(الصفحة 293)
هذا، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ اعتبار عدم الحائل إنّما هو لأجل التحفّظ على الوحدة التي بها تتقوّم الجماعة ، فتخصيص ذلك بالرجال فقط في غاية البعد . وإلى أنّ الرواية تشتمل على نفي البأس عن فصل الطريق مع كونه بحسب الغالب قدر ما لا يتخطّى .
اللّهم إلاّ أن يقال: إنّه لابدّ بملاحظة رواية الصدوق التي عرفت من حمل الطريق في هذه الرواية على الأقلّ ممّا لا يتخطّى من البعد والمسافة ، وأنّ التخصيص بالرجال مع كون اعتبار عدم الحائل لأجل حفظ الوحدة إنّما هو لأجل أنّ اجتماع النساء مع الرجال واختلاطهن بهم مشتمل على مفسدة عظيمة ، وهي التي لوحظت في الحكم بعدم قدح الحائل للنساء .
وكيف كان، فلا محيص عن موافقة الشيخ(رحمه الله)والحكم باختصاص النساء بعدم كون مثل الحائط مانعاً عن تحقق الجماعة بالنسبة إليهنّ .
الثالث من شرائط الجماعة : عدم علو الإمام على المأموم
من الأمور المعتبرة في الجماعة، عدم علو الإمام عن المأمومين في الجملة ، قال الشيخ في النهاية: ولا يجوز أن يكون الإمام على موضع مرتفع من الأرض ، مثل دكان أو سقف وما أشبه ذلك ، فإن كان أرضاً مستوياً لا بأس بوقوفه عليه ، وإن كان أعلى من موضع المأمومين بقليل ، ولا بأس للمأمومين أن يقفوا على موضع عال ، فيصلّوا خلف الإمام إذا كان الإمام أسفل منهم(1) ، انتهى .
ومستند هذا الحكم من طرق الإمامية حديث واحد مضطرب المتن ، رواه عمّار الساباطيّ الفطحي عن أبي عبدالله(عليه السلام) ، وأخرجه الكليني عن أحمد بن
(الصفحة 294)
إدريس وغيره ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أحمد بن الحسن بن عليّ ، عن عمرو بن سعيد ، عن مصدق ، عن عمّار . ورواه الصدوق بإسناده عنه ، والشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب الكليني .
ومتن الحديث هكذا: قال: سألته عن الرجل يصلّي بقوم وهم في موضع أسفل (في الفقيه: سئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن الإمام يصلّي وخلفه قوم أسفل) من موضعه الذي يصلّي فيه؟ فقال: «إن كان الإمام على شبه الدكّان ، أو على موضع أرفع من موضعهم لم تجز صلاتهم ، فإن كان (في الفقيه: وإن كان) أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقل إذا كان الارتفاع ببطن مسيل(1) فإن كان أرضاً مبسوطة (في الفقيه: وإن كانت الأرض مبسوطة) ، أو كان في موضع منها ارتفاع ، (في الفقيه: وكذلك متن التهذيب: وكان) فقام الإمام في الموضع المرتفع وقام من خلفه أسفل منه ، والأرض مبسوطة إلاّ انّهم في موضع منحدر؟ قال: لا بأس» ، (في الفقيه: إلاّ أنّها موضع منحدر فلا بأس به) .
قال: وسئل: فإن قام الإمام أسفل (في التهذيب: وإن كان الإمام في أسفل) من موضع من يصلّي خلفه؟ قال: «لا بأس . وقال: إن كان الرجل فوق بيت (في التهذيب سطح) أو غير ذلك دكّاناً كان أو غيره ، وكان الإمام يصلّي على الأرض أسفل منه جاز للرجل أن يصلّي خلفه ويقتدي بصلاته، وإن كان أرفع منه بشيء كثير(2)»(3) .
