(الصفحة 309)
يضرّ وجود العلم الاجمالي بكون واحد منهما مذكّى ، لأنّ عدم جريان الأصل في أطرافه إنّما هو فيما إذا كان العلم الاجمالي مثبتاً للتكليف ، وكان جريانه مستلزماً لرفع اليد عن التكليف المنجز .
وبالجملة : هذا فيما إذا لزم من جريانه تحقّق المخالفة العملية للمعلوم بالاجمال . وأمّا فيما نحن فيه وأمثاله ، ممّا إذا كان العلم الاجمالي نافياً للتكليف ، كما فيما إذا علم إجمالا بطهارة واحد من الإنائين المسبوقين بالنجاسة ، فالظاهر عدم المانع من جريان الأصل .
نعم من تمسّك لعدم الجواز بلزوم التنافي في مدلول لا تنقض وما يساوقه من أدلّة الاُصول ، فالظاهر عنده عدم الجواز مطلقاً ، ولكنّ الظاهر عدم تمامية الدليل كما قرّرنا في محلّه .
وقد يكون كذلك ، لكن مع العلم تفصيلا بعنوان المذكّى والميتة ، كما فيما إذا علم بأنّ الغنم الذي يكون متعلقاً بزيد مذكّى والآخر الذي يتعلق بعمرو ميتة ، ثمّ شكّ في أنّ هذا الغنم هل الذي وقعت التذكية عليه أو غيره؟ للشكّ في أنّه لزيد أو لعمرو ، والظاهر أيضاً أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في هذه الصورة ، طبقاً لما تقدّم في الصورة السابقة .
ولا يخفى عليك أنّ جريان الأصل في الصورتين الأخيرتين مع وجود العلم الاجمالي بكون أحدهما ميتة وهو يوجب عدم جواز الانتفاع بهما ، إنّما يثمر فيما إذا لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً في إثبات التنجز بالنسبة إلى أطرافه كما إذا خرج بعض أطرافه عن مورد ابتلاء المكلّف ، لأنّ مقتضى الأصل عدم جواز الانتفاع ولو في مثل هذا الفرض كما هو غير خفيّ .
وقد يكون كالصورة السابقة ، لكن مع تخلّل العلم التفصيلي بالغنم المتعلّق بزيد أو بعمرو ، ثمّ عروض الشك فيه ، قد يقال في هذه الصورة كما قيل: بعدم
(الصفحة 310)
جريان الاستصحاب فيه ، إمّا لأنّه لا يعلم كون النقض فيها نقضاً لليقين بالشكّ ، لاحتمال كون الحيوان هو ما يتعلّق بزيد ، وعليه فانتقض اليقين بعدم التذكية باليقين بوجودها ، فكون المورد من مصاديق النقض بالشكّ الذي هو مورد الاستصحاب غير معلوم . وإمّا لأنّه يعتبر في جريانه اتّصال زمان اليقين بالشكّ المفروض انتفائه .
ولكن الظاهر عدم المانع من جريانه فيها أيضاً ، لأنّه لا يعتبر في الاستصحاب إلاّ اليقين بالحدوث والشك في البقاء وهما ثابتان في المقام ، واعتبار اتصال زمان اليقين بالشكّ إن اُريد به اعتبار اتصال زمان نفس الوصفين ، فلا دليل عليه ، بل هو على خلافه ، لجريان الاستصحاب فيما إذا علم بنجاسة مايع ثمّ علم بطهارته ثمّ شكّ في بقاء النجاسة لأجل الشك في يقينه الثاني .
وإن اُريد به اعتبار اتصال زمان المتيقّن والمشكوك ، فهو عين اعتبار الشك في البقاء المتحقّق في المقام .
وبالجملة: لا مانع من جريان الأصل من هذه الحيثية أصلا .
وأنت إذا أمعنت النظر فيما ذكرنا من الحكم في تلك الصور ، تظهر لك ما في الكلام السابق من النظر الوارد على ما أفاده المحقق المتقدم بناءً على القول الثاني .
هذا ، ويرد على ما ذكره بناءً على القول الأول ـ وهو كون التذكية عبارة عن نفس الأفعال المخصوصة ـ انّ التذكية بناءً عليه هي تلك الأفعال بما أنّها مؤثِّرة في قتل الحيوان ، وموجبة لانقطاع حياته ، ضرورة أنّ ايقاع تلك الأفعال على الميتة لا يوجب اتّصافها بكونها مذكّاة .
ومن المعلوم حينئذ أنّ كل جزء من الحيوان يوصف بأنّه أثّر فيه تلك الأفعال بإيجابها ، سلب الآثار المترتّبة عليه بوصف الحياة عنه ، ولو في الأجزاء التي لا تحلّها الحياة ، فما أفاده من أنّ الجلد خارج عن موضوع التذكية بناءً على هذا القول ممّا لا يصح كما لا يخفى .
(الصفحة 311)الأمر الثاني : أن لا يكون لباس المصلّي من أجزاء الحيوان غير المأكول اللحم
من الاُمور المعتبرة في لباس المصلّي أن لا يكون من أجزاء الحيوان الذي يحرم أكل لحمه ، واعتباره في لباس المصلّي ممّا تفردّت به الإماميّة(1) ، خلافاً لسائر فرق المسلمين ، حيث لم يتعرّضوا لهذه المسألة في كتبهم مع كونها ممّا يعمّ به البلوى .
