(الصفحة 72)
ثمان ركعات ، إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت ، ثمّ صلِّ العصر»(1) . . . إلى غير ذلك من الأخبار ; والمستفاد من مجموعها أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال إلاّ انّ التقدير بتلك المقادير إنّما هو بملاحظة إتيان النافلة قبلها ، لا أنّ وقتها لا يدخل إلاّ بعد قدم أو نحوه كما هو واضح .
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لحمل الأخبار ـ الدالّة على أنّ الوقت إنّما يدخل بمجرّد الزوال ـ على التقيّة ، بعد كون ذلك مجمعاً عليه ومورداً لاتّفاق المسلمين ، عدى مالك(2) القائل بعدم جواز الإتيان بصلاة الظهر ما لم يصر الفي بقدر شراك النعل . وسيجيء نقل دليله ، كما أنّه لا إشكال فيها من حيث السند بعد كونها متواترةً إجمالا . فالمتعيّن ما ذكرنا في مقام الجمع .
ثمّ إنّه هل يستفاد من الأخبار ـ الدالّة على أنّ وقت الظهر إنّما هو بعد صيرورة الفي قدماً أو قدمين أو ذراعاً ، بعد حملها على ما ذكرنا ـ استحباب تأخير الظهر إلى تلك المقادير أم لا؟ بل كان محطّ النظر فيها هو بيان وقت يشترك فيه الفريضة والنافلة ، ويجوز فيه مزاحمة الثانية للاُولى ، من دون أن يكون لتأخير الفريضة فضل أصلا؟ وعلى التقدير الأوّل فهل يستفاد منها استحباب تأخير الظهر مطلقاً ، ولو لم يكن قاصداً للنافلة ، أو لم تشرع في حقّه لكونه مسافراً ، أو يكون ذلك مختصّاً بمن كان قاصداً للنافلة ومشروعة في حقّه؟ الظاهر أنّ تلك الأخبار مسوقة لمجرّد بيان وقت يمكن أن يزاحم فيه النافلة للفريضة ، من غير دلالة على استحباب تأخير الفريضة مطلقاً ، أو مع الإتيان بالنافلة قبلها ، ولذا صرّح في كثير منها بأنّه إذا مضى هذا المقدار بدأ بالفريضة وترك النافلة(3) ، وحينئذ فما ورد من أنّ «أوّل
- (1) التهذيب 2 : 249 ح990 ; الاستبصار 1 : 254 ح913 ; الوسائل 4 : 134 . أبواب المواقيت ب6 ح13 .
- (2) المدوّنة الكبرى 1 : 55 ; المجموع 3 : 24 ; الخلاف 1 : 256 مسألة 3 .
- (3) راجع الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 .
(الصفحة 73)
الوقت رضوان الله وآخره عفو الله»(1) ، وغيره من الروايات التي تدلّ على استحباب الإتيان بها في أوّل وقتها باق على إطلاقه كما لا يخفى .
ثمّ إنّه حكي عن الفيض في الوافي ، وصاحب المنتقى ، القول بأفضليّة التأخير(2) مطلقاً نظراً إلى أنّ الجمع بين ما دلّ على دخول وقت الظهر بمجرّد الزوال ، وما دل على دخوله بعد ذراع مثلا يقتضي حمل الطائفة الثانية على أفضليّة تأخيرها إلى ذلك المقدار مطلقاً ، سواء أراد الإتيان بالنافلة أم لا ، ويمكن أن يستشهد على هذا الجمع بروايات :
منها : الأخبار الدالّة على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي الظهر بعد صيرورة الفي ذراعاً ، والعصر بعد صيرورته ذراعين(3) .
ومنها : ما في نهج البلاغة من كتاب عليّ(عليه السلام) إلى اُمرائه المشتمل على قوله : «فصلّوا بالناس الظهر حين تفي الشمس مثل مربض العنز»(4) .
ومنها : رواية زرارة قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : أصوم فلا أُقيل حتّى تزول الشمس ، فإذا زالت الشمس صلّيت نوافلي ثم صلّيت الظهر ، ثمّ صلّيت نوافلي ثم صلّيت العصر ، ثم نمت ، وذلك قبل أن يصلّي الناس ، فقال : «يا زرارة إذا زالت الشمس فقد دخل الوقت ، ولكنّي أُكره لك أن تتّخذه وقتاً دائماً»(5) ، فإنّ زرارة مع فرضه الإتيان بالنوافل ، كره له الإمام(عليه السلام)تعجيل الفريضة .
