(الصفحة 89)
وبالجملة : فالجمع بين الصلاتين كان من المنكرات عندهم وحينئذ فلا يبقى الارتياب في كون أخبار الاشتراك مسوقة لبيان الحكم الواقعي ، وأنّ الحقّ في خلافهم ، فمرادهم(عليهم السلام) أنّه لا يجب الانتظار للإتيان بصلاة العصر بعد الإتيان بالظهر كما عليه الجمهور ، بل يجوز الإتيان بهما معاً بعد الزوال بلا فصل ; وليست هذه الروايات بصدد بيان اشتراكهما في كل جزء منه حتّى تنافي ما يدلّ على اختصاص أوّل الوقت بالظهر ، وقد عرفت أنّ اعتبار لترتيب بين الصلاتين كان أمراً بديهيّاً عند المسلمين ، حتّى أنّ العامّة القائلين بتباين الوقتين المستلزم لوقوع الثانية عقيب الاُولى قهراً ، ذهبوا إلى اعتباره في موارد جواز الجمع(1) ، وحينئذ فلا يبقى مجال بعد وضوح اعتباره ، لتوهّم أن يكون قوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان»(2) . دالاًّ على دخول الوقتين بمجرّد الزوال المستلزم لنفي اعتبار الترتيب ، فحيث لا يكون ذلك القول موهماً لخلاف المقصود ، لأجل ارتكاز اعتبار الترتيب في أذهانهم ، وكان الغرض من مثل ذلك القول ، الردّ على المخالفين القائلين بوجوب تأخير العصر بعد الفراغ من الظهر إلى أن يدخل وقتها ، كان التعبير بهذا النحو من العبارة أحسن تعبير في بيان المرام .
فحاصل معنى الروايات أنّه لا يجب بعد الفراغ من الظهر الانتظار مدّة مديدة ، والصبر إلى أن يصير الظلّ مثلي الشاخص مثلا ، بل يجوز الجمع بينهما مطلقاً لدخول وقت العصر بعد الفراغ من الظهر فوراً ، والمصحّح لذلك الكلام هو ملاحظة مجموع العملين باعتبار ترتّب أحدهما على الآخر أمراً واحداً ، يدخل أوّل وقته بالزوال ألا ترى أنّه لو قيل : إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر ، لا يتوهّم أحد دخول وقت الركعة الأخيرة منها أيضاً بالزوال ، ولا يتبادر منه إلاّ
- (1) سنن النسائي 1 : 321 ـ 330 .
- (2) الفقيه 1 : 140 ح648 ; الوسائل 4 : 125 . أبواب المواقيت ب4 ح1 .
(الصفحة 90)
مجرّد جواز الشروع فيها بمجرّد تحقّقه ، وهكذا المقام فإنّه لا يتبادر من أخبار الاشتراك إلاّ مجرّد الإتيان بالصلاتين معاً بلا فصل .
إن قلت : ما ذكرت من كون المراد بدخول وقت الصلاتين دخول وقت المجموع من حيث المجموع ، إنّما يجري في مثل التعبير بقوله : «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين»(1) ولا يتمشّى في مثل قوله : دخل الوقتان كما في رواية زرارة(2) .
قلت : من الواضح أنّه ليس المراد بدخول الوقتين دخول زمانين في آن واحد ، فإنّه غير معقول ، بل النظر في ذلك إلى تعدّد العمل ، فلا فرق بين التعبيرين . وبالجملة بعد كون اعتبار الترتيب بين الصلاتين أمراً مركوزاً في ذهنهم ، فلا يتبادر عندهم من قوله(عليه السلام) : «دخل وقت الصلاتين» ، إلاّ مجرّد جواز الشروع فيهما متعاقباً ، من غير دلالة على اختصاص أوّل الزوال بالظهر ، أو اشتراكهما في جميع أجزاء الوقت ، بحيث لو وقعت العصر في أوّل الزوال نسياناً أو غفلة ، لوقعت صحيحة فالروايات لا تعرّض لها إلى حيثية الاشتراك ، أو الاختصاص حتّى تنافي ما يدلّ على أحدهما ، بل مفادها ليس إلاّ مجرّد بيان عدم وجوب تأخير العصر ، كما هو المتداول بين العامّة في مقام العمل .
