(الصفحة 418)
الصورتين ، بل بأولويّة عدم وجوب الإعادة في الصورة الثانية ، خصوصاً بعد اشتراكهما في العلّة التي علّل الإمام(عليه السلام) عدم وجوب الإعادة في الصورة الاُولى بها ، وهي جريان الاستصحاب واقتضاء دليله الإجزاء .
وهذا يوجب طرح الرواية مضافاً إلى أنّ من البعيد أن لا يسأل زرارة بعد سؤاله عن علّة الحكم في الصورة الاُولى عن علّة حكم هذه الصورة ، خصوصاً بعد اشتراكهما في التعليل كما عرفت آنفاً .
هذا ، ولا يخفى أنّه لا وجه لطرح الرواية بعد كونها صحيحة ، ومجرّد الاستبعاد لا يوجب ذلك، واقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ودلالته على توسعة المأمور به بالأمر الواقعيّ الأوّلي إنّما هو مقتضى ظاهر دليله ، فلا ينافي ورود دليل خاصّ على خلافه، كما قام في الطهارة الحدثيّة على وجوب الإعادة ، فيما إذا تبيّن كونه فاقداً لها .
وبالجملة: فالظاهر لزوم الأخذ بمقتضى الرواية وجعلها دليلا على التفصيل في المسألة، وإن كان خلاف القاعدة .
هذا ، وقد يتوهّم دلالة صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة على ما ذكرنا أيضاً ، حيث قال الإمام(عليه السلام) فيها : «إن رأيت المنيّ قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك ، وكذلك البول»(1) .
ولا يخفى أنّ ظاهرها التفصيل بين ما إذا كان مسبوقاً بالعلم ، وما إذا لم يكن كذلك ، لا الفرق في الثاني بين الأثناء وبعد الفراغ ، كما هو مفروض المسألة ، لأنّ المراد بقوله(عليه السلام) : «إن رأيت . . .» إنّه إن رأيت المنيّ قبل الشروع في الصلاة أو بعد الدخول فيها ونسيت إزالته وصلّيت ثم ذكرت فعليك الإعادة ، فهذه
- (1) الوسائل 3: 478. أبواب النجاسات ب41 ح2.
(الصفحة 419)
الجملة ـ الجملة الاُولى ـ متعرّضة لحكم ما إذا سبق العلم قبل إتمام الصلاة ، ووقعت باقي أجزائها فيها .
غاية الأمر إنّ ذلك لا يتحقّق من القاصد للامتثال الملتفت إلى شرطيّة الطهارة ، إلاّ مع نسيان الإزالة ، ويؤيّد ذلك عطف قوله «بعدما تدخل» على قوله «قبل» الدالّ على أنّ الفرض هو ما إذا وقعت الصلاة أو بعض أجزائها مسبوقة بالعلم بالنجاسة ، كما يؤيّده أيضاً قوله : «فعليك إعادة الصلاة» كما لا يخفى .
ثمّ إنّه قد يتوهّم أيضاً دلالة رواية اُخرى لمحمّد بن مسلم على التفصيل المتقدّم الذي دلّت عليه صحيحة زرارة المتقدّمة ، وهي ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن محمّد بن مسلم قال : قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة، قال : «إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، وما كان أقلّ من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم تره، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه»(1) .
وعن التهذيب زيادة لفظة «و» قبل قوله «ما لم يزد» واسقاط قوله «وما كان أقل»، وعليه تكون جملة «مالم يزد . . .» ، جملة مستأنفة خبرها قوله : «فليس بشيء» .
وحيث إنّ الشيخ رواها في التهذيب عن كتاب الكافي ، فيدلّ ذلك على أنّ النسخة الموجودة عنده منه مطابقة لما في التهذيب ، فلا مجال للقول بأنّ ما في الكافي
- (1) الكافي 3 : 59 ح3; الفقيه 1 : 161 ح758; التهذيب 1 : 254 ح736; الإستبصار 1: 175 ح609; الوسائل 3 : 431 . أبواب النجاسات ب20 ح6 .
