(الصفحة 56)
أحدهما في سقوط الأمر المتعلّق بهما ، إذا كان المأتي به منطبقاً عليه كلا العنوانين ، كما إذا صلّى ركعتين بكيفية صلاة الغفيلة؟ وجهان ، وتحقيق الحقّ موقوف على بيان المراد من قصد التعيين وحكمه ، والإشارة إلى الموارد التي يجب فيها ذلك .
فنقول : قد يتوهّم أن قصد التعيين من شؤون قصد امتثال الأمر فيقال : إنّه لو كان هناك عنوانان مشتركان في المصاديق ، بحيث يجوز أن تكون صورة واحدة مصداقاً لهذا العنوان تارة ، ولذلك العنوان أُخرى ، فإن كان المكلّف مأموراً بكلا العنوانين ، يجب عليه في مقام الامتثال تعيين العنوان الذي يريد امتثال أمره ; وإن لم يكن مأموراً إلاّ بأحدهما لم يجب عليه التعيين ، بل يكفي قصد امتثال الأمر المتوجّه إليه . وهذا التوهّم بمكان من البطلان ، لعدم ارتباط مسألة قصد التعيين بمسألة قصد الامتثال .
والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ العناوين الواقعة تحت الأمر على قسمين :
الأوّل : العناوين القصديّة التي تكون انطباقها على العمل الخارجي موقوفاً على قصدها ، بحيث لا يصير العمل الخارجي مصداقاً لها ، ومنطبقاً عليه لشيء منها إلاّ بالقصد ، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون هذا العنوان متعلّقاً للأمر أم لا ; وأمثلة هذا القسم كثيرة :
فمنها : عنوان التعظيم ، فإنّه لا ينطبق على شيء من الأفعال المأتيّ بها في هذا المقام إلاّ مع ضميمة قصد عنوان التعظيم إليها .
ومنها : عنوان الظهرية والعصرية ونحوهما من عناوين الصلوات المفروضة ، فإنّ انطباقها على صورة الصلاة المأتيّ بها خارجاً المشتركة بين العناوين الكثيرة ، يتوقّف على ضمّ قصد شيء من تلك العناوين إليها ; والدليل على ذلك ، الأدلّة الواردة في العدول(1) الدالّة على العدول من العصر إلى الظهر ، إذا ذكر في أثناء
- (1) الوسائل 4 : 290 ، أبواب المواقيت ب63 ح1 ، 3 ، 5 .
(الصفحة 57)
العصر أنه لم يأت بالظهر بعد ; وكذا العدول من العشاء إلى المغرب ، فإنّه لو لم تكن الظهرية والعصرية من العناوين القصدية ، وكان الظهر إسماً لأربع ركعات مأتيّ بها بعد الزوال ، أوّلا ، لم يمكن الدخول في العصر قبل الإتيان بالظهر حتّى يصحّ العدول من العصر إليها كما لا يخفى .
الثاني : العناوين التي لا يتوقّف انطباقها على الصورة الخارجيّة على قصدها ، بل تنطبق عليها بنفس تحقّقها ولو لم يقصد شيئاً منها . إذا عرفت ذلك نقول :
إنّه لو كان العنوان المأخوذ في متعلّق الأمر من العناوين القصدية ، فاللاّزم في مقام الامتثال الإتيان بالمأمور به مع قصد عنوانه ، لعدم تحقّق المأمور به بدونه ; وهذا لا فرق فيه بين اشتراك صورة العمل بين عنوانين أو العناوين المتكثّرة أم لا ، وكذا لا فرق بين تعلّق الأمر بعنوان واحد أم بأكثر ، وإن كان من القسم الثاني ، فلا يجب قصد العنوان في شيء من الصور ; ومن ذلك ظهر أن قصد عنوان المأمور به ليس من شؤون قصد الامتثال ومرتبطاً به ، حتّى يجب مع تعدّد الأمر دون وحدته كما توهّم .
