(الصفحة 269)
الكبيرة ، حيث إنّه ما لم تتحقّق التوبة عنها لا تكون مكفّرة أصلا كما لا يخفى .
اعتبار الاجتناب عن خصوص الكبائر في تحقّق العدالة
إنّ المعتبر في العدالة هل هو مجرّد الاجتناب عن خصوص الكبائر أو الأعم منه ومن اجتناب الصغائر أيضاً؟ والمستند للقول الأول هي صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(1) بناءً على ما استظهرناه منها ، من أنّ قوله(عليه السلام): «ويُعرف باجتناب الكبائر . . .» ، عطف على قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف» ، وعليه فيكون من تتمّة المعرف للعدالة .
وحاصل المراد أنّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الرادعة عن ارتكاب شيء من القبائح العرفيّة ، وملكة الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة التي أوعد الله عليها النار، ولازمه حينئذ أنّ ارتكاب شيء من المعاصي الصغيرة عند عدم الإصرار عليه المتحقّق بالإتيان مع عدم التوبة والارتداد عند الإلتفات إلى صدور الذنب لا يكون قادحاً في العدالة .
ودعوى إنّه كيف لا يكون ارتكاب المعصية قادحاً في تحقق العدالة؟
مدفوعة بأنّها مجرّد استبعاد لا يقاوم الظهور اللفظي ، خصوصاً بعدما عرفت من أنّ الإصرار على الصغيرة أيضاً من جملة الكبائر ، وأنّ الإصرار يتحقّق بمجرّد الارتكاب مع عدم الاستغفار ، إذ حينئذ يكون ارتكاب الصغيرة مع عدم الإصرار غير قادح في العدالة ، كما هو الشأن في ارتكاب الكبيرة أيضاً .
لأنّ ارتكابها مع التوبة عنها لا يقدح أصلا ، واشتراك الصغيرة والكبيرة من
- (1) الوسائل 27: 391 كتاب الشهادات ب41 ح 1 .
(الصفحة 270)
هذه الجهة ـ وهي عدم قادحيّة ارتكاب شيء منهما مع الندم وقادحيته مع عدمه ـ لا يوجب اشتراكهما من جميع الجهات ، مضافاً إلى أنّه يكفي في الفرق بينهما أنّ ارتكاب الكبيرة قادح في العدالة مع عدم التوجّه والالتفات إلى صدورها أيضاً حتّى يندم ويتوب ، وهذا بخلاف الصغيرة فإنّه مع ارتكابها لا تزول العدالة عند عدم التوجّه والالتفات فتدبّر .
وبالجملة:
فلا ينبغي الارتياب فيما ذكر بناءً على ما فسّرنا به الصحيحة المتقدّمة .
نعم، لو قيل: بأنّ قوله(عليه السلام) : «ويُعرف اجتناب الكبائر» ليس من أجزاء المعرّف للعدالة ، بل أمارة شرعية عليها ، كما استظهره بعض الأعاظم من المعاصرين على ما عرفت من كلامه(1) ، فلا دليل حينئذ على كون العدالة هي الملكة الرادعة عن ارتكاب خصوص الكبائر .
بل مقتضى قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف . . .» أنّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الباعثة على كفّ البطن والفرج واليد واللسان عن كلّ ذنب ، سواء كان من الكبائر أو من الصغائر .
غاية الأمر أنّ الأمارة على ذلك هي الاجتناب العمليّ عن خصوص الكبائر ، ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى الأمارة إنّما هو مع عدم العلم بخلافها الذي يتحقّق بارتكاب صغيرة من الصغائر .
هذا ، وقد عرفت أنّ هذا المعنى بعيد عن سياق الرواية وأنّ الظاهر منها هو ما ذكرنا .
ثمّ إنّ المحقّق الهمداني ذكر في هذا المقام كلاماً، ملخّصه: إنّ الذي يقوى في النظر أنّ صدور الصغيرة أيضاً ـ إذا كان عن عمد والتفات إلى حرمتها كالكبيرة ـ مناف
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 517 ـ 518 .
(الصفحة 271)
للعدالة ، ولكنّ الذنوب التي ليست في أنظار أهل الشرع كبيرة قد يتسامحون في أمرها ، فكثيراً ما لا يلتفتون إلى حرمتها حال الارتكاب أو يلتفتون إليها، ولكن يكتفون في ارتكابها بأعذار عرفيّة مسامحة ، كترك الأمر بالمعروف ، أو النهي عن المنكر ، أو الخروج عن مجلس الغيبة ونحوها حياءً ، مع كونهم كارهين لذلك في نفوسهم .
فالظاهر عدم كون مثل ذلك منافياً لاتّصافه بالفعل عرفاً بكونه من أهل الستر والعفاف والخير والصلاح ، وهذا بخلاف مثل الزنا واللواط ونظائرهما ممّا يرونها كبيرة ، فإنّها غير قابلة عندهم للمسامحة ، وهذا هو الفارق بين ما يراه العرف صغيرة وكبيرة .
فإن ثبت بدليل شرعيّ أنّ بعض الأشياء التي يتسامح فيها أهل العرف ولا يرونها كبيرة كالغيبة مثلا ، حاله حال الزنا والسرقة لدى الشارع ، في كونها كبيرة كشف ذلك عن خطأ العرف في مسامحتهم ، وأنّ هذا أيضاً كالزنا مناف للعدالة مطلقاً ، فالذي يعتبر في تحقق وصف العدالة أن يكون الشخص من حيث هو لو خلّي ونفسه كافّاً نفسه عن مطلق ما يراه معصية ، ومجتنباً بالفعل عن كلّ ما هو كبيرة شرعاً أو في أنظار أهل العرف(1) ، انتهى .
