(الصفحة 326)
كل خمر إذا وجد في الخارج فهو بحيث إذا وجد يحرم شربه ، وهذه القضية كما ترى تكون الحرمة فيها مرتّبة على وجود الخمر ، فالحرمة المجعولة للخمر قبل تحققه ووجوده في الخارج تكون حكماً إنشائياً ، وفعليتها وكونها زاجرةً للمكلّف يتوقف على وجوده في الخارج .
ومن المعلوم أنّ المنجز للتكليف إنّما هو العلم بالتكليف الفعلي لا العلم بالحكم الإنشائي ، وقد عرفت أنّ فعليته متوقفة على وجود موضوعه ، فتنجّز الحرمة يتوقف على العلم بالتكليف الفعلي، وهو يتوقف على وجود موضوعه ، فتنجّزها يتوقف على العلم بوجود الموضوع ، ففي الحقيقة يكون وجود الموضوع من جملة شرائط وجود التكليف .
ومن هنا يظهر بطلان ما يترائى من كلام الشيخ(قدس سره) في الرسالة ، حيث إنّ الظاهر منه أنّ عدم وجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعية إنّما هو لعدم كونها مقدّمة علميّة حتى تجب بوجوب ذيها ، وذلك لما عرفت من أنّ جواز الاقتحام وعدم وجوب الاجتناب فيها إنّما هو لعدم العلم بتحقّق شرط التكليف .
فهو نظير ما إذا شكّ في تحقّق الاستطاعة التي يكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجودها ، وهذا هو الفارق بين هذا القسم والأقسام الثلاثة المتقدّمة ، حيث إنّ الحكم فيها منجّز بنفس العلم به واجتماع شرائط التكليف من القدرة وغيرها كما هو واضح(1) ، انتهى ملخّص كلامه زيد في علوّ مقامه، ويرد عليه:
أولا : المنع من انحلال التكليف التحريمي المتعلق بشرب الخمر مثلا إلى أحكام كثيرة حسب كثرة الموضوع وهو الخمر ، بل الحق كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة وامتثالات متكثّرة .
- (1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني (رحمه الله): 188 ـ 193 .
(الصفحة 327)
توضيح ذلك ، إنّ المشهور ذهبوا إلى أنّ معنى النهي هو طلب الترك ، وتبعهم جماعة من المتأخرين منهم المحقق الخراساني في الكفاية(1) ، وعليه يشترك النهي مع الأمر في أنّ معناه أيضاً هو الطلب ، غاية الأمر أنّ الطلب في الأمر متعلق بوجود الطبيعة ، وفي النهي بتركها وهو خلاف التحقيق ، فإنه يلزم بناءً عليه سقوط النهي بالكلّية عن عهدة من خالفه وعصاه ولو مرّة .
فإنّ عدم الطبيعة ليس كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثِّرة ، لأنّه ليس شيئاً متحقّقاً وأمراً ثابتاً حتّى يكون واحداً أو كثيراً ، غاية الأمر أنّ العقل بعد إضافته إلى الطبيعة التي لا تكون في حدّ ذاتها متكثّرة ـ كما أنّها لا تكون واحدة ـ يعتبرها أمراً واحداً وشيئاً فارداً .
وحينئذ يلزم سقوط النهي بالمخالفة بناءً على ما يقولون من أنّ المعصية مسقطة للتكليف كامتثاله ، فيلزم عدم استحقاق العقوبة إذا ارتكبه ثانياً وثالثاً وهكذا ، وكذا يلزم عدم الفرق بين من ارتكبه قليلا أو كثيراً، وعدم القدرة على الامتثال أصلا ، لو خالفه ولو مرّة ، وبطلان اللوازم بمكان من الوضوح .
والتحقيق أن يقال : إنّ معنى النهي ليس هو الطلب ، بل معناه الزجر عن إيجاد الفعل المنهي عنه ، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به ، فمتعلق النهي هو عين متعلق الأمر ، ولكن معناهما متغايران عكس ما ذكره المشهور .
