(الصفحة 167)
ولكنّها أيضاً ممنوعة ، لأنّها ناظرة إلى حكم آخر ، وهو تأكّد استحباب الأذان والإقامة لأوّلها وخصوص الإقامة لغيرها ممّا يؤتي به بعدها بلا فصل ، والأمر بالابتداء بأوّلهنّ إنّما هو توطئة للحكم المذكور بعده ، ولا دلالة له على لزوم ذلك ولعلّه وقع من باب المطابقة ، لما جرت به سيرة العرف غالباً من الابتداء في مقام امتثال الأمر بالقضاء بما فات أوّلا ، ثمّ الإتيان بما بعدها مرتّبة على حسب ترتيب الفوت كما لا يخفى .
وبالجملة:
دلالة هذه الفقرة من الرواية على لزوم مراعاة الترتيب بين الفوائت مبنيّة على كونها بصدد بيان حكمين:
أحدهما:
وجوب الابتداء بما فات أوّلا .
ثانيهما:
الأمر بالأذان والإقامة للفائتة المبتدأ بها وبخصوص الإقامة لما بعدها ، مع أنّ ظاهرها يأبى عن ذلك ، فإنّ الناظر المتأمّل فيها يقضي بعدم كونها إلاّ في مقام بيان الحكم الثاني .
والأمر بالابتداء بأوّل الفوائت إنّما وقع من باب المطابقة لعمل العرف وسيرتهم ، بناءً على أن يكون المراد بأوّلها هو الأول في مقام الفوت . هذا ، ويحتمل قويّاً أن يكون المراد به هو الأول في مقام العمل والإتيان بالفوائت المتعدّدة ، فلا يكون ذكره مجدياً إلاّ من باب التوطئة للحكم المذكور بعده .
هذا ، مضافاً إلى أنّه لو سلّم ظهور الرواية في الأمر بالابتداء بما فات أوّلا ، وأنّ هذا حكم مستقلّ تكون الرواية بصدد بيانه ، نقول: إنّ مقتضاها مجرّد لزوم الابتداء بما فات أوّلا ولا دلالة لها على لزوم مراعاة الترتيب بالنسبة إلى ما بعدها ، بحيث تكون الفائتة الثانية في مقام الفوت ثانية في مقام العمل أيضاً ، اللهمَّ إلاّ أن يتمسّك بعدم القول بالفصل أو بمفهوم الموافقة الراجع إلى إلغاء الخصوصية ، ضرورة أنّه لا خصوصية للاُولى من حيث لزوم الابتداء بها ، بل ذلك إنّما هو من جهة اشتراط
(الصفحة 168)
الإتيان بالفائتة السابقة في صحة الفائتة اللاحقة من دون فرق بين الاُولى وغيرها .
وكيف كان ، فالاستناد لإثبات مثل هذا الحكم إلى مثل هذه الرواية مع قصور دلالتها ممّا لا ينبغي أن يصدر من الفقيه ، خصوصاً بعد احتمال كون المقصود منها هو المقصود من رواية محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) المتقدّمة ، وقد عرفت ضعف دلالتها بمكان .
وخصوصاً بعد كون مقتضى مناسبة الحكم بالأذان والإقامة لاُولى الصلوات ، والإقامة لما بعدها ، هو كون الموضوع لذلك مطلق ما يؤتى به أوّلا ، سواء كان هو الأول عند الفوت أم لم يكن ، ولا ملائمة بين خصوص الأول في مقام الفوت وهذا الحكم أصلا .
ألا ترى أنّه لا يستفاد من الرواية استحباب الأذان والإقامة معاً لمن خالف الترتيب نسياناً وابتدأ بغير الأول عند الفوت ، ومن المعلوم خلافه . هذا ، ولكنّ الذي يمنعنا عن الفتوى بعدم اعتبار الترتيب على ما هو مقتضى الأصل بعد قصور الدليل ، هي الشهرة العظيمة المحقّقة بين المتأخّرين من الأصحاب رضوان الله عليهم .