ومنها : موثقة عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن أفضل وقت
- (1) الفقيه 1 : 140 ح651 ; الوسائل 4 : 123 . أبواب المواقيت ب3 ح16 ; سنن الدارقطني 1 : 201 ح972 ـ 974.
- (2) الوافي 7 : 222 ; منتقى الجمان 1 : 401 ـ 411 ; جواهر الكلام 7 : 80 .
- (3) الوسائل 4 : 141 . أبواب المواقيت ب8 .
- (4) نهج البلاغة . كتاب 52 : 986 ; الوسائل 4 : 162 . أبواب المواقيت ب10 ح13 .
- (5) التهذيب 2 : 247 ح981 ; الاستبصار 1 : 252 ح905 ; الوسائل 4 : 134 . أبواب المواقيت ب5 ح10 .
(الصفحة 74)
الظهر؟ قال : «ذراع بعد الزوال» ، قال : قلت : في الشتاء والصيف سواء؟ قال : «نعم»(1) .
ومنها : رواية محمّد بن فرج قال : كتبت أسأله عن أوقات الصلاة؟ فأجاب : «إذا زالت الشمس فصلِّ سبحتك ، وأُحبّ أن يكون فراغك من الفريضة والشمس على قدمين»(2) .
لكن بإزاء هذه الروايات أخبار كثيرة تدلّ على استحباب التعجيل ، وأفضلية أوّل الوقت وحملها على كون المراد بالأوّل أوّل الذراع والذراعين بعيد في الغاية ، لأنّ بعضها بل كثيرها يمنع هذا الحمل ، ولا بأس بنقل بعضها فنقول :
منها : رواية أبي بصير قال : ذكر أبو عبدالله(عليه السلام) أوّل الوقت وفضله ، فقلت : كيف أصنع بالثماني ركعات؟ فقال : «خفّف ما استطعت»(3) .
وأنت خبير بعدم إمكان حمل هذه الرواية على أوّل الذراع مثلا كما هو واضح .
ومنها : رواية زرارة قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : أصلحك الله وقت كلّ صلاة أوّل الوقت أفضل أو وسطه أو آخره؟ قال : «أوّله ، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : إنّ الله عزّوجلّ يحبّ من الخير ما يعجّل»(4) .
ومنها : رواية ذريح المحاربي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «سأل أبا عبدالله(عليه السلام)أُناس وأنا حاضر ـ إلى أن قال : ـ فقال بعض القوم : إنّا نصلّي الاُولى إذا كانت على قدمين ، والعصر على أربعة أقدام؟ فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : «النصف من ذلك
- (1) التهذيب 2 : 249 ح988 ; الاستبصار 1 : 254 ح911 ; الوسائل 4 : 147 أبواب المواقيت ب8 ح25 .
- (2) التهذيب 2 : 250 ح991 ; الاستبصار 1 : 255 ح914 ; الوسائل 4 : 148 أبواب المواقيت ب8 ح31 .
- (3) التهذيب 2 : 257 ح1019 ; الوسائل 4 : 121 . أبواب المواقيت ب3 ح9 .
- (4) الكافي 3 : 274 ح5 ; التهذيب 2 : 40 ح127 ; الإستبصار 1 : 244 ح871 ; الوسائل 4 : 122 . أبواب المواقيت ب3 ح12 .
(الصفحة 75)
أحبّ إليّ»(1) .
ومنها : صحيحة الحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم جميعاً المتقدّمة(2) . ويؤيّد ذلك أنّ المشهور بين الاماميّة عدم استحباب التأخير لذاته ، وما ورد من فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)(3) وأمر علي(عليه السلام)(4) فمحمول على أنّ التأخير انّما كان لملاحظة المأمومين الذين كانوا لا يتركون النوافل ، مع اختلافهم في الخفة والبطء والتطويل والتقصير ، مضافاً إلى موافقة هذه الأخبار للكتاب العزيز في قوله تعالى :
{وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم}(5) وقوله تعالى :
{واستبقوا الخيرات}(6) إذ لا ريب أنّ الصلاة سيّما الفريضة منها من أهمّ الخيرات وأسباب المغفرة .
