(الصفحة 306)
كون اللحم مذكّى ـ كعدم حلّيته وعدم جواز الصلاة فيه ، وعدم طهارته ، وغير ذلك من الأحكام العدمية المنتزعة عن الوجوديات التي تكون التذكية شرطاً في ثبوتها ـ ترتب عليه فيقال: الأصل عدم تعلّق التذكية بهذا اللحم الذي زهق روحه فلا يحلّ أكله، ولا الصلاة فيه، ولا استعماله فيما يشترط بالطهارة .
وأمّا الآثار المترتّبة على كونه غير مذكّى ، كالأحكام الوجودية الملازمة لهذه العدميات ، كحرمة أكله ، ونجاسته ، وتنجيس ملاقيه ، وحرمة الانتفاع به ، أو بيعه ، وغير ذلك من الأحكام المتعلّقة على عنوان الميتة أو غير المذكّى، فلا(1) . انتهى موضع الحاجة من كلامه(قدس سره) .
وحاصله الفرق بين عدم كون اللحم مذكّى وكونه غير مذكّى ، بأنّ ما يترتّب عليه الآثار الوجودية كحرمة الأكل والنجاسة وغيرهما ، هو الثاني دون الأول ، وما يجري فيه الأصل هو الأول دون الثاني ، ولا يثبت بجريانه فيه إلاّ على القول بالأصل المثبت الذي هو خلاف التحقيق .
وفيه ، إنّ المراد بالغير في الثاني إن كان هو الغير المأخوذ غالباً في السلب كقول القائل : زيد غير عالم ، فمن الواضح حينئذ أنّه لا يبقى فرق بينه وبين الأوّل ، وإن كان المراد به هو الغير الذي أخذ جزء للمحمول على نحو القضية المعدولة لا السالبة المحصّلة ، ففيه : مضافاً إلى أنّ الفرق بينهما إنّما هو بالاعتبارات العقلية التي تكون خارجة عن فهم العرف ، إنّ القول بكونه موضوعاً لتلك الآثار الوجودية ممنوع .
بل الظاهر إنّ ما ترتّبت عليه تلك الآثار هو الأول ، وهو عدم كون اللحم مذكّى ، وكذا لو كان المراد بغير المذكّى هو ما يغاير المذكّى ، بأن كان الموضوع لتلك الأحكام اللحم المتّصف بأنّه مغاير للمذكّى ، فإنّه يرد عليه المنع من ذلك، فظهر أنّ مجرى الاستصحاب هو ما كان موضوعاً لتلك الآثار الوجودية .
- (1) تعليقة المحقّق الهمداني على فرائد الاصول : 171 .
(الصفحة 307)
هذا ، وغاية ما يمكن أن يقال في توجيه هذا القول : إنّ في ناحية الموضوع اعتبارين :
أحدهما : اعتبار كون الحيوان قد زهق روحه لا بالتذكية ، وهذا يجري فيه الأصل بعد ثبوت جزئه الآخر بالوجدان .
ثانيهما : اعتبار كونه قد زهق روحه بسبب آخر غير التذكية ، وهذا لا يثبت بالأصل الجاري في الأوّل ، لأنّ كون انقطاع حياته بحدوث سبب غير القتل المخصوص ، أي التذكية من اللوازم غير الشرعية التي لا تترتب على ثبوت المستصحب في الزمان الثاني على ما هو التحقيق .
هذا ، ويرد عليه مضافاً إلى ما عرفت ، عدم الفرق بين الآثار الوجودية المترتبة على غير المذكى ، وبين الآثار العدمية المنتزعة عمّا يترتب على المذكى من الآثار الوجودية ، فإذا أحرز عدم التذكية بالاستصحاب ، فالآثار المعلّقة على عنوان المذكى منتفية ، وانتفائها عين ثبوت تلك الآثار الوجودية كما هو واضح .
