(الصفحة 161)
يكون معاقباً من جهة الترك عمداً ، لما كان ذلك مورداً لإنكار المتشرّعة كما هو غير خفيّ .
ثمّ إنّك عرفت أنّه لو فرضنا سقوط أخبار المواسعة عن الحجّية ، وقلنا بلزوم الأخذ بمقتضى أخبار المضايقة ، فالقدر المتيقّن من تلك الأخبار هو ترتّب الحاضرة على الفائتة المتّصلة بها ، أو الشريكة للمتّصلة في الوقت ، ولا يتجاوز ذلك عن يوم وليلة ، ومن المعلوم أنّ هذا المقدار لا يوجب تعطيل أمر المعاش والاقتصار من النوم وغيره على مقدار الضرورة .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا بطلان القول بأصل المضايقة أوّلا وبالمضايقة المطلقة ثانياً ، هذا تمام الكلام في مسألة المضايقة والمواسعة .
الترتيب بين الفوائت
`اعلم أنّ العامّة لم يفرّقوا بين هذه المسألة والمسألة المتقدّمة ، فمن قال منهم بعدم الترتيب كالشافعي قال به مطلقاً ، ومن قال باعتبار الترتيب بالنسبة إلى يوم وليلة في الحاضرة والفائتة كأبي حنيفة ومالك ، قال به في الفوائت أيضاً بعضها بالنسبة إلى بعض ، ومن قال بالترتيب مطلقاً كأحمد ، قال به مطلقاً ، هذا حالهم(1) .
وأمّا أصحابنا فالقدماء منهم ـ القائلون بالمضايقة في المسألة المتقدّمة ـ لم يتعرّضوا لهذه المسألة ، نعم قد تعرّض لها السيّد في الجمل ، واختار الترتيب بين الفوائت أيضاً ، وقرّره على ذلك القاضي ابن البراج في شرحه(2) ، ولكن لا يستفاد
- (1) المجموع 3: 70 المغني لابن قدامة 1: 676 ـ 677; الشرح الكبير 1 : 483 ـ 484; بداية المجتهد 1 : 256 ـ 257; تذكرة الفقهاء2: 351 ـ 353; مسألة 58 و 59 .
- (2) جمل العلم والعمل (رسائل المرتضى) 3: 38; المهذّب 1 : 126; مختلف الشيعة 3: 3 و4 .
(الصفحة 162)
منهما الملازمة بين المسألتين .
وأمّا المتأخّرون فقد عنونوا مسألتين واختلفوا في كلتيهما ، وظاهرهم عدم الملازمة بينهما ، فيمكن حينئذ القول بالمضايقة في المسألة المتقدّمة دون هذه المسألة ، وكذا العكس كما هو المعروف بينهم ، وقد ادعي الاجماع عليه بالنسبة إلى هذه المسألة(1) .
وكيف كان فربّما يقال في المسألتين: إنّ المرتكز في أذهان أهل العرف في الأوامر المتعدّدة المتعلّقة بطبيعة واحدة في الأزمنة المتعاقبة ، رعاية التقدّم والتأخّر الثابتين لتلك الأوامر في مقام التوجّه إلى المكلّف في مقام الامتثال والاطاعة ، بحيث يمتثلون أوّلا الأمر المتوجّه إليه أوّلا وثانياً الأمر المتوجّه إليه ثانياً وهكذا .
فالقطعات المختلفة من الزمان التي هي ظروف للمكلّف به كما أنّها متقدّمة بعضها على بعض ذاتاً ، وتكون السابقة متّصفة بوصف السبق أصالة ، واللاحقة بوصف اللحوق كذلك ، كذلك لها مدخليّة في اتّصاف الأمر الواقع في القطعة اللاحقة بوصف اللحوق ، وكذا الواقع في السابقة ، والعرف يراعي هذين الوصفين الثابتين للأمر مثلا في مقام الامتثال ، ويأتي بمتعلّق الأمر السابق أوّلا واللاحق ثانياً .
