(الصفحة 392)
يحكمون بالبطلان ، لما عرفت من عدم الملازمة بينهما ، فالأقوى في المقام هو البطلان، وإن كان الحق في تلك المسألة الجواز .
هذا ، ولكنّ البطلان إنّما هو فيما إذا كانت الحرمة منجّزة ، وأمّا في غير ذلك من موارد عدم تنجّزها ، كما إذا كان جاهلا بالموضوع أو الحكم ، أو ناسياً ، أو كان مقتضى الأصل خلافها ، كما إذا كان مأذوناً من المالك في التصرّف في ماله سابقاً وشكّ في بقائه ، ففي جميع تلك الموارد تكون العبادة صحيحة ، لعدم كونها مبغوضة ، وعدم صدورها من المكلّف على وجه العصيان والطغيان حتّى ينافي ذلك مع كونها مقربة ، وهذا هو الفارق بين الموارد التي يكون فساد الصلاة فيها، لأجل اتحادها مع عنوان محرم ، وبين ما يكون فسادها لأجل عدم رعاية بعض الموانع الاُخر ، كما إذا صلّى في غير المأكول جاهلا أو ناسياً ، حيث إنّ مانعية الأوّل منحصرة بما إذا كانت الحرمة المتعلّقة بالعنوان المتّحد مع الصلاة خارجاً منجّزة على المكلّف بخلاف الثاني .
ولا يخفى أنّ ما ذكرنا في وجه بطلان الصلاة في الثوب المغصوب يجري بعينه في الصلاة في المكان المغصوب ، بلا فرق بينهما أصلا كما هو واضح .
ثمّ إنّه حيث جرى في الكلام ذكر مسألة جواز الاجتماع وعدمه ، فلا بأس أن نشير إلى بيان المختار فيها على سبيل الاجمال ، وإن كان خارجاً عن محلّ البحث والمقال ، فنقول وعلى الله الاتكال :
اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي المتعلّقين بعنوانين بينهما عموم من وجه ، يمكن أن يتصادقا في وجود واحد بحسب سوء اختيارالمكلّف ، على قولين نسب إلى المشهور القول بالامتناع وقد عرفت ما في هذه النسبة .
والحقّ هو القول بالجواز ، وأقوى ما استدلّ به للقول بالامتناع ما أفاده المحقّق
(الصفحة 393)
الخراساني في الكفاية .
وملخّصه : إنّه لا ريب في ثبوت التضادّ بين الأحكام الخمسة التكليفية في مرتبة الفعليّة ، لضرورة المنافاة بين البعث نحو شيء والزجر عنه ، وكذا بين البعث على وجه أكيد ، وبينه على وجه غير أكيد ، وكذا بين مرتبتي الزجر عن شيء .
وكذا لا شكّ في أنّ متعلّق التكاليف فعل المكلّف وما هو في الخارج صادر عنه ، وذلك لأنّ البعث والزجر إنّما يتعلّق كلٌّ منهما بالوجود الخارجي ، وما يصدر من المكلّف في الخارج ، وحينئذ فلو جاز اجتماع الأمر والنهي في واحد شخصيّ كما هو محلّ الكلام ، يلزم اجتماع الضدّين وكون شيء واحد معروضاً بتمامه لعرضين متنافيين ، لأنّه بعد فرض كون متعلّق الأحكام هو ما يصدر في الخارج من المكلّف ، يلزم كون الغسل بماء مغصوب أو الصلاة في الدار المغصوبة مثلا متعلّقاً لحكمين ، وقد عرفت ثبوت التضادّ بين الأحكام ، فلا يمكن عروض إثنين منها لمعروض واحد ووجود فارد ، وهل هو إلاّ ككون جسم معروضاً بتمامه للسواد، وفي ذلك الحال معروضاً بتمامه للبياض ، ومن الواضح استحالته(1) .