غاية الأمر أنّ للنهي عصيانات متعدّدة حسب تعدّد وجود الطبيعة المتعلقة للنهي ، لأنّ متعلقه هو الوجود على ما عرفت ، وهو يحصل به مخالفته فتتكثر المخالفة بتكثره ، كما أنّ متعلّق الأمر يحصل به موافقته وامتثاله .
وتوهّم أنّه لا يعقل تحقق المعاصي المتعدّدة بالنسبة إلى تكليف واحد، لأنّ المعصية إذا تحقّقت يسقط بها التكليف .
- (1) كفاية الاُصول 1 : 232 .
(الصفحة 328)
مندفع بمنع ذلك ، إذ لا معنى لكون المعصية مسقطة للتكليف ، وسقوطه في بعض موارد العصيان إنّما هو لكون التكليف فيه مشروطاً وموقّتاً بوقت خاصّ ، ولم يؤت به في وقته ، فسقوطه إنّما هو لمضيّ وقته، وهو يستلزم سلب القدرة على الامتثال المعتبرة في ثبوت التكليف بلا إشكال ، ولا دخل للعصيان فيه أصلا .
وهذا بخلاف الامتثال والموافقة في الأمر ، فإنّه بمجرّد تحققه يوجب سقوط الأمر لحصول الغرض به . فقد ظهر أنّ النهي مع كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة موجبة لاستحقاق عقوبات متكثّرة ، كما أنّ له أيضاً امتثالات متعدّدة .
غاية الأمر أنّ استحقاق المثوبة إنّما هو فيما إذا كان الاجتناب لملاحظة نهي الشارع مع كون اقتضاء قوّة الشهوية أو الغضبية هو الارتكاب ، وانقدح من جميع ما ذكرنا بطلان القول بانحلال النواهي إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد الموضوع .
وثانياً : منع كون التكليف في هذا القسم مشروطاً بوجود الموضوع ، إذ المراد من التكليف المشروط أن يكون البعث أو الزجر ثابتاً على فرض وجود الشرط ، وحينئذ لا يمكن أن يقال إنّ الزجر في النواهي مشروط بوجود موضوعاتها ، إذ القول به ليس إلاّ كالقول بأنّ النهي مشروط بما إذا اقتضى طبعه الارتكاب الذي يكون الترك فيه غاية للنهي .
وبالجملة : لا نرى فرقاً بين الأقسام الأربعة ، فكما أنّ وجود الضحك أو التكلّم ليس شرطاً للحكم بالحرمة أو الوجوب ، فكذلك وجود الموضوع في القسم الرابع ، فإنّه أيضاً لا يكون شرطاً للحكم ، غاية الأمر أنّ مع فقده يمتنع تحقق متعلق التكليف ، فقوام التكليف به إنّما يكون كقوام التكليف بمتعلّقه بل هو عينه .
وثالثاً : لو سلّمنا جميع ذلك لكن لا نسلّم قبح العقاب من المولى في نظر العقل مع كونه محتملا لوجود الموضوع ، لأنّ المفروض أنّ البيان من قبله تامّ لا نقص فيه ، إذ لا يجب عليه تعريف الصغريات وبيانها حتى على القول بالانحلال ، ولم
(الصفحة 329)
يتوهّم أحد وجوبه، وحينئذ فلا نرى بعد المراجعة إلى العقل قبح العقاب عليه مع المصادقة .
وما يقال: من أنّ الاحتمال لا يمكن أن يكون منجّزاً .
فمندفع بعد النقض بالشبهة الحكمية قبل الفحص ، وبحكم العقل باستحقاق العقوبة فيما إذا احتمل صدق مدعي النبوّة مع عدم النظر في آياته ومعجزاته وغيرهما ، من الموارد التي يكون الحكم فيها منجّزاً على تقدير ثبوته بمجرّد الاحتمال ، بأنّه لا مانع من أن يكون منجّزاً كالعلم ، غاية الأمر لا يكون كاشفاً وطريقاً كالعلم والظنّ ، ولا يخفى أنّه لا فرق فيما ذكرنا من عدم قبح العقاب في الشبهة الموضوعية بين أن يكون الارتكاب قبل الفحص أو بعده .