إذا ظهر لك ما ذكرنا نقول : لا شك في أنّ النوافل الراتبة تكون من العناوين القصديّة التي لا تنصرف صورة الصلاة إليها إلاّ بعد قصدها ، كما أنّه لا شك في عدم كون صلاة الغفلة من تلك العناوين ; لما عرفت من أنّ المقصود منها هو عدم اخلاء الوقت من الصلاة ، وصرفها في غيرها من الاُمور الدنيوية ، وحينئذ فالتداخل لا يتوقّف على قصد كلا العنوانين ، بل يكفي قصد الغفيلة والإتيان بها . نعم يبقى الإشكال في مثل صلاة الغفيلة والوصيّة ونحوهما ، وأنّه هل تكون من العناوين القصدية ، فلا يكفي الإتيان بصورتها من دون قصد عنوانها ، أم لا تكون كذلك ، فيكفي الإتيان بمجرّد صورتها وإن قصد بها نافلة المغرب مثلا؟ فيه وجهان .
(الصفحة 58)الأمر الثالث : الجلوس في صلاة الوتيرة
الظاهر تسالم الفقهاء إلى زمن الشهيد الأوّل(قدس سره) على ثبوت الجلوس في نافلة العشاء المسمّاة بالوتيرة ، ولم يفت أحد منهم بجواز القيام فيها ، والمذكور في كتب القدماء ، المعدّة لبيان الفتاوى المأثورة عن الأئمّة(عليهم السلام) بعين ألفاظها الصادرة عنهم ، أن الثابت بعد فريضة العشاء ركعتان من جلوس تعدّان بركعة من قيام(1) ، كما ورد هذا التعبير في الأخبار الكثيرة ،
منها : رواية البزنطي المتقدّمة(2) ،
ومنها : رواية الفضل بن شاذان المتقدّمة(3) أيضاً ،
ومنها : خبراً فضيل بن يسار الدالاّن على أنّ مجموع الفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالساً ، تعدّان بركعة وهو قائم(4) .
ومنها : رواية الأعمش عن جعفر بن محمّد(عليه السلام) في حديث شرائع الدين قال : «وصلاة الفريضة : الظهر أربع ركعات ، والعصر أربع ركعات ـ إلى أن قال : ـ والسنّة أربع وثلاثون ركعة ، منها : أربع ركعات بعد المغرب ، لا تقصير فيها في السفر والحضر ، وركعتان من جلوس بعد العشاء الآخرة تعدّان بركعة»(5) .
ومنها : خبر أبي عبدالله القزويني قال : قلت لأبي جعفر محمّد بن علي
- (1) الهداية : 132 ; المقنعة : 91 ; الوسيلة : 81 ; جمل العلم والعمل (رسائل المرتضى) 3 : 31 ; الغنية : 106 ; المهذّب 1 : 68 ; السرائر 1 : 193 ; النهاية : 119 ; المبسوط 1 : 71 ; الجامع للشرائع : 58 .
- (2) الوسائل 4 : 47 . أبواب اعداد الفرائض ب13 ح7 .
- (3) الوسائل 4 : 54 ; أبواب أعداد الفرائض ب13 ح23 .
- (4) الكافي 1 : 208 ح4 و ج 3 : 443 ح2 ; التهذيب 2 : 4 ح2 ; الاستبصار 1 : 218 ح772 ; الوسائل 4 : 45 ـ 46 . أبواب أعداد الفرائض ب13 ح2 ، 3 .
- (5) الخصال : 603 ح9 ; الوسائل 4 : 57 . أبواب أعداد الفرائض ب13 ح25 .
(الصفحة 59)
الباقر(عليهما السلام) : لأيّ علّة تصلّى الركعتان بعد العشاء الآخرة من قعود؟ فقال : «لأنّ الله فرض سبع عشرة ركعة ، فأضاف إليها رسول الله(صلى الله عليه وآله) مثليها ، فصارت إحدى وخمسين ركعة ، فتعدّان هاتان الركعتان من جلوس بركعة»(1) .
ومنها : رواية هشام المشرقي عن الرضا(عليه السلام) في حديث قال : «إنّ أهل البصرة سألوني فقالوا : إنّ يونس يقول : من السنّة أن يصلّي الإنسان ركعتين وهو جالس بعد العتمة؟ فقلت : صدق يونس»(2) .
إلى غير ذلك من الروايات الظاهرة أو المشعرة بذلك .