إن قلت : إن ما ذكرت من أنّ معنى الروايات ليس إلاّ مجرّد جواز الإتيان بالصلاتين متعاقباً ، وهذا لا ينافي أن يكون للظهر وقت مختص به ، يوجب الاستهجان بنظر العرف ، ألا ترى أنّه لو قيل : إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر وكان الجزء الأوّل الذي يمكن ايقاع ركعة منها فيه مختصّاً بالركعة الاُولى ، والثاني بالثانية ، وهكذا يكون مستهجناً عرفاً فكذا المقام .
- (1) الوسائل 4 : 127 ، 128 ، 130 . أبواب المواقيت ب4 ح8 ـ 11 و 21 .
- (2) الوسائل 4 : 125 أبواب المواقيت ب 4 ح1 .
(الصفحة 91)
قلت : الاستهجان العرفي إنّما هو فيما إذا كانت الركعات متّصلة وأمّا في مثل المقام فلا نسلّم الاستهجان .
هذا وإن أبيت إلاّ عن ظهور أخبار الاشتراك في دخول وقت العصر أيضاً بمجرّد الزوال ، فنقول : لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور بملاحظة رواية ابن فرقد(1) الصريحة في الاختصاص ، خصوصاً بملاحظة ذيلها كما عرفت .
إن قلت : كيف يمكن الذهاب إلى الاختصاص مع أنّه لا يكون للوقت المختص حدّ محدود ، لاختلافه بحسب اختلاف المكلّفين من حيث الخفّة والبطء وحالاتهم من حيث السفر والحضر .
قلت : لم يدلّ دليل على أنّه يجب أن يكون الوقت بحيث لا يقبل الزيادة والنقصان ، ألا ترى أنّ مقدار القدم والقدمين والمثل والمثلين يختلف باختلاف الفصول والأيّام من حيث الطول والقصر ، ومع ذلك فقد جعلت حدّاً كما عرفت ويأتي .
ثمّ إنّ صاحب المصباح(قدس سره) ذكر في المقام كلاماً ، ملخّصه أن المتبادر من قول القائل : إذا زالت الشمس دخل وقت العمل الكذائي ، إرادة دخول وقته الفعلي الذي يجوز فيه ذلك الفعل ، لا الوقت الشأني الذي لا يصحّ إيقاعه فيه إلاّ على بعض الفروض النادرة الخارجة عن اختيار المكلّف ، كما هو الشأن في المقام بالنسبة إلى صلاة العصر ، بناء على مشاركتها مع الظهر من أوّل الوقت ، إلاّ أنّه يجب رفع اليد عن هذا الظهور هنا ، فيدور الأمر بين أن يكون المراد دخول الوقتين معاً ، غاية الأمر كون المراد بالنسبة إلى العصر الوقت الشأنيّ ; ويكون قوله(عليه السلام) : «إلاّ أنّ هذه قبل هذه» ، قرينة عليه ; وبين أن يكون المراد دخول الوقتين متعاقبين ، ولكنّك
- (1) التهذيب 2 : 25 ح70; الاستبصار 1 : 261 ح936; الوسائل 4 : 127 . أبواب المواقيت ب4 ح7 .
(الصفحة 92)
خبير بأن جعل هذه الفقرة قرينة لإرادة الوقت الشأنيّ أولى من ارتكاب هذا التأويل ، بل هو المتعيّن ، لصراحة جملة من الأخبار في إرادة دخول وقت العصر أيضاً كالظهر بمجرّد الزوال ، فيجب أن يكن المراد بها دخول وقتها الصالح للفعل من حيث هو لا بالفعل ، وحينئذ فيكون للعصر ثلاثة أوقات : وقت شأنيّ ، ووقت فعليّ ، ووقت منجّز .
فالأوّل : عبارة عن الوقت الصالح للإتيان بها بحسب الذات ، بحيث لو فرض تحقّق سائر شرائطها لكان إيقاعها فيه صحيحاً ، وهو الوقت الذي يدخل بمجرّد الزوال .