ويرد عليه أنّ صدور الصغيرة إن كان عن توجّه إلى حرمتها حال الارتكاب ، والالتفات إلى كونها منهيّاً عنها ، فالظاهر بمقتضى ما ذكره قدح إرتكابها في العدالة وأنّه لا فرق بينها وبين الكبيرة ، وإن كان صدورها عن الجهل بكونها معصية ومحرّمة ، فلا تكون قادحة في العدالة ، كما أنّ الكبيرة أيضاً إذا صدرت كذلك لا تضرّ بها ، فلم يظهر ممّا أفاده الفرق بينهما ، بل اللاّزم الاستناد في ذلك إلى الصحيحة المتقدّمة بناءً على ما استظهرناه منها كما عرفت .
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 675 .
(الصفحة 272)
ولكن لا يذهب عليك أنّ ما اخترناه من عدم قدح ارتكاب الصغيرة في العدالة إنّما هو في الصغيرة بقول مطلق ، لا الصغيرة الإضافية التي يصدق عليه عنوان الكبيرة أيضاً . ولذا ثمرة هذا البحث قليلة في الغاية ، لاختلاف روايات الخاصّة والعامّة في عدد الكبائر وبيان الضابط لها ، ولأجله يتعسّر الإطّلاع على الصغيرة بقول مطلق ، ولذا لم يكن هذا البحث محرّراً في كلماتهم ومذكوراً فيها منقّحاً .
الإتيان بالكبيرة مانع عن قبول الشهادة
قد اتّفقت آراء المسلمين تقريباً على أنّ مجرّد الإتيان بالكبيرة يمنع عن قبول الشهادة ، وما يجري مجراه من جواز الاقتداء به في الصلاة وغيره(1) ، كما أنّه قد ادّعى الاجماع جماعة من المتأخّرين على أنّ التوبة عن الكبيرة والرجوع عنها تزيل حكم المعصية ، ومعها تقبل الشهادة ويجري سائر أحكام العدالة(2) .
وقد وقع الخلاف في ذلك بين المسلمين ، ومورد الخلاف بينهم مسألة القذف، والمنشأ له هي الآية الشريفة ، وقد تعرّض لهذه المسألة الشيخ(رحمه الله) في كتاب الخلاف في باب الشهادات حيث قال: القاذف إذا تاب وصلح قبلت توبته وزال فسقه بلا خلاف ، وتقبل عندنا شهادته فيما بعد ، وبه قال عمر بن الخطاب ، وروي عنه أنّه جلّد أبا بكرة حين شهد على المغيرة بالزنا ، ثمّ قال له: تب تقبل شهادتك . وعن ابن
- (1) المبسوط 8 : 217 ; السرائر 2 : 117 ; شرائع الإسلام 4: 116; تحرير الاحكام 2: 208; ذخيرة المعاد : 305; مفتاح الكرامة 3 : 88 ـ 89 ; جواهر الكلام 13 : 322 ـ 333 .
- (2) شرائع الإسلام 4 : 117 ; مختلف الشيعة 8 : 484 ; الدروس 2 : 126; ذخيرة المعاد: 305; مفتاح الكرامة 3: 88 ـ 89; جواهر الكلام 13: 322 ـ 323 .
(الصفحة 273)
عبّاس أنّه قال: إذا تاب القاذف قبلت شهادته ، ولا مخالف لهما ، ثمّ عدّ جماعة من التابعين والفقهاء الموافقين لذلك .
ثمّ قال: وذهبت طائفة إلى أنّها تسقط ، فلا تقبل أبداً ، ذهب إليه في التابعين شريح والحسن البصري والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ، ثمّ قال: والكلام مع أبي حنيفة في فصلين: عندنا وعند الشافعي تردّ شهادته بمجرّد القذف ، وعنده لا تردّ بمجرّد القذف حتّى يجلد ، فإذا جلد ردّت شهادته بالجلد لا بالقذف ، والثاني عندنا تقبل شهادته إذا تاب ، وعنده لا تقبل ولو تاب ألف مرّة(1) .
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم ، والدليل على أنّ ردّ الشهادة يتعلّق بمجرّد القذف ولا يعتبر الجلد قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرمُونَ المُحَصنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلاَ تَقبلُوا لَهُم شَهَادَةً أَبَدَاً} ، فذكر القذف وعلَّق وجوب الجلد بردّ الشهادة ، فثبت أنّهما يتعلّقان به ، والذي يدلّ على أنّ شهادتهم لا تسقط أبداً قوله تعالى في سياق الآية:
{وَاُولئِك هُم الفَاسِقُونَ* إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(2) .
ووجه الدلالة أنّ الخطاب إذا اشتمل على جمل معطوفة بعضها على بعض بالواو ، ثمّ تعقّبها استثناء رجع الاستثناء إلى جميعها إذا كانت كلّ واحدة منها ممّا لو انفردت رجع الاستثناء إليها ـ إلى أن قال: ـ فإن قالوا: الاستثناء يرجع إلى أقرب المذكورين ، فقد دلّلنا على فساد ذلك في كتاب اُصول الفقه(3) ، والثاني: أنّ في الآية ما يدلّ على أنّه لا يرجع إلى أقرب المذكورين ، فإنّ أقربه الفسق ـ والفسق يزول
- (1) سنن البيهقي 10: 152 ـ 153 ; المغني لابن قدامة 12 : 74 ـ 75 ; الشرح الكبير 12: 61 ـ 62; المجموع 20: 252; تفسير القرطبي 12 : 179 .
- (2) النور: 4 ـ 5 .
- (3) نهاية الأصول : 363 .