(الصفحة 333)
التقدير كما عرفت .
ولا يخفى أنّه لا منافاة بين كون الأمر واحداً حقيقةً وكونه ذا أبعاض كثيرة، إذ هو نظير بعض الاُمور الخارجية الذي يكون واحداً حقيقة مع كونه ذا أبعاض كثيرة كالماء الواقع في الحوض مثلا ، فإنّه مع كونه واحداً لمساوقة الاتصال مع الوحدة على ما قرّر في محله يعد له أبعاض ، بل قد يكون بعضه معروضاً لعرض كالحمرة ، والبعض الآخر معروضاً لضدّ ذلك العرض كالصفرة مثلا ، فلا منافاة بينهما أصلا .
هذا كلّه فيما إذا كان منشأ الشك في وجوب الأكثر عدم النصّ ، أو اجماله ، أو تعارض النصين ، وأمّا إذا كان منشأه اشتباه الاُمور الخارجية كما في مثل المقام ، فالحكم كما مرّ في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة .
هذا ، ولا يخفى أنّه لو قلنا بجريان البراءة في الشبهة الموضوعية مطلقاً في التكاليف المستقلة والضمنية كلتيهما ، فلا يستلزم ذلك أيضاً القول بالصحة في مثل المسألة مما يرجع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، كما توهّمه بعض من تلامذة المحقّق الشيرازي(قدس سره) حيث اعترض على الشيخ(قدس سره) بأنّه لا وجه للحكم بالبطلان في المقام كما في الرسالة التي صنّفها في هذا الباب ، بعد القول بجريان البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة ـ كما تقدّم نقل كلامه ـ وبجريانها فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين كما تقدّم نقل مرامه(1) .
وذلك ـ أي وجه عدم الاستلزام وبطلان التوهم وعدم ورود الاعتراض عليه ـ أنّ ظاهر الأدلة المانعة عن الصلاة في أجزاء الحيوان الذي لا يحلّ أكل لحمه ولا شرب لبنه أنّ المعتبر في انطباق عنوان الصلاة على الأفعال والأقوال المأتيّ بها بترقّب أنّها صلاة أن لا تكون الصلاة واقعة في شيء من أجزاء كل فرد من أفراد ما
- (1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني (رحمه الله) : 188 ـ 193 .
(الصفحة 334)
لا يؤكل لحمه .
وبعبارة اُخرى ، المعتبر هو عدم تحقّق هذه الطبيعة المتوقف على عدم وجود شيء من أفراده وينتزع منه مانعية كل فرد لا بنحو يكون كل فرد مانعاً مستقلاً ، حتى يلازم ذلك كون القيد هو عدمه بنحو الاستقلال ، فكانت هنا قيود متعددة حسب تعدد الوجودات المانعة ، بل بمعنى أنّه حيث كان القيد هو عدم تحقق الطبيعة ، فوجودها مانع عنه .
ومن المعلوم أنّ تحقّق الطبيعة إنّما يكون بوجود كل فرد منها ، فمانعية وبر الأرانب إنّما هي لتحقق الطبيعة به ، وكذا مانعية وبر الثعالب وغيره ممّا لا يؤكل لحمه ، وهذا بخلاف عدم الطبيعة ، إذ هو ليس شيئاً حتى يكون له مصاديق وأفراد ، بل هو أمر واحد باعتبار من العقل بعد إضافته إلى طبيعة خاصّة ، فظهر أنّ المعتبر في الصلاة شيء واحد وأمر فارد ، وهو عدم وقوعها في أجزاء ما لا يؤكل لحمه .
غاية الأمر أنّه تنتزع منه مانعية وجود أفراد تلك الطبيعة بنحو عرفت ، وحينئذ فإن قلنا بما يظهر من المحقّق الخراساني في الكفاية(1) وفي مجلس بحثه ، من أنّ الشرائط الشرعية راجعة إلى الشرائط العقلية ، بمعنى أنّ توقّف المشروط على حصولها وعدم تحققه بدونها ، كان أمراً واقعياً كشف عنه الشارع، فالواجب حينئذ الرجوع إلى الاحتياط بلا إشكال .
لأنّ الشرط والقيد أمر واحد على ما عرفت ، ولا يعلم بتحققه مع وقوع الصلاة في اللباس المشكوك ، فلا يعلم بحصول المشروط ، والمفروض وجوب العلم بتحققه كما هو مقتضى قاعدة الاشتغال .
وأمّا لو قلنا بما يظهر من بعض الأعلام(2) من أنّ الشرطية والتقييد إنّما تنتزع
- (1) كفاية الاُصول 1 : 143; مقدّمة الواجب .
- (2) كتاب الصلاة (تقريرات بحث المحقّق النائيني) 1 : 158; فوائد الاصول 4 : 392 ـ 393 .
(الصفحة 335)
من تقييد المأمور به بوجود الشرائط المانعية من تقييده بعدم الموانع، والتقيّد بوجود الشرائط وبعدم الموانع يكون من أجزاء المأمور به كسائر الأجزاء ، فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّه بناءً عليه أيضاً يكون القيد مبيناً مفهوماً يجب العلم بتحققه، ويتوقف ذلك على العلم بوجود الشرائط وفقدان الموانع .
وبالجملة: لا فرق بعد كون القيد أمراً واحداً مبيّناً في وجوب العلم بتحققه بين المذهبين كما عرفت .