ثمّ إنّه يظهر من بعض محققي المتأخرين عدم جريان استصحاب عدم التذكية في بعض الموارد ، بناءً على أن تكون التذكية عبارة عن نفس الأفعال المخصوصة ، وكذا بناءً على القول الآخر في بعض الموارد أيضاً حيث قال ما ملخّصه :
إنّه لو قلنا بكون التذكية هي نفس الأفعال المخصوصة يكون موضوعها هو الحيوان، وحينئذ يشكل جريان الاستصحاب في الجلد أو اللحم المشكوك فيما إذا لم يكن في البين حيوان شكّ في وقوع التذكية عليه ، كما فيما إذا علمنا بكون واحد معيّن من هذين الحيوانين مذكّى والآخر المعيّن ميتة ، ولكن شكّ في أنّ هذا الجلد هل كان منتزعاً من المذكّى أو الميتة؟
لأنّ الحيوان لم يكن مشكوك التذكية، والجلد لم يكن موضوعاً لها ، فلا يجري الاستصحاب ، ولا أصل في البين يعيّن كونه منتزعاً من الميتة ، لعدم وجود الحالة
(الصفحة 308)
السابقة له ، مضافاً إلى وجود المعارض ، وأمّا لو قلنا بأنّها عبارة عن حالة وكيفيّة تتحصل من الأفعال المخصوصة ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب مطلقاً حتّى في المثال المتقدّم .
لأنّه لا إشكال في أنّ هذه الحالة تسري في جميع أجزاء الحيوان ، فكلّ جزء منه يوصف بأنّه مذكّى بواسطة تلك الأفعال من اللحم والجلد وغيرهما .
ثمّ قال ما حاصله : إنّه يمكن أن يقال بعدم جريان الاستصحاب بناءً على القول الثاني أيضاً في بعض الموارد ، كما في المثال المتقدّم ، لأنّه بعد فرض كون الجلد ممّا يحتمل أن يكون مأخوذاً من المذكّى المعلوم تفصيلا ، يحتمل أن لا يكون رفع اليد عن عدم التذكية في السابق من أفراد نقض اليقين بالشكّ ، بل من أفراد نقض اليقين باليقين، لأنّ الجلد لوكان مأخوذاً من المذكّى انتقض الحالة السابقة باليقين بالتذكية.
وبالجملة : لا يمكن التمسّك في الفرض المذكور بعموم لا تنقض ، لأنّ المفروض الشك في تحقق موضوعه وعدم جواز التمسك فيه بالعام ، قد كان متفقاً عليه بينهم(1) . انتهى .
وتحقيق النظر فيه موقوف على بيان صور المسألة :
فاعلم أنّه قد يكون الحيوان مشكوك التذكية مع عدم كونه من أطراف العلم الإجمالي بثبوت التذكية ، وفي هذه الصورة لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه بناءً على ما عرفت ، ويترتّب عليه عدم جواز الانتفاع بشيء من أجزائه من اللحم والجلد وغيرهما .
وقد يكون الحيوان من أطراف العلم الاجمالي بالتذكية مع عدم العلم تفصيلا بعنوان المذكّى ، ولا بعنوان الميتة ، كما فيما إذا علم إجمالا بأنّ واحداً من هذين الحيوانين مذكّى والآخر ميتة ، وهو أيضاً لا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، ولا
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري (رحمه الله) : 49 ـ 50 .
(الصفحة 309)
يضرّ وجود العلم الاجمالي بكون واحد منهما مذكّى ، لأنّ عدم جريان الأصل في أطرافه إنّما هو فيما إذا كان العلم الاجمالي مثبتاً للتكليف ، وكان جريانه مستلزماً لرفع اليد عن التكليف المنجز .
وبالجملة : هذا فيما إذا لزم من جريانه تحقّق المخالفة العملية للمعلوم بالاجمال . وأمّا فيما نحن فيه وأمثاله ، ممّا إذا كان العلم الاجمالي نافياً للتكليف ، كما فيما إذا علم إجمالا بطهارة واحد من الإنائين المسبوقين بالنجاسة ، فالظاهر عدم المانع من جريان الأصل .