- (1) كما في نوع من النسخ ، وهو الموضع المنحدر لأجل جريان السيل ، وفي التهذيب: إذا كان الإرتفاع منهم بقدر شبر أو بقدر يسير كما في (خ ل ، منه) ، وفي الفقيه: إذا كان الارتفاع بقطع سيل وفي نسخة بقطع سئل .
- (2) في نسخة من التهذيب : بشيء يسير .
- (3) الكافي 3: 386 ح9; الفقيه 1 : 253 ح1146; التهذيب 3: 53 ح185; الوسائل 8 : 411 . أبواب الجماعة ب63 ح1 .
(الصفحة 295)
والكلام في هذه الرواية تارة يقع في سندها واُخرى فيما يستفاد من متنها مع كمال اضطرابه . أمّا السند فلا ينبغي الخدشة فيه ، لأنّ عمّاراً وإن كان من الفطحيّة القائلين بإمامة عبدالله الأفطح ـ الولد الأكبر للإمام الصادق(عليه السلام) ـ إلاّ أنّ الظاهر كونه من الثقات ، وكان كتابه الذي صنّفه في الفقه وجمع فيه الأحاديث المروية عن الصادق(عليه السلام) من أوّل الطهارة إلى آخر الديات مورداً لاعتماد الأصحاب ومرجعاً لهم .
وقوله بإمامة عبدالله الأفطح لا يقدح في ذلك ، لأنّ الفطحيّة لم يكونوا مخالفين للإمامية في الأحكام الفقهية والفروع العملية ، لأنّ إمامهم لم يبق بعد الصادق(عليه السلام)إلاّ قليلا ، ولم ينقل عنه في ذلك الزمان اليسير شيئاً يخالف ما ذهب إليه الإمامية في باب الفروع .
وكيف كان، فالظاهر حجّية مثل رواية عمّار ، لأنّ تخصيص الحجّية بالصحيح الأعلائي الذي هو عبارة عن الخبر الذي كان كلّ واحد من رواة سنده مذكّى بتذكية عدلين ، كما يقول به صاحب المدارك(1) يساوق القول بعدم حجّية شيء من أخبار الآحاد الموجودة في الجوامع التي بأيدينا ، لأنّه على تقدير تحقق التذكية من شخصين يحتاج إحراز عدالة كلّ واحد منهما إلى قيام البيّنة عليه ، إذ لا نعلم بها غالباً بل لا يتحقّق العلم بها إلاّ نادراً .
ومن الواضح عدم تحقق هذا المعنى بالنسبة إلى الرواة ، إذ غاية الأمر تحقق التعديل من الشيخ والنجاشي معاً وهو لا يحقّق الصحّة بالمعنى المذكور ، فالمناقشة في السند من هذه الجهة ممّا لا ينبغي ، كما أنّ طرح خصوص هذه الرواية ـ لأجل اضطراب متنها الناشئ من العمّار لكونه من الأعاجم بحسب الأصل ، أو من الرواة
- (1) مدارك الأحكام 4 : 320 .
(الصفحة 296)
عنه ـ لا وجه له ، لأنّ الاضطراب لا يوجب طرح الرواية رأساً ، بل غايته الاقتصار على القدر المتيقّن ممّا يستفاد منها .
فنقول في المقام:
لا خفاء في أنّه يستفاد من الرواية أنّه إن قام الإمام على شبه الدكّان أو السقف ، والمأمومون على الأرض لا تكون صلاتهم بمجزية ، ولا يخفى أنّ مثل الدكّان والسقف له ثلاث جهات:
الاُولى:
كونه مرتفعاً عن الأرض وعالياً عليها بالعلوّ الدفعي .
الثانية:
كونه مشتملا على البناء .
الثالثة:
كون ارتفاعه بحسب الغالب أزيد من إصبع بكثير .