وقد عرفت أنّ الفتاوى قبل الشهيد(قدس سره) كانت متطابقة على العمل بهذه الروايات الكثيرة الدالّة على ثبوت الجلوس في الوتيرة ، بحيث لو فرضنا أنّنا كنّا في زمان الشهيد لكنّا نحكم بعدم جواز الفتوى بالقيام ، لأنّه خرق لاجماع الطائفة ، وكيف كان فهنا روايتان ظاهرتان في جواز القيام ، بل وأفضليته من القعود .
الاُولى : رواية الحارث بن المغيرة النصري ، قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول : «صلاة النهار ستّ عشرة ركعة ، ثمان إذا زالت الشمس ، وثمان بعد الظهر ، وأربع ركعات بعد المغرب ، يا حارث! لا تدعهنّ في سفر ولا حضر ، وركعتان بعد العشاء الآخرة ، كان أبي يصلّيهما وهو قاعد ، وأنا أُصلّيهما وأنا قائم ، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله)يقول : ثلاث عشرة ركعة من الليل»(3) .
الثانية : رواية سليمان بن خالد عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «صلاة النافلة ثمان ركعات حين تزول الشمس قبل الظهر ، وستّ ركعات بعد الظهر ، وركعتان قبل العصر ، وأربع ركعات بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء الآخرة ، يقرأ فيهما مائة
- (1) علل الشرائع : 330 ح1 ; الوسائل 4 : 96 . أبواب أعداد الفرائض ب29 ح6 .
- (2) اختيار معرفة الرجال «المعروف برجال الكشي» : 490 ، ح934 .
- (3) الكافي 3 : 446 ح15 ; التهذيب 2 : 4 ، 9 ح5 و16 ; الوسائل 4 : 48 . أبواب أعداد الفرائض ب13 ح9 .
(الصفحة 60)
آية قائماً أو قاعداً ، والقيام أفضل ، ولا تعدّهما من الخمسين . . .» الحديث(1) .
وقد يجمع بين هاتين الروايتين وبين الروايات الكثيرة المتقدّمة بالتخيير ، ولكن لا يخفى أنّ الفتوى بجواز القيام في غاية الإشكال لأن الأخبار الكثيرة تدلّ على الجلوس ، وأنّهما تعدّان بركعة من قيام ; مضافاً إلى ذلك ، فقد ذكرها القدماء في كتبهم المعدّة لنقل الفتاوى المتلقّاة عن الأئمّة(عليهم السلام)(2) ، ودلالة الأخبار المتقدّمة الواردة في بيان مجموع الفرائض والنوافل ، وأنّه إحدى وخمسون ركعة ، معلّلا بأنّ ركعتين بعد العشاء تعدّان بركعة من قيام ، ومن الواضح أنّ عدّهما كذلك إنّما يتمّ مع ثبوت خصوص الجلوس فيهما ، لأنّه لا معنى لعدّ الركعتين من قيام بركعة منه .
وأمّا الروايتان الواردتان في القيام فهما كانتا متروكتين ، ولم يعمل بهما أحد من الأصحاب ، قبل الشهيد الأوّل ; نعم هو أفتى بذلك في الدورس واللمعة ، وتبعه الشهيد والمحقّق الثانيان(3) ، وقد اشتهر الفتوى بذلك بعدهم ، ولكنّه منهم خرق لإجماع المتقدّمين المطّلعين على فتاوى الأئمّة(عليهم السلام) حيث انّهم تلقّوا الفتاوى والأحكام الفقهيّة يداً بيد وخلفاً عن سلف ، ولم يقع في البين فترة أصلا إلى أن وصلت بيد المشايخ العظام ، والأساطين الكرام ، كالشيخ الطوسي(قدس سره) والمتأخّرين عنه ، فلا يجوز الغضّ عمّا هو المتسالم عليه بينهم ، مع كون هاتين الروايتين بمرئى ومسمع منهم .
فالأولى حملهما على التقيّة ، لما عرفت سابقاً من أنّ الركعتين بعد العتمة جالساً
- (1) التهذيب 2 : 5 ح8 ; الوسائل 4 : 51 . أبواب اعداد الفرائض ب13 ح16 .
- (2) راجع ص54 التعليقة رقم 1 .
- (3) الدروس 1 : 136 ; اللمعة الدمشقية 1 : 169 ; مسالك الافهام 1 : 137 ; الروضة البهيّة 1 : 169 ; جامع المقاصد 2 : 9 .