أقول : ويرد عليه أنّ كون الأحكام من قبيل الأعراض لفعل المكلّف محلّ نظر بل منع ، وذلك لأنّه لو كانت عرضاً يلزم عدم إمكان تحقّقها قبل وجود معروضها ، كما هو الشأن في سائر الأعراض من السواد والبياض وأشباههما ، ومن المعلوم ثبوت التكليف قبل أن يوجد المكلّف متعلّقه ، إذ هو الداعي والباعث على الايجاد فلا يمكن تقدّم المتعلّق عليه .
مضافاً إلى أنّ المكلّف قد لا يوجد متعلّقه أصلا إمّا لعصيان منه كما في التكاليف الوجوبيّة ، أو لغيره كما في التكاليف التحريميّة ، فإنّ متعلّقها أيضاً هو
- (1) كفاية الاُصول 1 : 248 ـ 249 .
(الصفحة 394)
الوجود كما حقّقناه في الاُصول ، وأشرنا إليه في بعض المباحث السابقة ، فلو كانت عارضة للوجودات يلزم عدم إمكان تحقّق العصيان في التكاليف الوجوبيّة ، وعدم إمكان تحقّق الإطاعة في التكاليف التحريميّة أبداً ، وهذا بمكان من البطلان .
وأيضاً من الواضح سقوط التكاليف الوجوبيّة مثلا بمجرّد إتيان متعلقها ، فلو كانت أعراضاً يلزم أن يكون ثبوت معروضها سبباً لانتفائها ، ونحن لا نتصوّر عرضاً كذلك ، وبالجملة فهذا المعنى ممّا لا يمكن الالتزام به بوجه .
والحقّ أن يقال : إنّ الأحكام متنزعة من فعل المولى عارضة له قائمة به على نحو القيام الصدوري ، غاية الأمر إنّ لها تعلّقاً وإضافةً إلى فعل المكلّف الصادر منه في الخارج، لكونها من الاُمور ذات الإضافة ، كما أنّ لها إضافة إلى المكلّف . ومن المعلوم أنّ تحقّق الإضافة لا يتوقف على ثبوت المضاف بها .
فكما أنّا نعلم الاُمور التي ستوجد في الاستقبال ، كذلك نحن مكلّفون فعلا بالأمر الذي نوجده بعد تحقّق التكليف ، وحينئذ نقول إن كان المراد بثبوت التضادّ بين الأحكام كونها متضادة بحيث لا يمكن اجتماعها في آن واحد ولو كانت متعلّقاتها متبائنة ، فبطلانه أظهر من أن يخفى . وإن كان المراد بها كونها متضادّة بحيث لا يمكن اجتماعها في آن واحد مع اتّحاد متعلّقها فهو مسلّم ، ولكن لا من حيث لزوم كون الفعل معروضاً لعرضين ، بل من حيث امتناع قيامها كذلك بنفس المولى .
ولكن لا يخفى أنّ ذلك غير مفيد فيما هو بصدده ، وإن كان المراد ذلك مع إمكان تصادق متعلّقها في وجود واحد فنحن لا نتصوّر فيه الاستحالة بوجه ، بل لو قيّد المولى أمره مثلا بالوجودات غير المتّحدة مع عنوان محرّم ، تلزم اللغويّة بعد وجود المصلحة الموجودة في سائر الأفراد في الفرد المحرم أيضاً ، وعدم الاستحالة يكشف عن عدم المضادّة بينها في هذه الصورة .
فالوجود الواحد بتمامه متعلّق للأمر لحيثيّة الصلاتيّة التي هي تمام المأمور به ،
(الصفحة 395)
وكذلك متعلّق للنهي لحيثيّة كونه تصرّفاً في مال الغير بغير إذنه ، لا أن يكون معروضاً لعرضين ، بل محمولا عليه الوجوب والتحريم على نحو الحمل الاشتقاقي .
وممّا ذكرنا ظهر الفرق بين ما قلناه في مقام الجواب وبين ما يظهر من القائلين بالجواز من مقاربي عصرنا(1) ، حيث إنّ ظاهرهم تسلّم كون الأحكام من قبيل الأعراض وثبوت التضادّ بينها لذلك ، غاية الأمر يتكلّفون في مقام الجواب لإثبات المغايرة والتنافي بين المتعلّقين ، ولا يخفى أنّ اثباته في غاية الاشكال .