وكأنّه يكون الإتيان بمتعلّق السابق عندهم شرطاً لصحّة الامتثال بالنسبة إلى الأمر اللاحق ، إمّا لكون نفس الإتيان بالمتعلّق وجوده شرطاً للثاني مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به أوّلا ، لأجل تقدّم ظرفه على ظرفه ، وإمّا لكون تعلّق الأمر به أوّلا مستدعياً لتقديم الإتيان بمتعلّقه في مقام الامتثال .
- (1) الخلاف 1 : 382 مسألة 139; المعتبر 2 : 405 ـ 406; المنتهى 1 : 421; التنقيح الرائع 1: 267; ذخيرة المعاد: 385; كفاية الاحكام : 28 ، مستند الشيعة 7 : 313 ; جواهر الكلام 13: 19 .
(الصفحة 163)
ويؤيّد هذا الارتكاز ، الروايات المتقدّمة الدالّة على الترتيب بين الحاضرة والفائتة ، وكذا صدر رواية زرارة الطويلة المتقدّمة في المسألة السابقة ، الظاهرة في الابتداء بأولى الفوائت ثمّ الإتيان بما بعدها(1) ، وكذا رواية عبدالله بن سنان الواردة في رجل أفاض من جمع حتّى انتهى إلى منى فعرض له عارض لم يرم الجمرة حتّى غابت الشمس ، الدالّة على أنّه يرمي إذا أصبح مرّتين إحداهما بكرة وهي للأمس ، والاُخرى عند زوال الشمس وهي ليومه(2) ، وكذا ما رواه العامّة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) من أنّه فاتت منه صلوات ثمّ أتى بقضائها مرتّباً ومقدّماً للفائتة السابقة على اللاحقة(3) .
وبالجملة:
المرتكز لدى العرف في مقام العمل ، تقديم امتثال الأمر المتوجّه إليه أوّلا على امتثال الأمر المتوجّه إليه ثانياً ، من غير فرق بين الفوائت بعضها بالنسبة إلى بعض وبين الحاضرة والفائتة ، وأمّا الحواضر فترتّب بعضها على بعض قهريّ لا يكاد يحتاج إلى البيان . نعم في الظهرين وكذا العشائين حيث يمكن مخالفة الترتيب إحتاج إلى البيان ، وأنّ الظهر شرط للعصر والمغرب شرط للعشاء ، وقد وقع بيانه في الفتاوى تبعاً للنصوص .
هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذه الدعوى ، ولكن يرد عليها أنّ بناء العرف على ما ذكر على تقدير تسليم ثبوته ، لا يثبت اللزوم الشرعيّ ، بعد كون المحتمل أنه لا يكون الإتيان بالصلاة السابقة دخيلا في ترتّب المصلحة على الصلاة اللاحقة ، بل كان مجرّد تحقق القطعة الخاصّة التي هي ظرف للصلاة اللاحقة مؤثِّراً في ترتّب المصلحة .
- (1) الوسائل 4: 290 . أبواب المواقيت ب63 ح1 .
- (2) التهذيب 5: 262 ح 893; الوسائل 14: 72 . أبواب رمي جمرة العقبة ب15 ح1 .
- (3) سنن الترمذي 1: 223 ب18 ح179; سنن النسائي 1 ـ 2: 336 ب55 ح618 .
(الصفحة 164)
فحدوث الزوال وتحقّقه دخيل في ترتّب المصلحة على صلاة الظهر ، من غير أن يكون تأخّرها عن صلاة الفجر مؤثِّراً فيه ، وكذا حدوث الفجر الصادق له مدخلية في تأخير فريضة الصبح في المصلحة المترتّبة عليها من غير أن يكون تقدّمها على صلاة الظهر الواقعة بعد الزوال مؤثّراً فيه أصلا .
فالقطعات من الزمان التي تكون كلّ واحدة منها ظرفاً لصلاة خاصّة ، وإن كانت متقدّمة بعضها على بعض أصالة ، وبتبعها تتّصف الصلاة السابقة بوصف السبق واللاحقة بوصف اللحوق ، إلاّ أنّ هذا الاتّصاف ليس له دخل في ترتّب المصلحة المترقّبة على الصلاة المأتيّ بها ، فلابدّ من ملاحظة دليل آخر يدلّ على الترتيب .