ثمّ إنّك عرفت سابقاً أنّه لو قلنا بوجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة كشرب الخمر ، فلازمه الحكم بالبطلان في مثل المقام ممّا يكون الشك فيه في التكاليف الضمنية بطريق أولى ، وأمّا لو قلنا بجريان البراءة في الاُولى فلا يستلزم ذلك جريانها في الثاني، بل يجري فيه الوجهان .
ولذا ترى الخلاف في المسألة مع أنّ جريان البراءة في التكاليف المستقلة كأنّه كان مفروغاً عنه عندهم ، على ما يظهر من الشيخ(رحمه الله) وتلامذته ، حيث إنّه لم يخدش أحد منهم في هذا الحكم ، فقد ظهر لك أنّ القول بالصحة في المسألة مستنداً إلى جريان البراءة العقلية متوقف أولا على القول به في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة .
وقد عرفت أنّ الحقّ عدم الجريان فيها فضلا عن المقام ، وعلى تقديره فيتوقف القول بالصحة أيضاً على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، فينبغي التعرّض لذلك المبحث على سبيل الاجمال ليظهر لك الصحيح عن سقيم المقال فنقول وعلى الله الاتكال :
(الصفحة 330)
إنّه ذهب جماعة من محققي الاُصوليين إلى وجوب الاحتياط فيما إذا دار الأمر بينهما(1) ، واستدلوا عليه بقاعدة الاشتغال ، فإنّ قضية العلم باشتغال الذمة بوجوب الأقلّ هو وجوب العلم بسقوطه المتوقف على إتيان الأكثر ، لتوقف العلم بحصول الغرض عليه ، ومن المعلوم بقاء الأمر ما دام لم يحصل الغرض .
توضيحه ، إنّ الأوامر والنواهي تابعة للمصالح الموجودة في المأمور بها والمفاسد المتحققة في المنهيّ عنها على ما ذهب إليه العدلية ، فداعي الأمر بشيء هي المصلحة الملزمة الموجودة في ذلك الشيء ، كما أنّ الباعث على النهي عنه هي المفسدة الملزمة المتحققة فيه .
وعليه فالأمر والنهي تابعان حدوثاً لثبوت المفسدة والمصلحة ، ويبقيان ما دام بقائهما ، إذ كل ما هو علّة للحدوث فهو علّة للبقاء ، ففي المقام إذا علم بكون الأقل متعلّقاً للتكليف للعلم بتوجّه الأمر الواحد المنبسط على الأجزاء إلى المكلّف على أيّ تقدير ، سواء كان الجزء المشكوك أيضاً متعلّقاً لبعض ذلك الأمر أم لم يكن ، فقد علم بوجوب تحصيل الغرض عليه .
ومن المعلوم أنّه لا يحصل العلم بحصوله مع الإتيان بالأقلّ فقط ، لاحتمال كون التكليف متعلّقاً بالأكثر ، وعليه فلا يحصل الغرض بإتيان الأقل أصلا ، لأنّ المفروض كونهما ارتباطيين ، فيجب إتيان الأكثر ليحصل العلم بحصول الغرض .
وفيه: إنّ توقّف العلم بسقوط الأمر على العلم بحصول الغرض المتوقف على إتيان الأكثر مسلّم ، ولكن ليس محلّ الكلام ومورد النقض والابرام هو العلم بسقوط الأمر وحصول الغرض ، بل الكلام إنّما هو في أنّه هل توجه الأمر الواحد إلى المكلّف على نحو منبسط على الجزء المشكوك أيضاً أو يختصّ بسائر الأجزاء
- (1) فرائد الاُصول : 272; كفاية الاصول 2 : 227 ـ 228 .