ثمّ إنّ بعض الأخبار المتقدّمة يدل على أن أوّل الوقت هو القدمان ، لا كونه هو وقت الفضيلة ، مع أنّه خلاف الضرورة . وبالجملة لا إشكال في أنّ أوّل الوقت أفضل من غيره . ولكن لا يلزم التعرّض لهذه المسألة ، وذكر الأخبار الواردة فيها ، وبيان الجمع بينها بنحو التفصيل ، لأنّه يوجب التطويل .
تتمّة : قد عرفت اتفاق المسلمين على أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال(7) ، نعم قال مالك : أحبّ تأخيرها حتّى يصير الفي بقدر شراك النعل(8) . ومستنده في ذلك رواية جبرئيل التي رواها العامّة والخاصّة مع اختلاف يسير ، فروى الشافعي
- (1) التهذيب 2 : 246 ح978 ; الاستبصار 1 : 249 ح897 ; الوسائل 4 : 146 أبواب المواقيت ب8 ح22 .
- (2) الوسائل 4 : 131 . أبواب المواقيت ب5 ح1 .
- (3) الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 ح3 ، 4 ، 7 ، 10 ، 24 ، 28 .
- (4) نهج البلاغة : 986 ، كتاب 52 ; الوسائل 4 : 162 . أبواب المواقيت ب10 ح13 .
- (5) آل عمران : 133 .
- (6) المائدة : 48 .
- (7) الخلاف 1 : 256 مسألة 3 ; بداية المجتهد 1 : 138 ـ 139; المعتبر 2 : 27 ; تذكرة الفقهاء 2 : 300 مسألة 24 .
- (8) المجموع 3 : 24 ; المدوّنة الكبرى 1 : 55 ; الخلاف 1 : 256 مسألة 3 .
(الصفحة 76)
في كتاب الاُم عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن ابن عباس ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) انّه قال : أمّني جبرئيل عند باب البيت في يوم وقد زالت الشمس ، وكان ظلّه بقدر شراك ، وقد أتاني ثانياً حين كان ظلّه بقدر شاخص للعصر ، وأتاني عند غروب الشمس وأمّني للمغرب ، وأتاني عند سقوط الشفق وأمّني صلاة العشاء ، وقد أتاني الصبح وأمّني للصبح ، وأتاني في يوم الثاني وأمّني صلاة الظهر حين كان الظلّ بقدر الشاخص والعصر حين كان مثلين ، والمغرب ما دام الغروب ، والعشاء عند سقوط الشمس أو عند قرب الشفق(1) . ورواها غيره من محدّثي العامّة كأبي داود في سننه(2) مع اختلاف وقد ورد في رواياتنا موضع أمني كلمة أمرني وحكاها في الوسائل في الباب العاشر بطرق أربعة(3) ، لكن فيها بدل المثل والمثلين ، القامة والقامتين ، أو الذراع والذراعين ، أو القدمين وأربعة أقدام . هذا ، ولكن دلالتها على أنّ أوّل الوقت هو ما بعد الزوال إلى المثل مثلا ممنوعة ، فالحقّ هو ما ذهب إليه جميع الإمامية وجمهور العامة ، من أنّ أول الوقت هو بعد الزوال لما عرفت .
المسألة الثانية : آخر وقت الظهر
فنقول : اختلفت الاُمّة في آخر وقت يجوز تأخير الظهر إليه ، فيظهر من العامّة أقوال أربعة ، أحدها : إنّ آخر وقت الظهر هي صيرورة ظلّ كلّ شيء مثله ، حكي ذلك عن الشافعي والأوزاعي والليث بن سعد ، والثوري ، وأحمد ، وغيرهم .
- (1) الامّ 1 : 72 .
- (2) سنن أبي داود 1 : 107 ح393 ; سنن الترمذي 1 : 200 ح149 .
- (3) تهذيب 2 : 252 ـ 253 ح1001 ـ 1004 ; الاستبصار 1 : 257 ـ 258 ح922 ـ 925 ; الوسائل 4 : 157 ـ 158 . أبواب المواقيت ب10 ح5 ـ 7 .