(الصفحة 164)
فحدوث الزوال وتحقّقه دخيل في ترتّب المصلحة على صلاة الظهر ، من غير أن يكون تأخّرها عن صلاة الفجر مؤثِّراً فيه ، وكذا حدوث الفجر الصادق له مدخلية في تأخير فريضة الصبح في المصلحة المترتّبة عليها من غير أن يكون تقدّمها على صلاة الظهر الواقعة بعد الزوال مؤثّراً فيه أصلا .
فالقطعات من الزمان التي تكون كلّ واحدة منها ظرفاً لصلاة خاصّة ، وإن كانت متقدّمة بعضها على بعض أصالة ، وبتبعها تتّصف الصلاة السابقة بوصف السبق واللاحقة بوصف اللحوق ، إلاّ أنّ هذا الاتّصاف ليس له دخل في ترتّب المصلحة المترقّبة على الصلاة المأتيّ بها ، فلابدّ من ملاحظة دليل آخر يدلّ على الترتيب .
ثمّ إنّه على تقدير تسليم ما ذكر يمكن الفرق بين المسألتين ، بأنّ ما له الدخل في البناء العرفي المتقدّم هو اختلاف أزمنة ثبوت الأوامر وتعاقبها ، ومن المعلوم أنّ تعاقب الأزمنة إنّما يتحقّق بالنسبة إلى الفوائت ـ بعضها بالاضافة إلى بعض ـ لأنّ توجّه الأمر بالفائتة السابقة ، يكون قبل توجّه الأمر بالفائتة اللاحقة .
وأمّا في الحاضرة بالنسبة إلى الفائتة فيمكن أن يقال: بعدم التعاقب إذا ذكر الفائتة عند حضور وقت الحاضرة ، لتوجّه الأمرين إليه معاً في حال واحد ، بناءً على أن يكون قوله(عليه السلام): «يقضيها إذا ذكرها»(1) دالاًّ على حدوث الأمر بالقضاء عند حدوث الذكر ، بحيث لا يكون قبله أمر باتيان الفائتة أصلا .
وكيف كان ، فنقول: ـ بعد ذكر أنّ النزاع في المقام إنّما هو في غير الظهرين من يوم واحد ، وكذا العشائين من ليلة واحدة ، لأنّ ترتّب قضاء العصر على الظهر والعشاء على المغرب من يوم وليلة واحدة لا إشكال فيه كما هو كذلك بالنسبة إلى
- (1) الكافي 3: 292 ح3; التهذيب 2: 266 ح1059; وص171 ح681; الإستبصار 1: 286 ح1046; الوسائل 4: 274 . أبواب المواقيت ب72 ح1 .
(الصفحة 165)
أدائهما ـ إنّ الروايات الواردة في هذا المقام كثيرة:
منها:
رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل صلّى الصلوات وهو جنب اليوم واليومين والثلاثة ثمّ ذكر بعد ذلك؟ قال: «يتطهّر ويؤذّن ويقيم في أوّلهنّ ثمّ يصلّي ويقيم بعد ذلك في كلّ صلاة ، فيصلّي بغير أذان حتّى يقضي صلاته»(1) . ولا دلالة لها على اعتبار الترتيب بين الفوائت ، لأنّها ناظرة إلى تأكّد استحباب الأذان والإقامة لأوّلهنّ ، وخصوص الإقامة لغيرها ، ممّا يؤتي به بعدها .
وليس مفادها لزوم الابتداء بما فات أوّلا من الصلوات ، لأنّه يحتمل أن يكون المراد بأوّل الصلوات الفائتة ، أوّلها في مقام الإتيان بقضائها لا أوّلها في مقام الفوت ، وعلى فرض أن يكون المراد به هو أوّلها عند الفوت ، لا يكون لها أيضاً دلالة على لزوم الابتداء به ، لأنّ ذلك التعبير إنّما وقع مطابقاً لعمل العرف ، فإنّه جرت سيرتهم على الابتداء بما فات أوّلا ثمّ الإتيان بما بعدها مترتّبة ، لأنّه لا داعي لهم إلى الشروع من الوسط أو من الآخر كما لا يخفى .