ثمّ إنّ ما ذكرنا لا ينافي القول ببطلان العبادة ، فيما إذا اتحدت مع عنوان محرّم كالوضوء بماء الغير ، والصلاة في المكان المغصوب ، أو في الثوب كذلك ، لأنّه وإن كان الأمر متعلّقاً بالوجود الخارجي المنطبق عليه عنوان محرّم ، إلاّ أنّ صحة العبادة مشروطة بكون الفعل صالحاً لأن يتقرّب به مع قصد التقرّب به أيضاً .
ومن الواضح أنّه لا يكاد يكون ما يصدر من المكلّف على وجه العصيان والطغيان صالحاً لذلك أصلا ، مع عدم إمكان قصد التقرب به مع الالتفات إلى الحرمة الموجب لتنجّزها عليه ، ودعوى إنّه مستلزم لعدم كون ذلك الوجود مأموراً به مدفوعة بناءً على ما يظهر من جماعة من عدم كون قصد التقرّب مأخوذاً في متعلّق الأمر ، لا شطراً ولا شرطاً ، بمنع استلزامه لذلك ، إذ لا منافاة بين عدم إمكان قصد التقرّب وكونه مأموراً به ، وأمّا بناءً على ما اخترناه في الاُصول من إمكان أخذه في متعلّق الأمر(2) ، فصحّة تعلّقه به إنّما هي فيما إذا كانت الحرمة غير منجّزة للجهل بالموضوع أو الحكم أو للنسيان ، وأمّا مع تنجّزها فلا يكون مأموراً به ، ويخرج حينئذ عن مورد النزاع فتدبّر جيّداً .
- (1) فوائد الاصول 1 ، 2 : 396 .
- (2) نهاية الاُصول (تقريرات بحث السيّد البروجردي (رحمه الله)
(الصفحة 396)
حكم الصلاة في الشمشك والنعل السندي . . .
قال الشيخ(رحمه الله) في كتاب النهاية: لا يصلّي الرجل في الشمشكّ (بضمّ الشين الأوّل وكسر الميم أو ضمّها وسكون الشين الثاني) ، ولا النعل السندي ، ويستحب الصلاة في النعل العربي، ولا بأس بالصلاة في الخفّين والجرموقين إذا كان لهما ساق(1). انتهى .
ويظهر عدم جواز الصلاة في الأوّلين من المحكيّ عن المفيد في المقنعة(2) ، ويظهر من المحقق في الشرائع عدم اختصاص المنع بهما بل يعمّ كل ما يستر ظهر القدم حيث قال : لا تجوز الصلاة فيما يستر ظهر القدم كالشمشكّ ، ويجوز فيما له ساق كالجورب والخف ، ويستحب في النعل العربي(3) .
أقول : الظاهر عدم ورود نصّ بهذا المعنى واصل إلينا مذكور في الجوامع الأربعة المتأخّرة التي بأيدينا ، كما اعترف به المحقّق في المعتبر(4) ، بل إنّما ذكره بعض الأصحاب في الكتب الموضوعة لايراد الفتاوى المأثورة عن الأئمة(عليهم السلام)بعين الألفاظ الصادرة عنهم ، كالمقنعة ، والنهاية ، وهذا إنّما يكشف عن صدور نصّ منهم مذكور في الجوامع الأوّلية .
غاية الأمر إنّه لم يضبط في الجوامع الثانويّة ، وحينئذ فالدليل لا يدلّ على أزيد من عدم جواز الصلاة في الشمشكّ والنعل السندي ، فالحكم بعدم الجواز في كل ما يستر ظهر القدم مبنيّ على استظهار أنّ مناط النهي عنهما كونهما ساترين لظهر
- (1) النهاية: 98 .
- (2) المقنعة : 153 .
- (3) شرائع الاسلام 1 : 59 .
- (4) المعتبر 2 : 93 .