(الصفحة 346)
وكما في قوله(صلى الله عليه وآله) : «المسلم محرّم على المسلم»(1) وكما في قوله تعالى :
{أحلّ الله البيع وحرّم الربا . . .(2)} ، فإنّ المراد في جميع هذه الموارد هو نحو من الممنوعية والمحدودية الثابتة له ببعض الجهات كصحته وإمضائه في الأخير أو غير ذلك من الأقوال والأفعال كما في غيره من الأمثلة .
وفي مقابله الحلال ، والحلّ ، والمحلّ ، وأشباهها ممّا قد أخذت فيه مادّة هذه الصيغ ، فإنّ معناها هو عدم المحدودية والاطلاق الثابت له كما لا يخفى .
ويؤيّد ما ذكرنا الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة الدالة على حرمة الصلاة في الحرير أو فيما لا يؤكل لحمه(3) أو في غيرهما من الموانع، كما سيأتي ذكر بعضها .
وحينئذ فلا يبعد التمسّك بقوله(عليه السلام) : «كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال . . .»(4) ، إذ اللباس أيضاً شيء فيه حلال باعتبار عدم محدوديته واطلاقه بالنسبة إلى الصلاة فيه ، وحرام باعتبار خلافه ، فهو أي المشكوك منه يكون كالمائع المردّد بين الخمر والخلّ، كما عرفت في كلام المحقّق القمّي(رحمه الله) ، فلا يبعد القول بالصحة لهذا الوجه .
هذا ، ولكن يمكن أن يورد عليه بأنّ اطلاق الحرام والحلال على الثوب باعتبار صحة الصلاة فيه وبطلانها خلاف المتعارف ، إذ إطلاقهما على اللباس ينصرف إلى جواز لبسه وعدمه ، ولا يفهم منه جواز الصلاة فيه وعدمه ، وليس ذلك كإطلاق الحرام على الخمر باعتبار حرمة شربه وإطلاق الحلال على لحم الشاة باعتبار جواز أكله .
- (1) سنن النسائي 5 : 84 ب73 وفيه: «كلّ مسلم على مسلم محرّم . . .» .
- (2) البقرة : 275 .
- (3) الوسائل 4 : 345 . أبواب لباس المصلّي ب2 وص367 ب11 .
- (4) الوسائل 17: 87 . أبواب ما يكتسب به ب4 ح1 .
(الصفحة 347)
وحينئذ فلا يجوز التمسّك بأصالة الحلية للمقام ، ويمكن دفع هذا الإيراد ، بأنّه وإن كان إطلاقهما على الثوب باعتبار وقوع الصلاة فيه خلاف المتعارف ، ولكن نمنع اختصاص الحكم في تلك الأخبار بنفس موردها ، بل المفهوم منها عند العرف أنّ المقصود إثبات الحلية الظاهرية فيما اشتبه ولم يعلم حرمته سواء كان إطلاق الحرام والحلال على ذلك الشيء متعارفاً أم لم يكن كذلك كما لا يخفى .
بقي الكلام فيما يظهر من بعض الأعلام في وجه التمسك بأصالة الحلية حيث قال ما ملخّصه : إنّ الشرطية إنّما تنتزع من تقيّد المأمور به بوجود الشرط ، كما أنّ المانعية تنتزع من تقيده بعدم المانع ، والتقيد بوجود الأول وبعدم الثاني إنّما هو من أجزاء المأمور به .
فالصلاة مثلا مركبة من الأفعال والأقوال المخصوصة ومن التقيد بوجودها حين وجدان الشرائط وفقدان الموانع ، وحينئذ فبملاحظة ما قرّر في محلّه من أنّ الأمر المتعلّق بالمركّبات الاعتبارية ـ كالصلاة مثلا ـ مع كونه واحداً حقيقة ، له أبعاض كثيرة يتعلّق كل بعض منه بجزء من متعلّقه ، يلزم تعلّق بعضه أيضاً بالتقيد الذي هو جزء للمأمور به .