والثاني : عبارة عن الوقت الذي يكون المكلف مأموراً بايقاعها فيه على سبيل الإطلاق ، لا معلّقاً بوجود سائر الشرائط التي منها الترتيب ، وهو يدخل بمضي مقدار أربع ركعات من أوّل الزوال ولم يأت بالظهر بعد .
والثالث : عبارة عن الوقت الذي يكون بعد الفراغ عن الإتيان بالظهر ، وحينئذ فقوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان» ; يحمل على الوقت الشأنيّ بالنسبة إلى العصر ، ورواية داود بن فرقد المتقدّمة ، الدالّة على اختصاص أوّل الوقت بالظهر ، ودخول وقت العصر بعد مضي مقدار أربع ركعات من أوّل الزوال تحمل على الوقت الفعلي ، ورواية الفضل(1) الدالّة على دخول وقت العصر بعد الفراغ عن الظهر على الوقت المنجز .
هذا ، وتظهر ثمرة دخول وقت العصر بمجرّد الزوال في مواضع :
منها : ما لو انتفت شرطية الترتيب ، كما لو غفل عن الإتيان بالظهر . أو اعتقد إتيانها فصلّى العصر أو أتى بالظهر بزعم دخول الوقت ، ثمّ صلّى العصر بعدها ، ثمّ تبيّن وقوع الظهر قبل وقتها ووقوع العصر أوّل الزوال .
- (1) علل الشرائع : 263 ، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2 : 109 ح1 ; الوسائل 4 : 159 . أبواب المواقيت ب10 ح11 .
(الصفحة 93)
ومنها : ما إذا حصلت براءة الذمّة من الظهر ، ولو بمقتضى ظاهر التكليف ، كما لو اعتقد دخول الوقت فصلّى الظهر ثمّ دخل الوقت في آخر صلاته قبل إكمالها ولو بلحظة ، فله أن يأتي بالعصر مع عدم مضيّ مقدار أربع ركعات ، لوقوعها حينئذ في وقته ، والفرض تحقّق سائر الشرائط أيضاً ; وكما لو صلّى الظهر بزعم دخول الوقت ، ثمّ شك بعد الفراغ في الزوال ، فيحكم بصحّتها لقاعدة الفراغ ; ولكنّها لا يثبت دخول الزوال قبلا ، فإذا علم به فعلا صحّ إتيان العصر(1) . انتهى ملخّصاً .
ولا يخفى أنّه بعد تسليم ظهور قوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان» في الوقت الفعلي وعدم إمكان الحمل على ظاهره لوجوب تقديم الظهر على العصر ، وهو يوجب رفع اليد عنه ، لا وجه لحمله على الوقت الشأنيّ بالمعنى الذي ذكره ، بعد إمكان حمله على ما ذكرنا في معناه ، من أنّ المراد به جواز الشروع فيهما عند الزوال ، بأن يأتي بالظهر ثمّ العصر من غير فصل ، في مقابل الجمهور القائلين بوجوب تأخير العصر بعد الفراغ من الظهر إلى أن يدخل وقتها الذي يكون مبائناً لوقت الظهر .
وبالجملة : بعد دوران الأمر بين الوجهين لا مجال لحمل الروايات على الوجه الأوّل ، خصوصاً مع كون الثاني متبادراً من مثل هذا التعبير كما عرفت . فالأقوى في المسألة ما اختاره المشهور من الاختصاص ، لرواية ابن فرقد الصريحة فيه ، وعدم منافاة أخبار الاشتراك معها .
وتوهّم أنّه كيف يرفع اليد عن الروايات الكثيرة الدالّة على الاشتراك برواية واحدة ، خصوصاً مع كونها مرسلة لأنّ رفع اليد عن الاطلاقات الكثيرة يتوقّف على دليل قطعي؟
مندفع ـ مضافاًإلى أنّ الرواية الواحدة تكفي لتقييدالاطلاقاتوإن كانت كثيرة،
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 19 .