فإنّك عرفت(1) أنّ المسألة وإن لم تكن مورداً لتعرّض القدماء ـ ما عدا السيّد في الجمل ، والقاضي في شرحه ـ إلاّ أنّ المتأخّرين المتعرّضين لها لم يناقشوا فيها ، بل قد ادعى الاجماع غير واحد منهم ، وحينئذ فالأحوط بل الأقوى لزوم مراعاة الترتيب بالنسبة إلى الفوائت وإن لم يكن معتبراً شرعاً في أدائها ، هذا كلّه بالنسبة إلى اعتبار أصل الترتيب في الجملة .
وأمّا اختصاص اعتباره بصورة العلم بالترتيب أو اطلاقه لصورة الجهل أيضاً
(الصفحة 169)
فهو محلّ خلاف بينهم ، والظاهر أنّ من تعرّض من القدماء لأصل مسألة الترتيب بين الفوائت كالسيّد المرتضى على ما مرّ(1) لم يتعرّض لفرض الجهل أصلا ، بل وقع التعرّض له في كلام المحقّق والعلاّمة وغيرهما من المتأخّرين ، وهم بين من خصّ اعتباره بصورة العلم كأكثر من اعتبر الترتيب ، وبين من كان ظاهر كلامه الاطلاق وعدم التقييد بصورة العلم ، وبين من تردّد في اعتباره في صورة الجهل ، كالمحقّق في المعتبر ، أو استوجه الإحتياط كالعلاّمة في التذكرة ، أو صرّح باعتباره فيها أيضاً ، كما حكي عن الشيخ الكبير كاشف الغطاء(قدس سره)(2) .
ثمّ إنّه قد استدلّ للقول بعدم اعتبار الترتيب مع الجهل به ، «تارة» بالأصل السالم عن معارضة الأدلّة السابقة الظاهرة في غيره ، و«اُخرى» باستلزام التكرار المحال أو الحرج في كثير من موارده المتمّم في غيرها ، بعدم القول بالفصل وموافقته لسهولة الملّة وسماحة الشريعة ، و«ثالثة» ، برفع القلم عن النسيان ، وأنّ الناس في سعة ما لم يعلموا .
وذكر في الجواهر: أنّ مراعاة الترتيب حال الجهل به مع أنّه أحوط في البراءة عمّا اشتغلت الذمّة به من الصلاة بيقين ، لا يخلو اعتبارها عن قوّة ، وناقش في أدلّة العدم ، بعدم صلاحيّة الأصل لمعارضة الأدلّة المتقدّمة الحاصلة بسبب استصحاب وجوبه ، وإطلاق الأدلّة السابقة من معاقد بعض الاجماعات والأخبار التي لا مدخليّة للعلم والجهل فيما يستفاد منها وعدم استلزام التكرار للمحال بل والحرج .
ضرورة كونه كمن فاته مقدار ذلك يقيناً الذي من المعلوم عدم سقوط القضاء
- (1) في 3 : 161 .
- (2) المعتبر 2: 405; التذكرة 2: 359; المنتهى 1: 421; تحرير الأحكام 1 : 51; إيضاح الفوائد 1: 147; الذكرى: 2 : 433 ـ 434; البيان : 152; روض الجنان: 360; الروضة البهيّة 1: 345; مدارك الاحكام 4: 296; ذخيرة المعاد: 385; كشف الغطاء : 270; جواهر الكلام 13: 25 .
(الصفحة 170)
عنه لمشقّته بكثرته ، على أنّه لو سلم الحرجية في الجملة فسبب ذلك بعض الأفراد أو أكثرها ، وأقصاه السقوط فيما يتحقّق الحرج به دون غيره ، كما هو ظاهر الأستاذ في كشف الغطاء في أوّل كلامه بل صريحه .
ودعوى الاجماع المركّب الذي هو حجّة في مثل هذه المسائل عهدتها على مدّعيها ، بل قد يقال بوجوب ترجيح إطلاق أدلّة المقام على دليل الحرج ، بناءً على قبوله لذلك ، كما أخرج عنه فيما لو كان مقدار هذا المكرّر معلوم الفوات ، بل قد يقال بعدم شمول دليل الحرج للمقام أصلا ، إذ المراد نفيه في الدين لا ما يوجبه العقل عند الاشتباه للمقدّمية ، انتهى(1) .