ومنها:
مرسلة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قلت : تفوت الرجل الاُولى والعصر والمغرب ويذكر عند العشاء ، قال: «يبدأ بصلاة الوقت الذي هو فيه ، فإنّه لا يأمن الموت ، فيكون قد ترك الفريضة في وقت قد دخل ثمّ يقضي ما فاته الأول فالأوّل»(2) .
وهذه الرواية وإن كانت ظاهرة في ترتّب قضاء المغرب على قضاء الظهرين كترتّب المتأخّرة منهما على المتقدّمة الذي قد عرفت أنّه لا إشكال فيه ، إلاّ أنّها موهونة من جهة موافقتها لمذهب العامّة ، من جهة دلالتها على تباين وقتي العشائين ، ولزوم الإتيان بالعشاء الآخرة في الوقت المشترك على حسب معتقد
- (1) التهذيب 3: 159 ح 342; الوسائل 8: 254 . أبواب قضاء الصلوات ب1 ح3 .
- (2) المعتبر 2: 407; الوسائل4: 289 . أبواب المواقيت ب62 ح6 .
(الصفحة 166)
الإمامية رضوان الله عليهم أجمعين ، فلا يمكن الاعتماد عليها من هذه الجهة .
وأمّا ترتّب قضاء العصر على الظهر فقد عرفت خروجه عن محلّ النزاع ، ثمّ إنّ في تعليله(عليه السلام) لزوم الابتداء بالوقت الذي هو فيه بأنه لا يأمن الموت ، فيكون قد ترك صلاة فريضة في وقت قد دخلت ، إشعاراً بما ذكرنا في تقرير الأصل في المسألة المتقدّمة ، من أنه ليس المراد بفوريّة القضاء كونها موقتة بحدوث الذكر ، أو أنّه تعلّق أمر آخر بها زائداً على الأمر المتعلّق بأصل الطبيعة ، بل المراد بها هو لزوم الإتيان بها من جهة احتمال كون التأخير موجباً لترك المأمور به من غير عذر فراجع .
ومنها:
فقرتان من رواية زرارة الطويلة المتقدّمة في المسألة السابقة:
1 ـ
قوله(عليه السلام) في ذيلها فيما إذا فاتته المغرب والعشاء جميعاً: «فإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة ثمّ صلّ المغرب والعشاء ، إبدأ بأوّلهما لأنّهما جميعاً قضاء . . .» ولا دلالة لهذه الفقرة إلاّ على وجوب رعاية الترتيب بين قضاء العشاء وقضاء المغرب من ليلة واحدة ، وقد عرفت أن ذلك ممّا لا إشكال فيه .
2 ـ
قوله(عليه السلام) في صدر الرواية: «إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء وكان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهنّ ، فأذّن لها وأقم ثمّ صلّها ثمّ صلّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلّ صلاة»(1) . وهذه الفقرة من حيث المضمون موافقة لرواية محمد بن مسلم المتقدّمة(2) ، إلاّ أنّ دلالة هذه على اعتبار الترتيب على فرضها أقوى من دلالة تلك الرواية ، وذلك من جهة اشتمالها على الأمر بالابتداء بأوّل الفوائت دونها .
- (1) الوسائل 4 : 290 . أبواب المواقيت ب63 ح1 .
- (2) الوسائل 8 : 254 . أبواب قضاء الصلوات ب1 ح3 .
(الصفحة 167)
ولكنّها أيضاً ممنوعة ، لأنّها ناظرة إلى حكم آخر ، وهو تأكّد استحباب الأذان والإقامة لأوّلها وخصوص الإقامة لغيرها ممّا يؤتي به بعدها بلا فصل ، والأمر بالابتداء بأوّلهنّ إنّما هو توطئة للحكم المذكور بعده ، ولا دلالة له على لزوم ذلك ولعلّه وقع من باب المطابقة ، لما جرت به سيرة العرف غالباً من الابتداء في مقام امتثال الأمر بالقضاء بما فات أوّلا ، ثمّ الإتيان بما بعدها مرتّبة على حسب ترتيب الفوت كما لا يخفى .