(الصفحة 420)
أضبط ممّا في غيره .
وكيف كان فلابدّ من توضيح معنى الرواية ، وبيان مقدار دلالتها ليظهر حال التوهّم المذكور فنقول :
الظاهر اطلاق السؤال وشموله لما إذا علم بوقوع بعض أجزاء الصلاة في الدم المرئي في الأثناء ، ولما إذا احتمل حدوثه في الأثناء ، كما أنّ الظاهر عدم شموله لما إذا صلّى في الدم عالماً ، إذ لا يتحقّق ذلك من المكلّف القاصد للامتثال الملتفت إلى شرطيّة الطهارة .
وأمّا الجواب فهو متضمّن لأربع جملات :
أحدها : قوله(عليه السلام) : «إن رأيته . . .» ، المراد إنّه لو رأيته في الأثناء وأمكن لك الإزالة وتحصيل الطهارة ، بحيث لا تبقى مكشوف العورة يجب عليك ذلك ولو بإلقاء الثوب وطرحه ، إذ من المعلوم أنّه لا خصوصيّة لطرح الثوب ، كما أنّه لا خصوصيّة لأن يكون على المصلّي ثوب غير ما فيه الدم ، بل المراد إمكان إزالة الدم عمّا تعتبر طهارته في الصلاة ولو كان له ثوب واحد .
وحكم هذه الصورة وجوب الإزالة وإتمام الصلاة وعدم وجوب الإعادة ، وهو وإن كان مطلقاً شاملا لما إذا كان الدم أقلّ من الدرهم ، إلاّ أنّه بقرينة قوله(عليه السلام)فيما بعد : «وما كان أقل . . .» ، يجب تقييده بغير هذه الصورة .
ومن المعلوم أنّه لا دلالة لهذه الجملة على التفصيل الذي دلّت عليه صحيحة زرارة المتقدّمة ، بل مقتضى اطلاقها صحة الصلاة ، ولو فيما علم بوقوع بعض الصلاة في الدم ، فتكون معارضة لها بالاطلاق والتقييد ، فيجب تقييدها بها كما لا يخفى ، ولو حمل مورد السؤال على خصوص ما إذا احتمل حدوث الدم في الأثناء ، فلا تعارض بينهما بوجه أصلا .
ثانيها : قوله(عليه السلام) : «وإن لم يكن عليك ثوب غيره . . .» ، ظاهرها إنّه لو لم تتمكّن
(الصفحة 421)
من الإزالة بحيث تبقى مستور العورة ، فإن لم يكن الدم زائداً على مقدار الدرهم فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ، ومفهومها إنّه لو كان الدم زائداً على المقدار المذكور فلا يجب عليك المضي ، بل يجب عليك الإعادة .
ثمّ لا يخفى إنّه لا يجوز أن يكون قوله(عليه السلام) : «ما لم يزد» قيداً للجملة الاُولى أيضاً ، إذ ينافيه الأمر بالطرح الدالّ على وجوبه ، كما أنّه بناءً عليه يكون التفصيل بين ما إذا كان عليه ثوب غيره وبين ما إذا لم يكن عليه غيره بلا فائدة ، إذ يكون المدار حينئذ على الزيادة على مقدار الدرهم وعدمها ، ففي الصورة الاُولى تجب عليه الإعادة في الصورتين ، وفي الثانية بالعكس ، فوجب أن تكون قيداً للجملة الثانية فقط .
ثالثها : قوله(عليه السلام) : «وما كان أقلّ من ذلك . . .» ، ظاهرها إنّ الدم إذا كان أقلّ من مقدار الدرهم لا يترتّب عليه أثر ، وسواء فيه الرؤية وعدمها ، وهذه الجملة كالتأكيد للجملة الثانية المقيدة بالقيد المذكور وكالتقييد بالنسبة إلى الجملة الاُولى الدالة على وجوب الطرح ، حيث إنّها تقيدها بما إذا كان الدم أكثر من مقدار الدرهم كما تقدّمت الإشارة إليه .