غاية الأمر إنّه جزء اعتباريّ ، فكما أنّ الركوع مثلا تعلّق به بعض الأمر المتعلق بالمجموع ، فكذلك التقيد بوجود الشرائط وبعدم الموانع يكون متعلقاً لذلك الأمر ومعروضاً لبعضه ، وحيث إنّه لا وجود للتقيد إلاّ بوجود القيد بل هو عينه ، فيكون نفس الشرط وعدم المانع معروضاً لذلك البعض .
فظهر أنّ عدم المانع الذي هو محلّ البحث والكلام في هذا المقام ، يكون كسائر الأجزاء متعلّقاً لبعض الأمر المتعلّق بالصلاة ، وحيث أنّ النهي ليس إلاّ طلب الترك فيكون وجود المانع منهيّاً عنه ، لأنّ المفروض كون عدمه متعلّقاً للطلب .
(الصفحة 348)
غاية الأمر إنّ النهي المتعلّق بوجود المانع نهي ضمني لا استقلالي ، وحينئذ فاللباس له فردان، فرد حلال حقيقة وفرد حرام كذلك، فلاإشكال حينئذ في التمسّك بقوله(عليه السلام) : «كل شيء فيه الحلال والحرام . . .» ، ولا حاجة إلى تجشّم دعوى التعميم للحلية والحرمة الوضعية ، كما ذكره المحقّق القمّي(قدس سره) .
ودعوى إنّ الظاهر منه لزوم كون المنع المشكوك حكماً مستقلاً ناشئاً عن المبغوضية الذاتية، فيختصّ اعتبار هذا الأصل بالشبهات التحريمية النفسية . واضحة الفساد ، إذ لا دليل على صرف لفظ الحلال والحرام إلى بعض أفرادهما ، ويشهد لذلك ـ أي لعمومية لفظ الحلال والحرام وعدم اختصاصهما بالحلال والحرام النفسيين ـ الاستعمالات الواردة في موارد كثيرة في لسان الرواة ، وجواب الأئمة(عليهم السلام).
منها : ما رواه الشيخ باسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عبدالجبّار قال : كتبت إلى أبي محمّد(عليه السلام) أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة حرير محض أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب(عليه السلام) : «لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض وإن كان الوبر ذكيّاً حلّت الصلاة فيه إن شاء الله»(1) .
ومنها : ما عن الخصال بإسناده عن جابر الجعفي قال : سمعت أبا جعفر(عليه السلام)يقول : «ليس على النساء أذان ـ إلى أن قال : ـ ويجوز أن تتختّم بالذهب وتصلّي فيه وحرِّم ذلك على الرجال»(2) .
ومنها : ما عن الشيخ بإسناده عن موسى بن أكيل النميري، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال : «وجعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه والصلاة فيه . . .»(3) .
- (1) التهذيب 2: 207 ح810 ; الإستبصار 1: 383 ح1453; الوسائل 4: 377. أبواب لباس المصلّي ب14 ح4.
- (2) الخصال : 588 ح12; الوسائل 4 : 380. أبواب لباس المصلّي ب16 ح6.
- (3) التهذيب 2 : 227 ح894; والوسائل 4 : 414 ، أبواب لباس المصلّي ب30 ح5 .
(الصفحة 349)
وغير ذلك من الروايات الكثيرة التي يستفاد منها عمومية لفظ الحلال والحرام ، وعدم اختصاصهما بالنفسي منهما، كما لا يخفى على من راجعها(1) . إنتهى ملخّص كلامه(قدس سره) .
وأنت خبير بأنّه لا مجال لادعاء ثبوت النهي في المقام ، لما عرفت من أنّ معنى النهي ليس طلب الترك ، بل معناه هو الزجر عن إيجاد الفعل المنهيّ عنه ، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به ، وحينئذ فلا يلزم من تعلّق بعض الأمر إلى التقيد بعدم المانع تحقّق النهي متعلّقاً بوجود المانع بل هو كالشرط .
