(الصفحة 199)المبحث الثاني : موارد مشروعيّة الجماعة
لا خفاء في مشروعية صلاة الجماعة في الصلوات الخمس اليوميّة من الصلوات المفروضة ، كما أنّه لا إشكال في مشروعيتها في صلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة الآيات وصلاة الجنازة ، وفي مشروعيتها في صلاة الطواف في الحجّ أو العمرة ـ مع أنه لم ينقل عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) الإتيان بها جماعة ولو مرّة ، وهذا يكشف عن عدم ثبوته ، ضرورة أنه لو كان لنقل ـ إشكال .
وربّما استدلّ على المشروعية بما رواه زرارة والفضيل قالا: قلنا له: الصلاة في جماعة فريضة هي؟ فقال: «الصلوات فريضة ، وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات كلّها ، ولكنّها سنّة . . .»(1) . والظاهر أنّه لا دلالة لهذه الرواية على ذلك ، لأنّ المراد بقوله: «الصلوات فريضة» إن كان هو جميع الصلوات ، فمن الواضح أنـّها لا تكون بأجمعها فريضة ، وإن كان المراد هو خصوص المفروض منها ، يلزم أن تكون القضية ضرورية بشرط المحمول ، وهو بعيد جدّاً .
فاللازم أن يقال: إنّ المراد هو الصلوات التي كانت الجماعة فيها معهودة متعارفة ، وعليه فمرجع السؤال إلى أنّ الجماعة في تلك الصلوات التي كان المتعارف بين الناس الإتيان بها جماعة هل تكون فريضة أم لا؟ ، ومحصّل الجواب أنّ أصل تلك الصلوات بما أنها صلاة مفروضة ، والجماعة ليست مفروضة في جميعها ، وهو
- (1) الكافي 3: 372 ح6; التهذيب 3: 24 ح83; الوسائل 8: 285; أبواب صلاة الجماعة ب1 ح2 .
(الصفحة 200)
إشارة إلى وجوبها في بعضها كالجمعة ، وليس في الرواية دلالة على كون الاجتماع سنّة في جميع الصلوات حتّى يستدلّ بعمومها على استحبابه في صلاة الطواف أيضاً . هذا بالنسبة إلى الصلوات المفروضة .
وأمّا الصلوات المندوبة ، فلا إشكال في عدم مشروعية الجماعة في جميعها(1)لاستمرار فعل النبيّ(صلى الله عليه وآله) مع شدّة اهتمامه بالجماعة وكثرة ما يترتّب عليها من الفضائل والمثوبات على الإتيان بها فرادى ، ضرورة أنه كان يصلّي النوافل اليومية في منزله غالباً ، وهذا يدلّ قطعاً على عدم استحبابها فيها .
نعم،لاينبغي الارتياب في مشروعيتهافي صلاة الاستسقاء(2)، وقدوردت رواية دالّة على جوازهافي صلاة الغدير(3)، لكنّهالم يعلم جواز العمل بها لاحتمال الإعراض.
وأمّا نوافل شهر رمضان فهي أيضاً كسائر النوافل غير المشروعة فيها الجماعة ، ولكن قد جوّزها فيها الثاني من الخلفاء ، وهو مع اعترافه بكونه بدعة استحسن بدعته(4)! ، واستمرّ العمل بعده على ذلك من العامّة; وكيف كان ، فلا إشكال عندنا في عدم مشروعيّتها فيها .
- (1) و (2) المعتبر 2: 415; تذكرة الفقهاء 4 : 235; المنتهى 1: 364; كنز العرفان 1: 194; مدارك الأحكام 4 : 314; جواهر الكلام 13 : 140 ـ 145; مستند الشيعة 8: 14.
- (3) مصباح المتهجد: 696 و702 ـ 703; الوسائل 10: 444 . أبواب الصوم المندوب ب14 ح11 .
- (4) صحيح البخاري 2 : 308 ح2010 .
(الصفحة 201)المبحث الثالث: الجماعة من العناوين القصديّة
قد عرفت أنّ الجماعة من العناوين القصدية التي لا تكاد تتحقق بدون القصد ، فلا يترتّب على صلاة جماعة الفضيلة المترتّبة شرعاً على صلاة الجماعة ، إلاّ مع نية المأمومين الاقتداء والائتمام ، ولا يكفي مجرّد المتابعة في الأفعال والحركات من دون نية الاقتداء ، وجعل الامام متبوعاً في مقام العبادة والخضوع والخشوع في مقابل المولى جلّ شأنه .