ولا يخفى أنّ الأخبار الواردة في هذا المقام من الأئمة(عليهم السلام) أكثرها لا يخلو من ضعف ، أو إرسال ، أو غيرهما كما يظهر لمن راجعها ، نعم واحد منها يكون موثّقاً ، وهو الخبر الآتي ، ولذلك استشكل صاحب المدارك في المسألة(2) ، بناءً على مذهبه
- (1) الخلاف 1 : 63 و511 ; مسألة 11 و256; الإستبصار: 135; الغنية: 66; الوسيلة: 88 ; الكافي في الفقه: 140; المهذّب 1: 75; المعتبر 2: 78 ; المنتهى 1: 226; تذكرة الفقهاء 2: 465 مسألة 118; نهاية الأحكام 1: 373; السرائر 1: 262; مدارك الاحكام 3: 161; روض الجنان: 213; جامع المقاصد 1: 86 .
- (2) بعد المراجعة إلى كلامه ظهر أنّ مختاره هو ما ذهب إليه الشهيدان(رحمهما الله) لا الإشكال في أصل المسألة فلا تغفل . «المقرّر» مدارك الاحكام 3 : 161 .
(الصفحة 312)
في الخبر الواحد من اختصاص الحجية بالصحيح الأعلائي منه ، وهو ما كان كل واحد من رواته مذكّى بتذكية عدلين . ولكن ذلك ـ أي عدم خلوّ الأخبار من ضعف أو إرسال ـ لا يوجب إشكالا في المسألة بعد ذهاب الأصحاب من السلف إلى الخلف إلى اعتبار ذلك فيه ، في قبال سائر المسلمين ، وبعد الاجماعات المنقولة المدعاة في كلام كثير منهم .
هذا، مضافاً إلى عدم انحصار الحجية بما ذكره صاحب المدارك كما قرّر في محلّه.
وبالجملة : لا يمكن رفع اليد عمّا يدلّ عليه الأخبار بعد كونها مؤيّدة بالشهرة العظيمة المحققة والاجماعات المنقولة الكثيرة ، فالإشكال في أصل المسألة ممّا لا ينبغي أن يصدر من الفقيه .
نعم يقع الكلام في أنّ ذلك هل يكون معتبراً في خصوص لباس المصلّي وهو ما يلبسه المصلّي ممّا هو محيط به كالقميص وغيره ، أو يشمل مثل التكّة والجورب والقلنسوة ونحوها ممّا يصدق عليه اللباس ولا يكون محيطاً بالشخص اللاّبس له ، أو يعمّ ما ذكر وما إذا لم يكن لباساً ولكن كان لباسه ملاصقاً وملابساً معه ، كما إذا لاقى ثوبه بول غير مأكول اللحم ، أو كانت خيوط ثوبه التي خيط بها من شعره وغيرهما من الصور ، أو يقال بشمول دليل الاعتبار لمثل ما إذا كان محمولا للمصلّي أيضاً؟ وجوه:
ذهب الشهيدان(قدس سرهما) إلى اختصاص المنع بما إذا كان لباس المصلّي من أجزائه(1) ، بل نقل عنهما أنّ عدم شمول دليل المنع لما إذا صلّى في الثوب الذي ألقى عليه شعراته ، وجواز الصلاة فيه من المقطوع به(2) ، ولكن حكي عن ظاهر المشهور القول بالمنع
- (1) الذكرى 3 : 32; روض الجنان : 214 ; مسالك الأفهام 1: 162 .
- (2) مدارك الاحكام 3 : 166 .
(الصفحة 313)
مطلقاً(1) ، ويدلّ عليه ما رواه في الكافي موثقاً عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير ، قال : سأل زرارة أبا عبدالله(عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر؟ فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكل شيء منه فاسدة، لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله، ثمّ قال : يازرارة هذا عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة إذا علمت أنّه ذكّى قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسدة، ذكّاه الذبح أم لم يذكّه»(2) .
وقد استشكل على الاستدلال بالرواية للقول المشهور بأنّ ظاهر كلمة «في» ، في قوله : «فالصلاة في وبره . . .» ، هي الظرفية ، ومقتضاها كون أجزاء غير مأكول اللحم ، بحيث يكون ظرفاً للمصلّي ومحيطاً به ، وهو لا يصدق فيما إذا ألقي على ثوبه وبره أو شعره ، وكذا فيما إذا كان مستصحباً لهذه الاُمور من دون لبس هذا ، ونقل عن البهبهاني(قدس سره) أنّه أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله :
إنّ كلمة «في» ليست للظرفية ، لامتناع اعتبار كون البول والروث ظرفاً للمصلّي فلابدّ من أن يراد منها المصاحبة ، ومعه يتمّ الاستدلال ، ثمّ أورد على نفسه بأنّ اعتبار الظرفية في الروث والبول إنّما هو بملاحظة تلطّخ الثوب أو البدن بواحد منهما ، فكأنّه قيل: الصلاة في الثوب المتلطّخ بهما فاسدة .
وعليه فلا يشمل ما إذا كان شيء من أجزاء غير المأكول محمولا للمصلّي ولا يدلّ على المنع فيه .
- (1) راجع ص311 .
- (2) الكافي 3 : 397 ح1; التهذيب 2 : 209 ح818 ; الوسائل 4 : 345 . أبواب لباس المصلّي ب2 ح1 .