ثمّ إنّه على تقدير تسليم ما ذكر يمكن الفرق بين المسألتين ، بأنّ ما له الدخل في البناء العرفي المتقدّم هو اختلاف أزمنة ثبوت الأوامر وتعاقبها ، ومن المعلوم أنّ تعاقب الأزمنة إنّما يتحقّق بالنسبة إلى الفوائت ـ بعضها بالاضافة إلى بعض ـ لأنّ توجّه الأمر بالفائتة السابقة ، يكون قبل توجّه الأمر بالفائتة اللاحقة .
وأمّا في الحاضرة بالنسبة إلى الفائتة فيمكن أن يقال: بعدم التعاقب إذا ذكر الفائتة عند حضور وقت الحاضرة ، لتوجّه الأمرين إليه معاً في حال واحد ، بناءً على أن يكون قوله(عليه السلام): «يقضيها إذا ذكرها»(1) دالاًّ على حدوث الأمر بالقضاء عند حدوث الذكر ، بحيث لا يكون قبله أمر باتيان الفائتة أصلا .
وكيف كان ، فنقول: ـ بعد ذكر أنّ النزاع في المقام إنّما هو في غير الظهرين من يوم واحد ، وكذا العشائين من ليلة واحدة ، لأنّ ترتّب قضاء العصر على الظهر والعشاء على المغرب من يوم وليلة واحدة لا إشكال فيه كما هو كذلك بالنسبة إلى
- (1) الكافي 3: 292 ح3; التهذيب 2: 266 ح1059; وص171 ح681; الإستبصار 1: 286 ح1046; الوسائل 4: 274 . أبواب المواقيت ب72 ح1 .
(الصفحة 165)
أدائهما ـ إنّ الروايات الواردة في هذا المقام كثيرة:
منها:
رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل صلّى الصلوات وهو جنب اليوم واليومين والثلاثة ثمّ ذكر بعد ذلك؟ قال: «يتطهّر ويؤذّن ويقيم في أوّلهنّ ثمّ يصلّي ويقيم بعد ذلك في كلّ صلاة ، فيصلّي بغير أذان حتّى يقضي صلاته»(1) . ولا دلالة لها على اعتبار الترتيب بين الفوائت ، لأنّها ناظرة إلى تأكّد استحباب الأذان والإقامة لأوّلهنّ ، وخصوص الإقامة لغيرها ، ممّا يؤتي به بعدها .
وليس مفادها لزوم الابتداء بما فات أوّلا من الصلوات ، لأنّه يحتمل أن يكون المراد بأوّل الصلوات الفائتة ، أوّلها في مقام الإتيان بقضائها لا أوّلها في مقام الفوت ، وعلى فرض أن يكون المراد به هو أوّلها عند الفوت ، لا يكون لها أيضاً دلالة على لزوم الابتداء به ، لأنّ ذلك التعبير إنّما وقع مطابقاً لعمل العرف ، فإنّه جرت سيرتهم على الابتداء بما فات أوّلا ثمّ الإتيان بما بعدها مترتّبة ، لأنّه لا داعي لهم إلى الشروع من الوسط أو من الآخر كما لا يخفى .
ومنها:
مرسلة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قلت : تفوت الرجل الاُولى والعصر والمغرب ويذكر عند العشاء ، قال: «يبدأ بصلاة الوقت الذي هو فيه ، فإنّه لا يأمن الموت ، فيكون قد ترك الفريضة في وقت قد دخل ثمّ يقضي ما فاته الأول فالأوّل»(2) .
وهذه الرواية وإن كانت ظاهرة في ترتّب قضاء المغرب على قضاء الظهرين كترتّب المتأخّرة منهما على المتقدّمة الذي قد عرفت أنّه لا إشكال فيه ، إلاّ أنّها موهونة من جهة موافقتها لمذهب العامّة ، من جهة دلالتها على تباين وقتي العشائين ، ولزوم الإتيان بالعشاء الآخرة في الوقت المشترك على حسب معتقد
- (1) التهذيب 3: 159 ح 342; الوسائل 8: 254 . أبواب قضاء الصلوات ب1 ح3 .
- (2) المعتبر 2: 407; الوسائل4: 289 . أبواب المواقيت ب62 ح6 .