رابعها : قوله(عليه السلام) : «وإذا كنت قد رأيته . . .» ، المراد إنّه لو كان الدم أكثر من مقدار الدرهم وقد رأيته قبل الشروع في الصلاة وضيّعت غسله ، والمراد به إمّا عدم الغسل أصلا أو الغسل مع عدم المبالاة في إزالة الدم ، وصلّيت فيه صلاة كثيرة فتجب عليك الإعادة ، وقد عرفت أنّ الصلاة في هذه الصورة لا تتحقّق من المكلّف المريد للامتثال العالم بشرطيّة الطهارة ، إلاّ مع نسيان نجاسة الثوب .
فهذه الجملة متعرّضة لحكم النسيان ، ولا دلالة لها على حكم صورة الجهل بالنجاسة أصلا كما لا يخفى ، ومن الواضح أنّه لا دلالة لهذه الجمل الثلاثة الأخيرة على التفصيل المتقدّم .
(الصفحة 422)
هذا كلّه بناءً على ما هو الموجود في نسخ الكافي التي بأيدينا(1) وأمّا بناءً على ما رواه الشيخ في التهذيب كما تقدّم ، فالرواية أشبه بكونها صادرة من الإمام(عليه السلام) ، لخلوّها حينئذ عن التكرار ، نعم مدلول الجملة الثانية الواردة فيما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم يصير حينئذ مخالفاً لما عليه المشهور(2) ، من بطلان الصلاة مع عدم التمكّن من إزالة النجاسة ، كما هو مقتضى أدلّة شرطيّة الطهارة .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الأقوى في مسألة الجهل التفصيل بين ما إذا تبيّن وقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ عنها فتصحّ ، وبين ما إذا انكشف وقوع بعضها فيها في الأثناء فتبطل ، كما هو مدلول صحيحة زرارة المتقدّمة .
وقد عرفت أنّ الأقوى أيضاً صحة الصلاة فيما إذا احتمل حدوثها بعدها أو في الأثناء ، غاية الأمر إنّه يجب عليه في الصورة الثانية إزالة النجاسة وإتمام الصلاة مع الطهارة ، فيما إذا كان متمكّناً من تحصيلها ، ومع عدم التمكّن تبطل الصلاة وتجب
- (1) قال سيّدنا الاُستاذ العلاّمة دام ظلّه: إنّه لا تخلو الرواية المذكورة عن الاضطراب ، بناءً على رواية الكافي ، إذ لابدّ من تقييد الجملة الاُولى بما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم ، كما يدلّ عليه قوله فيما بعد : «وما كان أقلّ من ذلك . . .» ، وحينئذ فيصير مناط الفرق بين الجملة الاُولى الدالة على الأمر بالطرح ، وبين الجملة الثانية الدالة على وجوب المضي في الصلاة وعدم وجوب الإعادة ، هو كون الدم زائداً على مقدار الدرهم في الاُولى ، وكونه أقلّ من ذلك في الثانية ، مع
- هذا ، ويمكن أن يقال: إنّ تقييد الجملة الاُولى بالدم المانع وإن كان مسلّماً ، إلاّ أنّه لا يوجب أن يكون مناط الفرق ما ذكره دام ظلّه; إذ فيما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم ولم يكن المصلّي واجداً لثوب آخر ، بمعنى أنّه لا يتمكّن من الإزالة ، يكون مفهوم الجملة الثانية بطلان الصلاة ووجوب الإعادة ، مع أنّه لو كان مناط الفرق بين الجملتين ما ذكره الأستاذ ، يلزم صحة الصلاة في الفرض المذكور، وهو خلاف مدلول الرواية كما لا يخفى «منه» .
- (2) النهاية: 51 ـ 52; شرائع الإسلام 1: 46; المعتبر 1: 443; مدارك الأحكام 2: 353; مستند الشيعة 4: 270; جواهر الكلام 6: 223; الحدائق 5: 426.