لا إشكال في أنّ الجهة الثانية لا خصوصية لها بنظر العرف ، لأنّه لا يكاد يرى لها مدخلا في الحكم بعدم الجواز أو الأجزاء ، فلا ينبغي المناقشة في إلغائها ، وإنّه لو كان المكان المرتفع بالوجه المذكور غير مشتمل على البناء لا تكون صلاة المأمومين الواقفين على الأرض بمجزية أيضاً .
إنّما الإشكال في الجهتين الباقيتين ، فنقول: قوله(عليه السلام) : «فإن كان أرفع منهم بقدر اصبع أو أكثر أو أقلّ إذا كان الارتفاع ببطن مسيل . . .» ، الظاهر أنّه شرط وجزاؤه مع الشرطين الآخرين ، وهما قوله: «إذا كان الارتفاع ببطن مسيل» وقوله: «فإن كان أرضاً مبسوطة» هو قوله: «لا بأس» ، ولا مجال لجعل «إن» في هذه الجملة أعني قوله: «فإن كان أرفع منهم» وصليّة ، وإن كانت مبتدأة بالواو دون الفاء ، لأنّ مفادها يناقض الجملة الاُولى الدالّة على عدم جواز صلاة المأمومين مع كون الامام على شبه الدكّان .
فلابدّ من أن تكون جملة شرطية ، وجزاؤها ما يدلّ على عدم البأس ، ومحصّل هذه القضية الشرطية المركّبة من ثلاثة شروط وجزاء واحد ، إنّه إذا كانت هنا أرضاً منحدرة كبطن مسيل وقام الإمام في الموضع المرتفع والمأمومون في
(الصفحة 297)
أسفله ، وكان علوّ الإمام بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ فلا بأس بصلاتهم ، وأمّا لو كان الارتفاع والعلوّ الدفعي بهذا المقدار الذي يقرب الإصبع أو كان انحدار الأرض وارتفاعه وانخفاضه أزيد من ذلك المقدار ، فلا يستفاد حكم شيء منهما من الرواية .
نعم، لا يبعد دعوى أنّ العرف لا يكاد يرى لخصوصية الانحدار ، فيما إذا لم يكن ارتفاعه أزيد من أكثر من إصبع مدخلا في الحكم بعد البأس ، فإذا كان العلوّ بما يقرب الإصبع من المقدار غير قادح في تحقق الجماعة فيما إذا كانت الأرض منحدرة ، ففيما إذا لم تكن كذلك يكون هذا المقدار منه مغتفراً أيضاً .
هذا إنّما هو على تقدير كون الشرط الثاني: «إذا كان الإرتفاع ببطن مسيل» ، وأمّا على تقدير أن يكون الشرط: «إذا كان الإرتفاع بقدر شبر أو بقدر يسير» ، فالجملة تدلّ بنفسها على أنّ المقدار القريب من الإصبع لا بأس به ، وإن كان العلوّ دفعياً لا تدريجياً ، كما أنّه لا ينحصر ذلك بما إذا كان العلوّ بهذا المقدار من نفس الأرض ، أي غير مصنوع بفعل صانع ، فإذا كان العلوّ بمقدار يسير بفعل فاعل أوجد هذا العلوّ ، لا يكون ذلك بقادح أيضاً ، ولذا عرفت في عبارة الشيخ(قدس سره)(1) أنّه جعل المدار هي قلّة العلوّ من غير اعتبار الانحدار أصلا .
وكيف كان، فلا ينبغي بملاحظة الرواية الخدشة في أصل الحكم ، نعم ربما يناقش فيه نظراً إلى عدم ظهور قوله(عليه السلام): «لم تجز صلاتهم» في بطلانها ، أو إلى احتمال كون الصادر «لم تحسن صلاتهم» ، كما في محكيّ بعض نسخ الفقيه . هذا ، ولكنّ الظاهر خلاف ذلك ، لظهور «لم تجز صلاتهم» بملاحظة نظائره من الاستعمالات في البطلان والفساد ، واحتمال كون الصادر: «لم تحسن» لا أساس له ،