وأمّا الإمام فقد عرفت أنّه لا يحتاج إلى قصد الإمامة خلافاً لبعض العامّة(1) ، ولولا اتفاق أصحابنا الإمامية رضوان الله تعالى عليهم(2) الكاشف عن موافقة المعصوم(عليه السلام) ، لكان مقتضى الأصل عدم ترتّب فضيلة الجماعة وأحكامها إلاّ مع نية الإمام الإمامة أيضاً كما لا يخفى .
ثمّ إنّه استدلّ بعض الأعاظم من المعاصرين على وجوب نية الائتمام على المأموم وجوباً شرطياً بقوله(صلى الله عليه وآله) : «إنّما جعل الإمام إماماً ليؤتمّ به . . .»(3) ،(4) . نظراً إلى أنّ الائتمام لا يتحقّق بدون القصد .
- (1) و (2) راجع 3 : 195 .
- (3) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 447 .
- (4) صحيح البخاري 1: 190 ح688 و689; سنن ابن ماجة 1: 392 ب144; صحيح مسلم 4: 113 ح89; سنن أبي داود 1 : كتاب الصلاة: 164 ـ 165; ح603 ـ 605; سنن النسائي 2: 90 ح790; سنن الترمذي 1 : 376 ب150 .
(الصفحة 202)
هذا ، ولا يخفى أنّ هذا الحديث وإن كان مرويّاً في جميع الكتب «الصحاح الست» المعدّة لجمع الأحاديث المروية بطرقهم عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّ السند في جميعها ينتهي إلى أبي هريرة ، وهو الذي روى هذا الحديث ، نعم ، فيه اختلاف من حيث المتن ، لأنّ أبا داود رواه في سننه هكذا: «إنّما جعل الإمام إماماً ليؤتمّ به فإذا كبّر فكبِّروا ولا تكبّروا إلاّ بعد تكبيره ، وإذا ركع فاركعوا ، ولا تركعوا إلاّ بعد ركوعه ، وإذا كان الإمام يصلّي قاعداً فصلّوا قعوداً» .
وليس الجملتان الناهيتان في غير ما رواه أبو داود ، وعلى أيّ تقدير فقد عرفت أنّ راوي الحديث هو أبو هريرة ، وقد وقع إسلامه في السنة الثامنة من الهجرة النبوية إلى المدينة المشرّفة ، ومن الواضح كما عرفت أنّ تشريع الجماعة الحاصل بعمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان قبل وروده بالمدينة ، لأنّه في أيّام توقّفه بقبا قبل الورود إلى المدينة كان يصلّي فيها جماعة ، وبعد قدومه فيها استمرّ عمله(صلى الله عليه وآله)وعمل المسلمين على ذلك .
وحينئذ ، فكيف يمكن دعوى أنّ اعتبار نية الاقتداء قد ثبت بهذه الرواية التي صدرت على تقديره بعد مضيّ سنين متعدّدة من ورود النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة؟! . وهل يمكن الالتزام بأنّ المسلمين لم يكونوا قبل صدور هذه الرواية ملتزمين في جماعاتهم بنية الاقتداء والائتمام ، بل كان عملهم صادراً من دون نية؟! .
وبالجملة:
فالظاهر أنّ الرواية لم تكن مسوقة لبيان ذلك ، بل المراد بها لزوم متابعة الإمام عملا في التكبير والركوع وغيرهما ، فهي تدلّ على لزوم التكبير عقيب تكبيره من دون فصل وتأخير .
ويؤيّد ذلك الزيادة الواقعة فيما رواه أبو داود ، حيث إنّها ظاهرة في النهي عن التقدّم عن الإمام في التكبير والركوع ، وهو يناسب كون ما قبله دالاًّ على
(الصفحة 203)
النهي عن التأخّر عنه ، فمضمون الجملتين يرجع إلى لزوم متابعة الإمام في الأفعال دون تقدّم عليه ولا تأخّر عنه ، وأين هذا من مسألة نية الائتمام المعتبرة في تحقق الاقتداء .