فكما أنّ تعلق بعض الأمر بوجوده لا يستلزم النهي عن عدمه ، فكذلك تعلّق الأمر بعدم المانع لا يستلزم النهي عن وجوده . هذا ، مضافاً إلى أنّه لو فرض الإتيان بالأجزاء مع كونها واجدة لجميع الشرائط وفاقدة لجميع الموانع سوى أنّه كان ثوبه من أجزاء غير المأكول مثلا ، وكان الوقت مضيقاً يحصل العصيان بسبب إيجاد ذلك المانع .
ولكنّه يكون عصياناً للأمر المتعلّق بالصلاة ، لا للنهي المتوهم المتعلق بوجود المانع ، لأنّه لا يزيد حكمه عمّن ترك الصلاة رأساً، أو أتى بالأجزاء مع فقد الشروط كلاًّ أو بعضاً ، فكما أنّه لا يتحقّق هناك إلاّ عصيان واحد وهو عصيان الأمر بالصلاة ، فكذلك لا يكون هنا إلاّ عصيان ذلك الأمر .
وبالجملة : لا يكون هنا نهي متعلّق بوجود الموانع حتى يكون إيجاد واحد منها عصياناً لذلك النهي كما عرفت ، وأمّا إطلاق لفظ الحرام والحلال على مثل المقام ، فهو وإن كان بحسب أصل اللغة صحيحاً ، إذ لا اختصاص لهما بالحلال والحرام النفسيّين بل يعمّ غيرهما ، ولكن المنصرف إليه والمتبادر منه عند عرف المتشرعة
- (1) كتاب الصلاة (تقريرات بحث المحقّق النائيني) 1: 163 و 237، نهاية الدراية للمحقّق الإصفهاني 2 (الأقلّ والأكثر: الوظيفة عند الشك في الأقلّ والأكثر): 627.
(الصفحة 350)
هو الحلال والحرام النفسيان، كما لا يخفى .
وبالجملة : لا يكون اطلاقهما ظاهراً في التعميم بحيث تطمئنّ به النفس ، وتثق به في مقام الافتاء ، وتجعله دليلا معتمداً في مقابل قاعدة الاحتياط الجارية في المسألة، ونظائرها ممّا يرجع الشك فيه إلى الشك في المحصّل، كما عرفت تحقيقه .
فالإنصاف أنّ المسألة غير صافية عن الاشكال ، فلا يجوز ترك الاحتياط فيها بالتجنّب عن الصلاة في الألبسة المشكوكة ، نعم فيما اُخذت من يد المسلم ، وأخبر بأنّها مأخوذة من الحيوان المأكول ، أو من غير الحيوان ، لا يبعد القول بجواز الاعتماد على إخباره ، وكذا فيما إذا أخبر بخلافه ، فإنّه لا يبعد القول بوجوب الاعتماد على قوله ، وعدم جواز الصلاة فيه ، لبناء العقلاء على الاعتماد على قول ذي اليد فيما يتعلّق بما في يده من الطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة ، والقلّة والكثرة ، وغير ذلك من الأمور المتعلّقة به .
ويؤيّد ذلك ما ورد في الأخبار من بيان حكم الصلاة في وبر الأرانب والثعالب والفنك ونحوها ، فإنّ من المعلوم أنّ أكثر أهل العرف لا يميّزون وبر الأرانب مثلا عن غيره إلاّ بإخبار صاحبه ، فالعمدة في تشخيصه هو قول ذي اليد ، فيجب ترتيب الآثار عليه .
وكذا لا يبعد أيضاً القول بجواز الصلاة في الثوب الذي يحتمل وقوع شعرات غير المأكول أو رطوباته عليه ، لاستقرار السيرة على الصلاة في مثله من دون تفحّص وتتبّع عن وجودها ، نعم لا تجوز الصلاة في الثوب الذي علم بوجود الشعر فيه ، ولكن لا يعلم كونه من المأكول ، بل يحتمل أن يكون من غيره ، لأنّ القدر المتيقّن من تحقّق السيرة، الصورة الاُولى ، فيجب الرجوع في غيرها إلى مقتضى قاعدة الاحتياط والله أعلم .