
- (1) الوسائل 3: 491 ، 492. أبواب النجاسات ب50 ح3 و 6 .
- (2) المائدة : 3 .