نعم من تمسّك لعدم الجواز بلزوم التنافي في مدلول لا تنقض وما يساوقه من أدلّة الاُصول ، فالظاهر عنده عدم الجواز مطلقاً ، ولكنّ الظاهر عدم تمامية الدليل كما قرّرنا في محلّه .
وقد يكون كذلك ، لكن مع العلم تفصيلا بعنوان المذكّى والميتة ، كما فيما إذا علم بأنّ الغنم الذي يكون متعلقاً بزيد مذكّى والآخر الذي يتعلق بعمرو ميتة ، ثمّ شكّ في أنّ هذا الغنم هل الذي وقعت التذكية عليه أو غيره؟ للشكّ في أنّه لزيد أو لعمرو ، والظاهر أيضاً أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في هذه الصورة ، طبقاً لما تقدّم في الصورة السابقة .
ولا يخفى عليك أنّ جريان الأصل في الصورتين الأخيرتين مع وجود العلم الاجمالي بكون أحدهما ميتة وهو يوجب عدم جواز الانتفاع بهما ، إنّما يثمر فيما إذا لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً في إثبات التنجز بالنسبة إلى أطرافه كما إذا خرج بعض أطرافه عن مورد ابتلاء المكلّف ، لأنّ مقتضى الأصل عدم جواز الانتفاع ولو في مثل هذا الفرض كما هو غير خفيّ .
وقد يكون كالصورة السابقة ، لكن مع تخلّل العلم التفصيلي بالغنم المتعلّق بزيد أو بعمرو ، ثمّ عروض الشك فيه ، قد يقال في هذه الصورة كما قيل: بعدم
(الصفحة 310)
جريان الاستصحاب فيه ، إمّا لأنّه لا يعلم كون النقض فيها نقضاً لليقين بالشكّ ، لاحتمال كون الحيوان هو ما يتعلّق بزيد ، وعليه فانتقض اليقين بعدم التذكية باليقين بوجودها ، فكون المورد من مصاديق النقض بالشكّ الذي هو مورد الاستصحاب غير معلوم . وإمّا لأنّه يعتبر في جريانه اتّصال زمان اليقين بالشكّ المفروض انتفائه .
ولكن الظاهر عدم المانع من جريانه فيها أيضاً ، لأنّه لا يعتبر في الاستصحاب إلاّ اليقين بالحدوث والشك في البقاء وهما ثابتان في المقام ، واعتبار اتصال زمان اليقين بالشكّ إن اُريد به اعتبار اتصال زمان نفس الوصفين ، فلا دليل عليه ، بل هو على خلافه ، لجريان الاستصحاب فيما إذا علم بنجاسة مايع ثمّ علم بطهارته ثمّ شكّ في بقاء النجاسة لأجل الشك في يقينه الثاني .
وإن اُريد به اعتبار اتصال زمان المتيقّن والمشكوك ، فهو عين اعتبار الشك في البقاء المتحقّق في المقام .
وبالجملة: لا مانع من جريان الأصل من هذه الحيثية أصلا .
وأنت إذا أمعنت النظر فيما ذكرنا من الحكم في تلك الصور ، تظهر لك ما في الكلام السابق من النظر الوارد على ما أفاده المحقق المتقدم بناءً على القول الثاني .
هذا ، ويرد على ما ذكره بناءً على القول الأول ـ وهو كون التذكية عبارة عن نفس الأفعال المخصوصة ـ انّ التذكية بناءً عليه هي تلك الأفعال بما أنّها مؤثِّرة في قتل الحيوان ، وموجبة لانقطاع حياته ، ضرورة أنّ ايقاع تلك الأفعال على الميتة لا يوجب اتّصافها بكونها مذكّاة .
ومن المعلوم حينئذ أنّ كل جزء من الحيوان يوصف بأنّه أثّر فيه تلك الأفعال بإيجابها ، سلب الآثار المترتّبة عليه بوصف الحياة عنه ، ولو في الأجزاء التي لا تحلّها الحياة ، فما أفاده من أنّ الجلد خارج عن موضوع التذكية بناءً على هذا القول ممّا لا يصح كما لا يخفى .