وبالجملة:
دلالة هذه الفقرة من الرواية على لزوم مراعاة الترتيب بين الفوائت مبنيّة على كونها بصدد بيان حكمين:
أحدهما:
وجوب الابتداء بما فات أوّلا .
ثانيهما:
الأمر بالأذان والإقامة للفائتة المبتدأ بها وبخصوص الإقامة لما بعدها ، مع أنّ ظاهرها يأبى عن ذلك ، فإنّ الناظر المتأمّل فيها يقضي بعدم كونها إلاّ في مقام بيان الحكم الثاني .
والأمر بالابتداء بأوّل الفوائت إنّما وقع من باب المطابقة لعمل العرف وسيرتهم ، بناءً على أن يكون المراد بأوّلها هو الأول في مقام الفوت . هذا ، ويحتمل قويّاً أن يكون المراد به هو الأول في مقام العمل والإتيان بالفوائت المتعدّدة ، فلا يكون ذكره مجدياً إلاّ من باب التوطئة للحكم المذكور بعده .
هذا ، مضافاً إلى أنّه لو سلّم ظهور الرواية في الأمر بالابتداء بما فات أوّلا ، وأنّ هذا حكم مستقلّ تكون الرواية بصدد بيانه ، نقول: إنّ مقتضاها مجرّد لزوم الابتداء بما فات أوّلا ولا دلالة لها على لزوم مراعاة الترتيب بالنسبة إلى ما بعدها ، بحيث تكون الفائتة الثانية في مقام الفوت ثانية في مقام العمل أيضاً ، اللهمَّ إلاّ أن يتمسّك بعدم القول بالفصل أو بمفهوم الموافقة الراجع إلى إلغاء الخصوصية ، ضرورة أنّه لا خصوصية للاُولى من حيث لزوم الابتداء بها ، بل ذلك إنّما هو من جهة اشتراط
(الصفحة 168)
الإتيان بالفائتة السابقة في صحة الفائتة اللاحقة من دون فرق بين الاُولى وغيرها .
وكيف كان ، فالاستناد لإثبات مثل هذا الحكم إلى مثل هذه الرواية مع قصور دلالتها ممّا لا ينبغي أن يصدر من الفقيه ، خصوصاً بعد احتمال كون المقصود منها هو المقصود من رواية محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) المتقدّمة ، وقد عرفت ضعف دلالتها بمكان .
وخصوصاً بعد كون مقتضى مناسبة الحكم بالأذان والإقامة لاُولى الصلوات ، والإقامة لما بعدها ، هو كون الموضوع لذلك مطلق ما يؤتى به أوّلا ، سواء كان هو الأول عند الفوت أم لم يكن ، ولا ملائمة بين خصوص الأول في مقام الفوت وهذا الحكم أصلا .
ألا ترى أنّه لا يستفاد من الرواية استحباب الأذان والإقامة معاً لمن خالف الترتيب نسياناً وابتدأ بغير الأول عند الفوت ، ومن المعلوم خلافه . هذا ، ولكنّ الذي يمنعنا عن الفتوى بعدم اعتبار الترتيب على ما هو مقتضى الأصل بعد قصور الدليل ، هي الشهرة العظيمة المحقّقة بين المتأخّرين من الأصحاب رضوان الله عليهم .
فإنّك عرفت(1) أنّ المسألة وإن لم تكن مورداً لتعرّض القدماء ـ ما عدا السيّد في الجمل ، والقاضي في شرحه ـ إلاّ أنّ المتأخّرين المتعرّضين لها لم يناقشوا فيها ، بل قد ادعى الاجماع غير واحد منهم ، وحينئذ فالأحوط بل الأقوى لزوم مراعاة الترتيب بالنسبة إلى الفوائت وإن لم يكن معتبراً شرعاً في أدائها ، هذا كلّه بالنسبة إلى اعتبار أصل الترتيب في الجملة .
وأمّا اختصاص اعتباره بصورة العلم بالترتيب أو اطلاقه لصورة الجهل أيضاً