وممّا ذكرنا من وحدة القيد ينقدح فساد ما يظهر من كلام بعض الأعلام(1) ، حيث إنّه(قدس سره) بعد ذهابه إلى جريان البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة بنحو عرفت منه ، صار بصدد بيان عدم الفرق بينها وبين المقام ، حيث إنّه بعد بيان أنّ قيدية العدم فيما نحن فيه تتصوّر على وجوه ثلاثة :
أحدها : أن يكون القيد نعتاً عدميّاً مساوقاً لمحمول المعدولة .
ثانيها : أن يكون من باب السلب المحصّل ، وعلى هذا التقدير يمكن أن يكون نفس السلب الكلّي قيداً واحداً ، ويمكن أن يكون منحلاًّ إلى عدم وجود كل فرد ، وكان القيد آحاد ذلك العدم .
قال بعد القول بظهور الأدلة في الوجه الثالث ما ملخّصه : إنّه أيّ فرق يعقل بين موضوعية الخمر لحرمة شربه ، وموضوعية المانع لتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه ، فكما تجري البراءة في الأوّل على ما عرفت، لا ينبغي الإشكال في جريانها في الثاني.
وجه الفساد ما عرفت من أنّ ظاهر الأدلة المانعة أنّ الصلاة في كل جزء من أجزاء كل ما لا يؤكل لحمه فاسدة ، وينتزع منه أنّ المطلوب للشارع هو عدم
- (1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني : 268 ـ 271 .
(الصفحة 336)
وقوع الصلاة فيها ، ومن المعلوم أنّ العدم أمر واحد عند اعتبار العقل ليس له أفراد ، بخلاف وجود الطبيعة ، إذ هي توجد بوجود فرد مّا، ولا تنعدم إلاّ بعدم جميع الأفراد ، فمعنى كون وجود الطبيعة مانعاً هو مانعية كل فرد يوجد منها في الخارج ، وهو لا ينافي مع كون القيد أمراً واحداً .
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرنا من وحدة القيد لا يستلزم القول بعدم مانعية شيء من الوجودات ، إذا اضطر المصلّي إلى واحد منها ، لأنك عرفت أن كل وجود مانع من صحة الصلاة، فإذا اضطر إلى أحد الوجودات كان اضطر إلى الصلاة في اللباس المتّخذ من وبر الأرانب مثلا ، فلا يجوز له أن يلبس زائداً على ما اضطر إليه ، ولا ينافي ذلك وحدة القيد كما عرفت .
ثمّ لا يخفى أنّ عبارته(قدس سره) في مقام بيان الوجه الثاني من الوجوه المتصوّرة ثبوتاً في قيدية العدم في المقام ، لا يخلو عن اضطراب بحيث ربّما يوهم الخلاف، حيث قال : ويمكن أن يكون نفس السلب الكلّي بوحدته الشاملة لمجموع وجودات الموضوع قيداً واحداً . . .(1) ، حيث إنّ ظاهره أنّ المانع هو مجموع وجودات الموضوع لا كل فرد منها ، فيستلزم عدم تحقّق المانع في زمان أصلا، وكذا صحة الصلاة فيما إذا صلّى في بعض أفراده كما لا يخفى .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لو سلّم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة وفي التكاليف الضمنية ، فلا نسلّم جريانها في مثل المقام ممّا لا يكون الشك في قيدية أمر زائد ، بل في حصول القيد الذي كان مفهومه مبيناً على ما عرفت تحقيقه ، والمرجع فيه وجوب الاحتياط من غير خلاف . هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالتمسّك بالبراءة العقلية لصحة الصلاة في الألبسة المشكوكة وقد عرفت عدم تماميتها .
- (1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني : 269 .
(الصفحة 337)
الاستدلال بالأخبار الدالة على الأصول الشرعية
منها : حديث الرفع(1) وتقريب الاستدلال به من وجوه :
أحدها : ما احتمله الشيخ في الرسالة(2) من أنّ قرينة السياق تقتضي أن يكون الموصول في قوله(صلى الله عليه وآله) : «رفع ما لا يعلمون» إشارة إلى الموضوعات الخارجية المجهولة بعناوينها التي تكون بها موضوعات للأحكام ومتعلّقات لها .
وحينئذ فيختصّ الحديث بالشبهات الموضوعية ، ولا يعمّ الشبهات الحكمية ، فكلّ موضوع كان عنوان المتعلّق للحكم مجهولا ، فهو مرفوع وإسناد الرفع إليه مع ظهور قوله : «رفع عن اُمّتي» ، في الرفع التشريعي وعدم معقولية إسناده إلى الموضوعات الخارجية ، إنّما هو باعتبار الأثر المترتب عليه المرفوع في صورة الجهل .
وفي المقام نقول : مانعية هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء غير المأكول ، مرفوعة بلسان رفع موضوعها وهو اللباس ، فتصحّ الصلاة فيه لعدم كونه مانعاً ومبطلا لها .
ثانيها : تعميم الموصول للشبهات الحكمية كما اخترناه وحقّقناه في الاُصول ، لأنّ الموصولات موضوعة للإشارة إلى جميع ما تثبت له الصلة ، كأسماء الإشارة والضمائر ، فكلّ شيء كان مجهولا بنفسه ، أو بعنوانه الموضوع للحكم فهو مرفوع برفع نفسه أو رفع آثاره وأحكامه ، فباعتبار شمول الموصول للشبهات الموضوعية يصح الاستدلال بالحديث ، لرفع المانعية في المسألة بالتقريب المتقدّم في
- (1) الخصال : 417 ب9 .
- (2) فرائد الاصول : 195 .