أقول:
المهم في المقام ملاحظة أنّ صدر رواية زرارة المتقدّمة الذي يكون دليلا منحصراً في هذا الباب هل يدلّ على إطلاق وجوب مراعاة الترتيب ، وأنّه لا يختص بالعالم بعد تسليم ظهوره في أصل اعتبار الترتيب في الجملة ، أو لا يدلّ على ذلك؟ ضرورة أنّه مع دلالته على ذلك لا مجال للتمسّك بالأصل ، وكذا بحديث: «إنّ الناس في سعة ما لم يعلموا»(2) .
نعم ، لو فرض استلزام التكرار للحرج في مورد يسقط الترتيب بالنسبة إلى ما يتحقّق به الحرج دون غيره ، لحكومة دليل الحرج على الأدلّة الدالّة على الأحكام بالعناوين الأولية ، كما قد حقّق في محلّه ، والقول بوجوب ترجيح إطلاق أدلّة المقام على دليل الحرج ناش من قلّة التأمّل ، وعدم رعاية النسب الواقعة بين الأدلّة ، والخلط بين التعارض والحكومة ، فهذا القول ممّا لا ينبغي توهّمه أصلا .
هذا ، وقبل التأمّل في دلالة صدر الرواية على الاطلاق وعدمه نلاحظ حال المسألة بحسب مقام الثبوت ونقول:
- (1) جواهر الكلام 13: 24 ـ 25 .
- (2) عوالي اللالئ 1: 424 ح109 .
(الصفحة 171)
القول باعتبار الترتيب في الفوائت ، بعضها بالنسبة إلى بعض ، قد يجتمع مع القول باعتباره في المسألة المتقدّمة ، وهي مسألة الحاضرة والفائتة ، وقد يجتمع مع القول بعدم دخالة الفائتة في صحة الحاضرة .
فعلى الأول: يكون مرجع هذا القول إلى أنّ الصلوات اليوميّة الواقعة في الأزمان المختلفة المتعاقبة المترتّبة ، كما أنّها متأخّرة تكويناً بعضها عن بعض ـ تبعاً لظروفها الزمانية التي يكون بعضها سابقاً على البعض الآخر ذاتاً وأصالةً ـ كذلك يكون هذا التأخر شرطاً شرعيّاً لصحة اللاحقة ، فصلاة الظهر كما أنّها مشروطة بوقوعها في الزمان الذي يتأخّر تكويناً عن الزمان الذي هو ظرف وقوع فريضة الصبح ، كذلك يكون تأخّرها عن فريضة الصبح شرطاً شرعيّاً لصحّتها ، بحيث لا يكاد يمكن أن تتحقّق بدونها .
وعلى الثاني: الذي يكون مرجعه إلى التفصيل بين المسألتين ، والقول بعدم اعتبار الترتيب بين الحاضرة والفائتة واعتباره بين الفوائت كما هو المعروف بين المتأخّرين ، يكون مرجع اعتبار الترتيب إلى عدم كون الصلاة المتقيّدة بالوقوع في الزمان المتأخّر مشروطة بوقوع الصلاة التي ظرفها الزمان المتقدّم وتحقّقها ، بل وصف الفوت له مدخلية في هذه الجهة ، وأنّ اجتماع الفوائت يوجب زيادة شرط على الشروط ، من دون أن يكون هذا الشرط معتبراً في غيرها .
وحينئذ نقول: اعتبار الترتيب عند الجهل أيضاً بناءً على الأول لا يحتاج إلى مؤونة كثيرة ، بل الظاهر على فرض ثبوت هذا القول ، إطلاق وجوب الترتيب وعدم اختصاصه بصورة العلم ، بحيث لو فرض قصور الدليل عن الشمول لصورة الجهل لكان مقتضى مفهوم الموافقة الذي هو عبارة اُخرى عن إلغاء الخصوصية ، تعميمه بحيث يشمل صورة الجهل أيضاً ، وذلك لأنّه بعدما علم العرف باشتراط صحة اللاحقة شرعاً بوقوع السابقة قبلها من جهة قيام الدليل ، لا يرى في ذلك